شهد الموقف المصري حيال الأوضاع في فلسطين لا سيما ما يتعلق بالاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على القدس وقطاع غزة تحولًا جوهريًا في منسوب حدة الخطاب الدبلوماسي، الذي ابتعد إلى حد ما عن الإدانات التقليدية العابرة إلى مستوى أكثر سخونة.
التزم رد الفعل الرسمي المصري بداية الأمر بالإطار الدبلوماسي المعهود طيلة السنوات الماضية، بدءًا من شجب أحداث حي الشيخ جراح بالقدس مرورًا بالانتهاكات الإسرائيلية بحق الأقصى ومرابطيه، وصولًا إلى قصف مناطق في قطاع غزة وسقوط عشرات الشهداء، لكن الساعات القليلة الماضية حملت مواقف ذات درجة حرارة مرتفعة نسبيًا على أكثر من مسار.
ولأول مرة منذ تولي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مقاليد الحكم في البلاد، تخرج تلك التصريحات الحادة بحق تل أبيب، مع الوضع في الاعتبار العلاقات الحميمية التي تربط بين النظامين في الآونة الأخيرة، والتنسيق التام حيال أكثر من ملف إقليمي ودولي، الأمر الذي أثار بعض التكهنات عن دوافع تغير الموقف المصري وما الرسائل التي تبعث بها القاهرة من وراء هذا الموقف المتغير.
تغير في الخطاب الدبلوماسي
العديد من المؤشرات كشفت تغيرًا واضحًا في خطاب الخارجية المصرية حيال ما يحدث في غزة، البداية كانت بنقل التليفزيون الرسمي للدولة خطبة الجمعة الماضية 14 من مايو/أيار الحاليّ من الجامع الأزهر، التي دعا خلالها الدكتور أحمد عمر هاشم (خطيب الجمعة) لنصرة فلسطين ووصف الاعتداءات الإسرائيلية بالجرائم ضد الإنسانية، بجانب مناشدته للدول العربية والإسلامية بتدشين تحالف لدعم الفلسطينيين في مواجهة الصهيونية.
ما كان يمكن للخطيب أن يتفوه بما قال ولا للتليفزيون الرسمي أن ينقل خطبة كهذه دون موافقة الجهات السيادية، وهو ما يعكس تطابق موقف الدولة مع كل كلمة قيلت في الخطبة، الأمر تأكد بصورة أوضح مع استخدام بعض السياسيين والإعلاميين والفنانيين المقربين من النظام خطابًا حادًا تجاه الاعتداءات الإسرائيلية، كما هو حال النائب مصطفى بكري والإعلامي أحمد موسى.
الأمر انتقل من نطاق القوة الناعمة التي اعتاد النظام توظيفها لأهداف خاصة به، إلى الخطاب المباشر على لسان وزير الخارجية سامح شكري، الذي وصف ما تمارسه “إسرائيل” ضد الفلسطينيين بـ”الاعتداءات التي يجب توقفها فورًا”، لافتًا إلى أن “مصر لا ترى سبيلًا لتحقيق الأمن والسلام في منطقتنا، إلا عبر نيل الشعب الفلسطيني لحقوقه المشروعة واستقلال دولته على خطوط الـ4 من يونيو/حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية”.
غزه تدفع ثمن العزه ، غزه تتعرض للموت علي يد القتلة الصهاينه ، غزه صامده ، لكن أين العالم ، أين حقوق الإنسان في الأمن والحياه ، إنها حرب إباده ، حتما لن تنساها أجيالنا
— مصطفى بكري (@BakryMP) May 16, 2021
شكري في بيانه الذي ألقاه أمام الجلسة العلنية لمجلس الأمن لمناقشة الوضع في الشرق الأوسط، (الأحد 16 من مايو/أيار 2021) أضاف “إذ نجتمع في أعقاب شهر رمضان الكريم الذي شهدنا على امتداده احتكاكات واستفزازات لا مثيل لها بالمصلين من أهل القدس في المسجد الأقصى المبارك، بالتوازي مع عملية تهجير، ضمن سياسة ممنهجة، لعدد من السكان العرب بحي الشيخ جراح بالقدس الشرقية، مما أغضب الملايين من العرب والمسلمين الذين ضاقوا على مدى العقود الثلاثة الماضية مما بدا تغييبًا وتسويفًا لا نهائيًا لوعود وتعهدات دولية ذات طابع قانوني بالتفاوض الجاد حول إنشاء دولة فلسطينية على الأراضي التي تم احتلالها عام 1967 والتي تشمل القدس الشرقية”.
وعلى المستوى الميداني فقد أرسلت وزارة الصحة المصرية عددًا من سيارات الإسعاف والإمدادات الطبية لأهالي القطاع عبر معبر رفح الحدودي، هذا بخلاف ما أثير في وسائل الإعلام بشأن نقل المصابين الفلسطينيين إلى المستشفيات المصرية، فضلًا عن فتح معبر رفح أمام الفلسطينيين لدخول الحدود المصرية.
ولأول مرة منذ سنوات طوال، يظهر مسؤول مصري على شاشة قناة “الجزيرة” للحديث عن الأوضاع في الداخل الفلسطيني، في مؤشر يعكس رغبة السلطات المصرية في توصيل عدة رسائل في آن واحد، إذ أجرى المتحدث باسم الخارجية المصرية أحمد حافظ لقاءً مع القناة القطرية التي كانت محل انتقاد وهجوم مستمر من الآلة الإعلامية المصرية.
وأكد حافظ في لقائه أن “الأحداث الأخيرة والتفاعل معها رسميًا وشعبيًا على مستوى المنطقة وخارجها أيضًا، فضلًا عن أنه يثبت أهمية التوصل لحل سياسي شامل، يثبت أيضًا أن القضية الفلسطينية لا تزال قضية العرب الأولى وتمثل ركيزة الاستقرار الرئيسية في المنطقة”، ملمحًا إلى تواصل مصري مع الأطراف الإقليمية والدولية المعنية للوصول إلى حل سريع لوقف إطلاق النار.
استجابة للرأي العام
مقربون من دوائر صنع القرار في مصر أشاروا إلى أن التحرك المصري جاء استجابة للرأي العام الغاضب والمشتعل حيال الانتهاكات الإسرائيلية بحق الأشقاء الفلسطينيين، خاصة في ظل تخلي مصر عن دورها التاريخي حيال القضية العربية الأم طيلة السنوات الماضية.
الرأي العام الغاضب داخليًا، والمتناغم مع الرأي العام العربي والإقليمي المشتعل مؤخرًا بسبب موجة التطبيع الأخيرة، الذي يربط بين تلك الموجة والانتهاكات الإسرائيلية، كان الدافع الأبرز وراء تغير القاهرة خطابها السياسي مع تل أبيب رغم العلاقات القوية بين النظامين، كما ذهب خبراء.
مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، السفير حسام هريدي، يعتبر التطور الملحوظ في الموقف المصري استجابة حكومية لتطلعات الشعب في إطار دبلوماسي، لافتًا إلى ضرورة أن تستوعب الحكومة الإسرائيلية تلك الرسالة التي تؤكد وقوف مصر الدائم مع نضال الشعب الفلسطيني، بحسب تصريحاته لـ”الجزيرة“.
الرأي ذاته ذهب إليه الدبلوماسي المصري السابق، السفير معصوم مرزوق، الذي أرجع التغير الذي شاب الخطاب المصري إلى توحد الجبهات الفلسطينية بالداخل، وهو ما فرض التزامات جديدة على مصر والدول العربية بصفة عامة، مضيفًا أن “هناك تحفظات مصرية منذ سنوات على حركة حماس وسلوكها، لكن الموضوع الآن أكبر من حماس، ما يحدث الآن من عدوان إسرائيلي وحد الفلسطينيين داخل وخارج الخط الأخضر، وأصبحوا كتلة واحدة في مقاومة ذلك العدوان”.
تساؤلات عن صمت السيسي
أثارت اللغة الحادة في خطاب وزير الخارجية المصري، سواء خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب أم الجلسة العلنية لمجلس الأمن، إعجاب الشارع المصري بصورة كبيرة، لكن في الوقت ذاته كان التساؤل الأبرز عن غياب الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي التزم الصمت حيال ما يحدث.
عدة مناسبات ظهر فيها الرئيس المصري تزامنًا مع الاعتداءات الإسرائيلية، أبرزها بيان التهنئة بعيد الفطر، بخلاف ظهوره خلال حفل افتتاح مشروعات قومية جديدة فى محافظة الإسماعيلية قبل 6 أيام، ورغم ذلك لم يشر إلى القضية الفلسطينية وما يحدث في غزة أو اقتحام الأقصى.
ترك منصات التواصل الاجتماعي ورموز القوى الناعمة، السياسية والدينية والفنية والرياضية، ومؤخرًا وزير الخارجية، للتعبير عن الرفض المصري لما يحدث في فلسطين، وإفراد مساحات إعلامية وسياسية لهم، في مقابل صمت السيسي وهو رئيس الدولة، بجانب تغييب مجلس النواب (البرلمان) يحمل الكثير من الدلالات.
الإيحاء بوجود تغيرات جوهرية في الموقف الرسمي حيال القضية الفلسطينية والتصعيد مع الكيان المحتل عبر أدوات في معظمها غير رسمية، وبصورة لا تُحسب على النظام سياسيًا فيما بعد، يترك الباب مفتوحًا إلى حد ما أمام السلطات المصرية لتوجيه العديد من الرسائل للقوى الكبرى، ممسكة للعصا من المنتصف، كما هو الحال حيال أكثر من ملف، من بينها “سد النهضة” فيما يتعلق بالحديث عن الخيار العسكري.
الضغط على الإدارة الأمريكية
يبدو أن الموقف المصري الحاليّ وما اعتراه من تطورات، تجاوز فكرة القضية الفلسطينية إلى ما هو أبعد من ذلك، فالإدارة الأمريكية الجديدة كانت على رادار السلطات المصرية في توجهاتها الأخيرة، فالتصعيد الدبلوماسي تجاه تل أبيب ودعم المقاومة الفلسطينية رغم الخلافات الأيديولوجية مع حماس وبقية الفصائل يحمل رسالة مباشرة إلى جو بايدن وفريقه.
المتابع لمسار العلاقات الأمريكية المصرية منذ تنصيب بايدن يجد أن هناك فجوةً كبيرةً، سواء فيما يتعلق بمسار الملفات المشتركة أم مستوى التواصل، فالإدارة الجديدة اقتصرت في تعاملها مع الجانب المصري من خلال وزير الخارجية أو مبعوثيه، فيما غاب السيسي تمامًا عن هذا الإطار وهو ما أزعج القاهرة.
ويلاحظ أن بايدن ونائبته كامالا هاريس لم يخاطبا السيسي، كتابة أو مهاتفة، منذ توليهما مقاليد الأمور، مقارنة بالرئيس السابق دونالد ترامب، الذي هاتف نظيره المصري بعد أيام قليلة من توليه السلطة، فيما تعززت العلاقات بين الرئيسين بصورة لم يشهدها أي رئيس سابق.
البعض ذهب إلى أن التغير الذي طرأ على الموقف المصري كان من بين أولوياته ودوافعه الضغط على الإدارة الأمريكية الجديدة بما يجبرها على رفع حجم التواصل مع القاهرة إلى مستوى رئيس الدولة، بما يدعم ثقل السيسي السياسي ويذيب جليد العلاقات بين البلدين بما يدعم أجندة الرئيس المصري المحلية والإقليمية.
استعادة مصر للكثير من أوراق اللعبة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية يعزز من حضورها الإقليمي بما يمثل ضغطًا على حلفاء “إسرائيل” في المنطقة، وفي المقدمة منهم أمريكا وأوروبا، ما يمكن أن يتم توظيفه في تخفيف الانتقادات الموجهة للسيسي بشأن العديد من الملفات أبرزها ملف الحقوق والحريات الذي بات يمثل صداعًا مزمنًا في رأس النظام المصري.
سد النهضة.. الغائب الحاضر
دخول مصر كطرف أساسي في الصراع الدائر الآن في غزة والقدس، ودعمها الدبلوماسي للمقاومة (رغم التحفظات السابقة) في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، لا شك أنه يمثل ورقة ضغط كبيرة على تل أبيب في دعمها المطلق لحكومة آبي أحمد الإثيوبية في مشروعها القومي “سد النهضة” الذي يهدد مستقبل الأمن المائي لملايين المصريين.
التمدد الإسرائيلي الأخير، الذي كان أحد أسبابه هرولة بعض الدول العربية للتطبيع مع المحتل، أثار قلق الجانب المصري بصورة كبيرة، لا سيما ما يتعلق بتوسيع رقعة الوجود في القرن الإفريقي وتعاظم العلاقات مع أديس أبابا، الأمر الذي كان لا بد من التصدي له بصورة لا تؤثر كثيرًا على منسوب العلاقات المصرية الإسرائيلية التي لا يرغب أي من النظامين الحاكمين في البلدين في توتيرها.
وجاء التصعيد الأخير في فلسطين على طبق من ذهب للإدارة المصرية التي وجدت في هذا الملف فرصتها لتحقيق أكثر من هدف في نفس الوقت، أولها استعادة الشعبية الداخلية التي تأثرت بالفشل في إدارة ملف سد النهضة من خلال إحياء الدور المصري فلسطينيًا، وهو ما تحقق بصورة نسبية بحسب ردود الفعل على منصات التواصل الاجتماعي.
ثم الضغط على تل أبيب – عبر الورقة الفلسطينية – لإجبارها على حث حليفها الإثيوبي للتخلي عن تعنته فيما يتعلق بمسار مفاوضات السد، وينسحب الأمر كذلك على الإدارة الأمريكية التي تميل بحسب خبراء إلى دعم عملية الملء الثاني للسد، بحسب تصريحات مسؤوليها الرسمية، وهو ما ترفضه القاهرة.
وفي المحصلة.. فإن التغير الملحوظ في الموقف المصري حيال الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة، رغم ما يحمله من تطور إيجابي يخدم القضية الفلسطينية إلى حد ما، لكنه يعكس الكثير من المخاوف، كونه تغيرًا متعدد الأهداف والدوافع، ما يجعل من استمراره وثباته محل شك، سواء لدى الشارع الفلسطيني أم المهتمين بالشأن العروبي.