وضع التعاطف الإقليمي والدولي مع الفلسطينيين في حربهم الوجودية ضد الكيان المحتل، حكام الإمارات في وضع حرج للغاية، لا سيما بعد الموقف الباهت والمتخاذل بل المتواطئ للدولة الخليجية إزاء الانتهاكات الإسرائيلية الممارسة بحق الشعب العربي في القدس وغزة التي أسفرت عن سقوط عشرات الشهداء ومئات المصابين.
الدعم الذي لاقته الهبة الفلسطينية من شتى شعوب العالم، المتمثل في عشرات التظاهرات التي شهدتها العديد من العواصم الأوروبية والغربية وأمريكا وهولندا وكندا وبريطانيا وفرنسا، فضلًا عن الوقفات التي قامت بها شعوب عربية كما هو الحال في الأردن ولبنان وتونس والمغرب، أثار الكثير من التساؤلات عن الغياب الرسمي والشعبي لأبو ظبي.
الشعارات التي رفعها أبناء زايد لتبرير إبرام اتفاق التطبيع مع “إسرائيل” منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، المتعلقة بدعم القضية الفلسطينية واسترداد حقوق الشعب الفلسطيني، سقطت بشكل كامل أمام الاعتداءات العنصرية لقوات الاحتلال بحق أهالي حي الشيخ جراح والمرابطين في الأقصى.
وبينما كان البعض يترقب موقفًا إماراتيًا رسميًا ينتصر للشعارات المرفوعة لتغطية خطوة التطبيع، وبدلًا من استغلال السلطات الحاكمة هناك لعلاقاتها الحميمية مع حكومة بنيامين نتنياهو، إذ باللجان الإلكترونية ووسائل الإعلام الإماراتية تحول المعركة ناحية المقاومة وتحديدًا حركة “حماس”، وفي أحيان كثيرة صوب القضية الفلسطينية برمتها، بحجة أن “الإمارات قضيتي”.
الخطاب السياسي والإعلامي الإماراتي، الرسمي والشعبي – الذي تطابق بشكل كبير مع الخطاب الإسرائيلي – اعتمد على شخصنة القضية وتحميل المقاومة مسؤولية تفاقم الأوضاع، في محاولة لتبرئة ساحة المحتل من الجرائم العنصرية المرتكبة بحق الفلسطينيين، على أمل غض الرأي العام العربي الطرف عن التخاذل الفج والرضوخ القميء لمخطط الاستيطان والتهويد الإسرائيلي.. فهل تنجح خطة الإمارات في تجميل صورتها المشوهة فلسطينيًا؟
سقوط الأقنعة المزيفة
منذ خروج مسار التطبيع الإماراتي مع “إسرائيل” للعلن بعد سنوات من السرية، حرص الإعلام الإماراتي، المحلي أو الخارجي الممول من أبو ظبي، على العزف على وتر “المصالح الفلسطينية” المفترض تحقيقها من وراء هذه الخطوة، وكأن حكام الدولة الخليجية غامروا بسمعتهم السياسية لأجل الفلسطينيين وقضيتهم التي يرى الإماراتيون أنها لن تتقدم إلا بالتطبيع مع المحتل.
وتحول ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، بنظر جماعته وأبواقه، إلى بطل عروبي وأيقونة للقضية الفلسطينية في ساعات معدودة بعد انطلاق تلك الحملة التي أريد لها أن تدغدغ مشاعر العرب لا سيما الفلسطينيين، في انتظار المكاسب المحققة من وراء هذا الاتفاق، لكن سرعان ما تكشفت الفضيحة.
نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال وخلال أيام التوقيع على الاتفاق قبل 7 أشهر فند أكثر من مرة مزاعم أبناء زايد بشأن دعم حقوق الفلسطينيين ووقف ضم أراضي الضفة وتحجيم المد الاستيطاني، لكن الموالين للدولة النفطية وقتها فسروا تلك التصريحات البنيامينية بأنها “تصريحات سياسية دعائية” يتسهدف بها رئيس الحكومة المأزوم مغازلة الداخل، أما الاتفاق ذاته فقد تضمن ما عزف عليه الإماراتيون.
ومع مرور الوقت تبين للجميع أن المزاعم الإماراتية لا تعدو كونها تسكينًا للشارع الغاضب من موجة التطبيع المجاني، لا سيما بعدما باتت “إسرائيل” الرابح الأكبر من هذه الصفقة التي كان لها صداها القوي في عبور حكومة نتنياهو للكثير من الأزمات السياسية والاقتصادية.
في تقرير سابق لـ”نون بوست” كان قد كشف مشاركة الإمارات تحديدًا في تعزيز الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينين، من خلال فتح أبوابها وخزائنها أمام الإسرائيليين لتقوية مكانتهم الاقتصادية والسياسية، وسواء كانت تلك المشاركة بقصد أم دون قصد فالنتيجة واحدة، طمأنة عبرية كاملة لغياب رد الفعل العربي أو على الأقل عدم وجود الزخم الإعلامي المعهود الذي كان يمثل – أحيانًا – عائقًا أمام توسيع المحتل لرقعة جرائمه وانتهاكاته المستمرة.
شيطنة المقاومة.. الهروب للأمام
لم تتطرق التصريحات الصادرة عن مسؤولي الدولة الخليجية بشأن الاعتداءات الإسرائيلية أي إدانة واضحة للانتهاكات المرتكبة، فقد جاءت بصيغة دبلوماسية باهتة تساوي بين الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، في المسؤولية، هذا بخلاف أنها جاءت متأخرة جدًا مقارنة بمواقف الدول العربية والإقليمية الأخرى.
ابن زايد وفي تصريح له خلال استقباله رئيس مجلس الوزراء الأردني بشر الخصاونة، الإثنين 10 من مايو/أيار الحاليّ أشار إلى “أهمية إنهاء الاعتداءات والممارسات التي تؤدي إلى استمرار حالة من التوتر والاحتقان في المدينة المقدسة ووقف أي ممارسات تنتهك حرمة المسجد الأقصى المبارك” دون تحميل تل أبيب مسؤولية تفاقم الأوضاع.
وزير الدولة الإماراتي خليفة شاهين المرر، حرص هو الآخر في بيانه الرسمي على استخدام لغة دبلوماسية هادئة مع “إسرائيل”، مؤكدًا “ضرورة الحفاظ على الهوية التاريخية للقدس المحتلة والتهدئة وممارسة أقصى درجات ضبط النفس لتجنب انجراف المنطقة إلى مستويات جديدة من عدم الاستقرار وتهديد السلم”.
السلطات الإماراتية بدورها أطلقت العنان لمسؤوليها الحاليّين والسابقيين، وعدد من رموز القوى الناعمة من رجال الدين لديها، بشن حملة ممنهجة لتشويه المقاومة، ممثلة في حركة حماس، في محاولة للتغطية على الانتصارات التي حققتها ميدانيًا على القوات الإسرائيلية.
فها هو نائب رئيس شرطة دبي الأسبق، ضاحي خلفان تميم، يغرد عشرات التغريدات عبر حسابه على “تويتر” يشيطن فيها حماس مثل “انتفاضة المقدسيين.. خربها هنية وخالد مشعل.. بدل ما يقف الرأي العام العالمي مساندًا لهم.. يقف الآن مهاجمًا لحماس وصواريخها.. وهذا دور حماس قلب القضية لصالح “إسرائيل” صنعت كتنظيم له هذا الدور”.
عندما اجمع الفلسطينيون على فتح كممثل شرعي وحيد للقضية الفلسطينية..شرعت اسرائيل في صناعة خازوق اسمه حماس. (من صديق فلسطيني قديم .. مستقل اخبرني بها قبل سنوات) وقد صدق
— ضاحي خلفان تميم (@Dhahi_Khalfan) May 16, 2021
وفي تغريدة أخرى يعلنها صراحة أن “أخطر رجلين على العرب اليوم قبل غد.. خالد مشعل وإسماعيل هنية.. لصوص قضية”، ليؤكد أنه “لو قابلت إسماعيل هنية وجهًا لوجه لضربته كفًا.. مختتمًا وابل الهجوم بأن “جماعة حماس جماعة لا تخذل الشعب الفلسطيني فقط لكنها تخذل الأمة”.
من جانبه مارس الداعية الإماراتي، وسيم يوسف، هوايته المفضلة في الهجوم على حركة حماس والقتال من أجل الزود عن وجهة نظر أبناء زايد، مؤيدًا استهداف القوات الإسرائيلية لأهالي قطاع غزة، متهمًا المقاومة بإطلاق الصواريخ من مساكن ومنازل الناس، وأنها حولت غزة إلى “مقبرة للأبرياء”.
الداعية الحاصل على الجنسية الإماراتية تقديرًا لدعمه المتواصل لابن زايد، يقول: “حماس تتباكى لطلب نجدة العرب والمسلمين بعد أن يأتيها الرد الإسرائيلي على الصواريخ التي تطلقها”، واصفًا المنتسبين لها بأنهم “خونة ومنهج خائن.. خانوا العرب وقاموا بالاغتيالات ضد إخوانهم العرب”.
وبالتوازي.. حرص الإعلام الإماراتي، سواء في الداخل أم الممول خارجيًا، على السير في الاتجاه ذاته، شيطنة المقاومة وإلصاق تهم الخيانة بها، في محاولة للتقليل مما حققته تلك الحركات من إيقاع خسائر بالجملة في صفوف الجانب الإسرائيلي.
#اسرائيل أشعلت الفتيل في قضية #حي_الشيخ_الجراح و #حماس أشعلت الفتيل في الصواريخ
الضحية الأبرياء!
يجب أن نكون عقلاء فإن سفك الدماء خطير والدم يجر دم، وأهل #غزة للأسف ضحية لـ #حماس
أسأل الله أن يحقن دماء الجميع و أن يعم السلام، فالدمار لا مستفيد له إلا تجار الموت.
— Dr. Waseem Yousef (@waseem_yousef) May 13, 2021
العداء الفج
لا يجد الإماراتيون حرجًا في المجاهرة بعدائهم لحركات المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس، رغم العلاقات الجيدة التي كانت تتمتع بها إبان فترة الراحل الشيخ زايد بن سلطان، الذي كان أبرز الداعمين لحقوق الشعب الفلسطيني والمقاومة في التصدي للانتهاكات الإسرائيلية المستمرة.
ومع تولي محمد بن زايد مقاليد الأمور تغيرت المعادلة، فبات العداء للمقاومة هو الأساس، واستهدافها العقيدة الأبرز في توجهات الرجل الخارجية، وبينما كانت سلطات الاحتلال تداهن الحركة لأبعاد سياسية بين الحين والآخر، كان أبناء زايد يصرون على العداء والاستهداف على طول الخط.
وفي الوقت الذي كان يرفع فيه الإماراتيون شعارات دعم القضية الفلسطينية كانت السلطات تتفنن في قتل المقاومة من خلال تجفيف مصادر تمويلها، بوقف إرسال المساعدات التي كانت تقدمها المؤسسات الأهلية الخيرية، هذا بخلاف الضغط لوقف أي مساعدات خارجية من بلدان أخرى.
العداء تجاوز فكرة منع الدعم إلى الضغوط الدبلوماسية لتصنيف الحركة كـ”جماعة إرهابية” وهو ما حدث بالفعل بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006 وتشكيلها للحكومة، فقد سارعت أبو ظبي لتوظيف نفوذها السياسي والمالي لدفع واشنطن لاتخاذ هذه الخطوة.
الفجر في الخصومة الإماراتية بلغ مداه عام 2009 حين اغتال جهاز الموساد الإسرائيلي، القيادي في كتائب القسام الجناح العسكري للحركة، محمود المبحوح، في أحد فنادق دبي، في يناير/كانون الثاني من نفس العام، وقتها رفضت السلطات الإماراتية الموافقة على طلب الحركة للمشاركة في التحقيق، فيما كشفت بعض التقارير ضلوع الاستخبارات الإماراتية في عملية الاغتيال.
نبارك للأمة الإسلامية و العربية على خروج رئيس المقاومة الفلسطينية إسماعيل هنية من فندقه على سياره مرسيدس موديل السنه رافع علامة النصر وسط التكبيرات
وأهلنا و أحبابنا في فلسطين تدك رؤوسهم بالصواريخ
ادعوا للمستضعفين في فلسطين وعلى المتاجرين بقضيتهم وعلى قوات الاحتلال #حماس_الإرهابية pic.twitter.com/mNptrYIEUi
— محمد أحمد الملا (@Mohdalmulla67) May 16, 2021
ارتأت الإمارات أن تنحاز بشكل علني للموقف الإسرائيلي فيما يتعلق بالتوجه العام إزاء المقاومة، فأفردت الصحف الإسرائيلية العديد من المقالات لسفير أبو ظبي لدى واشنطن، يوسف العتيبة، التي هاجم فيها حماس وبقية الفصائل الفلسطينية، الأمر الذي فُسر وقتها على أنه دعم رسمي مباشر لدولة الاحتلال في مواجهة الشعب الفلسطيني.
وبينما يتفنن الإماراتيون في تشويه صورة المقاومة لتبرئة تخاذلهم الرسمي لدعم الفلسطينيين، إذ بشعبية الفصائل تتصاعد بشكل لم يحدث منذ 2006، فالأمر تجاوز النطاق الداخلي لقطاع غزة إلى الشارع العربي الذي أفصح عن دعمه الكامل للمقاومة من خلال منصات التواصل الاجتماعي.
وأمام المد الشعبي الجارف دعمًا للمقاومة وجد الإماراتيون أنفسهم في خندق واحد مع المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، الذي باتت تغريدات ضاحي خلفان ووسيم يوسف مرجعيته المستمرة في دغدغة مشاعر العرب عبر الهجوم على المقاومة وتشويه الانتصارات المتتالية.
عذر أقبح من ذنب.. فبينما يحاول أبناء زايد التغطية على تخليهم عن القضية الفلسطينية ومشاركة الحليف الإسرائيلي في تنفيذ مخططه الاستيطاني، إذ بهم يقعون في فخ جديد، يضاف إلى سجلهم الأسود عربيًا، ويفضح أجندتهم الإقليمية التي تضرب بالمرتكزات القومية والعربية والإسلامية وحتى الإنسانية عرض الحائط.. فهل تنجح المقاومة في إسقاط اتفاق أبراهام من خلال زيادة الضغط على أبو ظبي؟