حين اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، دعا وزير الحرب حينها إيهود باراك، ورئيس أركان جيش الاحتلال موشيه يعالون، إلى تفعيل ما سمّياه “كيّ الوعي الفلسطيني”.
وهو المصطلح الذي استخدم وقتها لأول مرة في الصراع العربي الإسرائيلي، ويشير إلى توجيه ضربات موجعة تدفع الفلسطينيين إلى الإقرار بالعجز أمام القوة الإسرائيلية الغاشمة، وتجبرهم على الاستسلام والرضا بالأمر الواقع.
أصاب المصطلح الكثير من المراقبين آنذاك بالذهول، فهو ينطوي على وحشية مفرطة في التعامل مع الفلسطينيين، وإحساس فج بالعنصرية المقيتة، وتقديس جرائم الحرب كأداة ضرورية لتقليم أظافر أصحاب الأرض حتى يكفوا عن المطالبة بحقوقهم التاريخية، ويرضخون للحاكم القوي الجديد دون اعتراض أو تذمر.
وعلى مدار الـ 20 عامًا الماضية، نجحت الآلة العسكرية الصهيونية في ترسيخ دلالات هذا المصطلح بين الحين والآخر، رغم كسر جداره عبر ثقوب متباينة من قبل المقاومة الفلسطينية، غير أن المشهد في صورته النهائية كان دافعًا لتقديم المزيد من التنازلات -إكراهًا- عامًا تلو الآخر.
لكن الوضع تغير خلال الأيام الماضية، فالنجاح الذي حققته المقاومة وما يحمله من دلالات سياسية واجتماعية وفكرية، دفع البعض إلى استخراج هذا المصطلح سيئ السمعة من على الأرفف مرة أخرى، وإعادة تقييمه في ضوء المتغيرات التي تشهدها الساحة الفلسطينية حاليًّا.
غزة.. تطور نوعي
قدم الفلسطينيون خلال الأيام الماضية، بداية من شهر رمضان وحتى كتابة هذه السطور، ملحمة أسطورية في الزود عن قضيتهم وترابهم، كسروا خلالها عنجهية الكيان المغتصب، المستمدة منذ سنوات من التخاذل والرضوخ لإملاءات وشروط مجحفة، قَبِلها أصحاب الأرض عنوة بسياسة الأمر الواقع.
من باب العامود إلى المسجد الأقصى ثم الشيخ جرّاح وبعده قطاع غزة المحاصر، استطاع الفلسطينيون وفصائل المقاومة أن يثبتوا للعدو أن القضية لم تمت بعد، وأن النضال لا يزال حيًّا في الروح قبل الجسد، وأن معين التصدي والدفاع عن الأرض لم ولن ينضب مهما كانت التحديات.
صواريخ المقاومة التي أمطرت سماء تل أبيب وعسقلان وغيرها من البلدان المحتلة، أحيت القضية في نفوس الفلسطينيين تحديدًا والعرب على وجه العموم، بعد سنوات من تلقي الضربات الموجعة دون ردود تتناسب وحجم تلك الضربات، لكن سرعان ما تغيرت المعادلة.
وقد أسفرت الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة المحاصر عن سقوط 212 شهيدًا، بينهم 61 طفلًا، و36 سيدة، و16 مسنًّا، و1400 مصاب بجراح متفاوتة.
فيما كبدت صواريخ المقاومة الجانب الإسرائيلي العديد من الخسائر، 10 قتلى حتى اليوم -بينهم ضابط- وإصابة أكثر من 700 آخرين بجروح، بجانب أضرار لحقت بقرابة 100 مبنى، وتدمير عشرات المركبات، فضلًا عن توقف مطار بن غوريون الدولي.
تذهب التقديرات إلى أن الخسائر التي تكبدها الإسرائيليون خلال الأيام الأربعة الأولى لصواريخ المقاومة تجاوزت 500 مليون دولار، ومن المتوقع أن تكون أضعاف الخسائر التي تكبدها الاقتصاد خلال عملية “الرصاص المصبوب” عام 2014، والتي امتدت قرابة 51 يومًا من القتال.
يحذر الإعلام العبري من الكلفة العالية لهجمات المقاومة، لافتًا إلى أنها ستمثل ضغطًا كبيرًا على الكيان الذي يواجه أزمات اقتصادية طاحنة بسبب تداعيات فيروس كورونا المستجد، بجانب أزمات أخرى سياسية جراء فشل بنيامين نتنياهو في تشكيل الحكومة فضلًا عن تهم الفساد التي تلاحقه وأعضاء الليكود.
الوعي الفلسطيني يكسر قيوده
رغم المكاسب الرمزية التي حققتها المقاومة خلال الأيام الثمانية الماضية، فضلًا عن حالة الزخم التي شهدتها القضية طيلة الشهر الأخير، إلا أن المكسب الأبرز حضورًا يتمثل في عودة الوعي الفلسطيني مجددًا بعد غياب دام طويلًا، ذلك الوعي الذي ظل حبيس التهميش والإقصاء والتسطيح المتعمد لعدة سنوات.
يحيا الفلسطينيون هذه الأيام حالة من إعادة تشكيل الوعي بصورة مختلفة، وعي بالقضية وأهدافها، وعي بهوية العدو ومخططاته، وعي بقدرات الشعب الفلسطيني وإمكاناته، وعي بحقيقة وحجم التحديات والعقبات، وعي بخارطة الحلفاء والأعداء بعد سقوط الأقنعة عن الكثير.
ومن بين مؤشرات عودة هذا الوعي الذي استرد عافيته بشكل شبه كامل، الانتقال من مرحلة الدفاع إلى الهجوم، حيث مباغتة العدو في عقر داره، وبين جدرانه الخرسانية، وإجباره على دخول الملاجئ، بل زاد الأمر إلى التحكم في أوقات خروجه ودخوله منها.
توحيد كلمة الفلسطينيين وتنحية الخلافات بين مختلف التيارات جانبًا، وتصدير مصلحة الوطن كعنوان كبير تجب تحته كافة العناوين الفرعية؛ كان هو الآخر أحد مؤشرات هذا الوعي المستعاد، هذا بخلاف انخراط طيف واسع من شباب عرب 48 في المشهد بعد سنوات من التغييب المتعمد.
لم يقتصر الوعي على الداخل الفلسطيني فقط، بل على الخارج أيضًا، فعشرات التظاهرات التي خرجت في العديد من العواصم العربية والغربية دعمًا للقضية وتأييدًا للمقاومة وتنديدًا بالانتهاكات الإسرائيلية، كلها مستجدات على الساحة الفلسطينية تحمل الكثير من الرسائل والدلالات.
حتى على المستوى العربي، فتفاعل الشارع مع المقاومة، سواء عبر منصات التواصل الاجتماعي أو من خلال التظاهرات، أعاد حالة الزخم التي كان عليها المشهد قبل عشرين عامًا، رغم المليارات التي أنفقت من أجل تغييب القضية عن عقول الشباب العربي.
حتى الشعوب التي فُرض عليها طوق أمني يحول بينها وبين دعم القضية عبر التظاهرات، عبّرت عن تأييدها المطلق من خلال السوشيال ميديا، ما كان له أثره على إجبار حكومات دول بعينها على مراجعة مواقفها حيال القضية الفلسطينية.
“كيّ الوعي”.. هزيمة بالقاضية
التزم الإسرائيليون في تعاملهم مع الفلسطينيين، في العقدين الأخيرين تحديدًا، بالبعد الاجتماعي والسياسي لمفهوم التراجيديا المسرحية، حيث قبول الوضع السيئ المفعم بالظلم والفقر والجوع، والتعامل معه كأنه أمر واقع يتطلب التماهي معه لا محالة، وأن التفكير في تغييره محاولة انتحار محفوفة بالمخاطر.
كانت تهدف تلك الاستراتيجية إلى إزاحة النكبة من الذاكرة الفلسطينية، ولتحقيق هذا الهدف لجأ الكيان المحتل إلى ثنائية تدمير طول الطوق وتوسيع دائرة القبول والتطبيع، وكلاهما تحقق بنسبة كبيرة.
فالعراق وسوريا ولبنان باتوا خارج المشهد بصورة كبيرة بعد التدمير الذي لحق بهم السنوات الأخيرة، بجانب انخراط مصر والأردن في كنف التطبيع الذي هرول إليه مؤخرًا عدد من الدول (الإمارات – البحرين – المغرب – السودان).
وخلال السنوات الماضية ارتكن المحتل إلى ما حققه من نجاحات في تفكيك محور المقاومة خارجيًّا، وإضعاف القوى ذات الثقل المقلق عربيًّا، بجانب استئناس كيانات وحكومات أخرى عبر ورقة التطبيع، متوهمًا أن تلك النجاحات ستطيل من أمد سياسة “كيّ الوعي الفلسطيني” بعدما فقدت القضية الكثير من عمقها العربي.
وبينما كان يؤمل المحتل نفسه بموت سريري لمصطلحات النضال والتحدي، وتكثيف جرعات التطبيع وقبول الآخر، وفرض الأمر الواقع بالقوة الغاشمة والوحشية المفرطة، إذ به يستيقظ على كابوس جديد، فالمقاومة لم تمت، وجذوة القضية لم تنطفئ بعد.
سقطت القبة الدعائية التي ظل المحتل يضخم فيها لسنوات طويلة، فإذ بصواريخ المقاومة البدائية تخترق تل أبيب، وتشل حركة الطيران، وتدفع بالملايين إلى الملاجئ تحت الأرض، في مشهد أقرب ما يكون لحرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، حين أطاح المصريون بخط بارليف المنيع (أسطورة “إسرائيل” في ذلك الوقت) بخراطيم المياه التي يستخدمها المزارعون في أرياف مصر.
وفي الأخير.. لو لم تحقق انتفاضة قطاع غزة المحاصر الحالية سوى كسر حاجز الخوف وتحطيم سلاسل القهر التي حبست الوعي في زنازين الرضوخ، لسنوات، لكان ذلك كافيًا، في ظل حجم الفارق الكبير بين القوتين.
ومع ذلك كانت الضربات موجعة، وتأثيرها مؤلم، رغم ادعاءات المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي بشأن عبثية الصواريخ التي أجبرته ورفاقه على البقاء في مخابئهم لساعات تلو الأخرى.