تتجه فرنسا إلى مزيد من التمدد في دولة السودان، مستغلة في ذلك حاجة هذا البلد العربي إلى دعم اقتصاده المتأزم، إذ قررت باريس شطب ديون الخرطوم وتقديم قرض جديد لها لمساعدتها في تسديد متأخراتها من الديون لصندوق النقد الدولي، فما الذي تريده فرنسا بالضبط من السودان؟
شطب ديون وقروض جديدة
أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمس أن بلاده قررت شطب كامل الديون المستحقة على السودان التي تبلغ نحو خمسة مليارات دولار، بهدف تحرير هذا البلد الذي يشهد انتقالًا ديمقراطيًا من عبء الدين.
جاء ذلك، خلال مؤتمر عُقد في باريس بشأن دعم الانتقال الديمقراطي في السودان، وكان رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك قد صرح في مقابلة مع وكالة الأنباء الفرنسية مؤخرًا أنه يريد أن يناقش بهذه المناسبة مسألة إعفاء بلاده من الديون مع نادي باريس – أكبر دائن للبلاد – وتمثل ديونه نحو 38% من إجمالي ديون السودان البالغة 60 مليار دولار.
بدوره أعلن وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير الإثنين أن فرنسا ستساعد السودان المثقل بالديون ويخوض عملية انتقال ديمقراطي، في تسديد متأخراته من الديون لصندوق النقد الدولي من خلال إقراضه 1.5 مليار دولار.
ترى باريس في الخرطوم، ذلك الحليف الذي يمكن أن يقدم لها الدعم القوي في المنطقة خاصة أن الجيش يمسك بزمام الأمور هناك
سبق للسودان أن تخلص من متأخرات دين البنك الدولي بقرض تجسيري من الولايات المتحدة، وتخلص من متأخرات ديون بنك التنمية الإفريقي، البالغة 413 مليون دولار، بقرض تجسيري من بريطانيا وضمانات من السويد وأيرلندا.
يذكر أنه في ديسمبر/كانون الأول 2020، خرج السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب وانتقل مباشرة إلى إدارة ملف الدين الكبير، كما وضع مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون هدفًا وبنى سجلًا من الإصلاحات الاقتصادية للوصول إلى نقطة اتخاذ القرار والحصول على إعفاء كبير للديون.
وسبق أن وعدت باريس باستضافة أكبر تجمع دولي لدعم السودان الذي يكابد للخروج من أزمته الاقتصادية المتفاقمة، فأهم أهداف المؤتمر الذي أقيم أمس كانت إعفاء السودان من ديونه البالغة 60 مليار دولار وإعادة إدماجه في المنظومة الدولية وتشجيع الاستثمار والتدفقات المالية عبر البنوك ورجال الأعمال للاستثمار في السودان.
❞ تفتخر فرنسا بكونها المدخل لانضمام السودان إلى جماعة الأمم مجددًا وعلى نحو كامل. وتفتخر فرنسا بأن تتقدم المرحلة الانتقالية السودانية من ميدان شان دو مارس لتصبح نموذجًا يُحتذى به في أفريقيا وفي العالم.❝
– @EmmanuelMacron https://t.co/baUglvnGgF
— الخارجية الفرنسية ?? (@francediplo_AR) May 18, 2021
يسعى السودان، إلى تخفيف أعباء ديونه الخارجية لمؤسسات مالية دولية ودائنين ثنائيين رسميين وتجاريين، في الوقت الذي تكابد فيه حكومته المدنية الانتقالية أزمة اقتصادية خانقة، وتفيد بيانات صندوق النقد أن فرنسا ثاني أكبر دائن ثنائي للسودان بعد الكويت.
عرف السودان في الفترة الأخيرة تفاقم الأزمة الاقتصادية التي أسهمت في سقوط عمر البشير من الحكم، فقد قفز معدل التضخم في البلاد من 43% إلى 331% خلال سنتين، وهو من أعلى المعدلات في العالم، إذ تشهد الأسواق السودانية ارتفاعًا متواليًا في أسعار السلع الضرورية وندرة في الحصول على بعضها مثل الخبز والوقود والدواء.
كما خفض بنك السودان المركزي، في فبراير/شباط الماضي سعر الصرف عند 375 جنيهًا سودانيًا للدولار، في خفض حاد لقيمة العملة المحلية بلغت نسبته نحو 582%، فكان سعر الصرف الرسمي في السابق 55 جنيهًا مقابل الدولار، فيما يدور سعر السوق السوداء في الآونة الأخيرة بين 350 جنيهًا و400 جنيه.
البحث عن حليف جديد
تقول فرنسا إن الهدف من وراء تنظيم هذا المؤتمر والمساعدات التي قدمتها لحكومة الخرطوم دعم الديمقراطية السودانية الوليدة، فلا ديمقراطية دون اقتصاد قوي متحرر من العقوبات وحالة العزلة التي دامت لعقود إبان حكم الرئيس السابق عمر البشير الذي أطاح به الجيش في أبريل/نيسان 2019 بعد احتجاجات شعبية لشهور.
لكن المتابع للتحركات الفرنسية في القارة الإفريقية وخاصة منطقة الساحل يخلُص إلى أن الأهداف من وراء التحركات الفرنسية في السودان ليس دعم الديمقراطية بل إيجاد حليف موثوق به في منطقة الساحل والصحراء الإفريقية يساعدها في القيام بمهامها هناك، خاصة بعد الضربات التي تلقتها باريس هناك وعجزها عن إقناع شركائها الأوروبيين فضلًا عن الولايات المتحدة والعديد من الحكومات الإفريقية بتقديم الدعم لها في منطقة الساحل.
وترى باريس في الخرطوم، ذلك الحليف الذي يمكن أن يقدم لها الدعم القوي في المنطقة خاصة أن الجيش يمسك بزمام الأمور هناك وله أن يتحرك بأريحية دون أن يعرقل تحركه أحد لا الحكومة السودانية ولا المجتمع المدني.
يرى الناشط السوداني عمار النوراني في حديث مع نون بوست أن الحرب الأهلية المندلعة في تشاد وعدم استقرار الحكومة الحاليّة في أنجمينا، جعل فرنسا تفكر في دولة جارة للسودان تكون قاعدة لها، فباريس لا تريد أن تخسر امتيازاتها هناك.
حقيقي السودان من اليوم والي المستقبل دخل في ورطة كبيرة جداً في تحالفة مع فرنسا، وفي الاسابيع القادمة كذالك مؤتمر باريس للدول الافريقية وهذا هو مربط الفرس.
الحكومة دي حكومة عملاء بحته والله لابد من إسقاطها والاتيان بوطنيين.لكن هذا العملاء عبدة الأضان الحمراء لن يضيفو شي غير الهلاك— wad Eltom, فضل ود التوم (@Albderi3) May 17, 2021
عرفت مكانة فرنسا في منطقة الساحل والصحراء تراجعًا كبيرًا، إذ تكبدت خسائر عسكرية كبرى أمام الجماعات المسلحة التي تحاربها، فرغم الإعلان عن انتصارات فرنسية من آن إلى آخر، فالمشاكل الأمنية في منطقة الساحل هي نفسها، بل مرات تكون أشد مما كانت عليه قبل التدخل الفرنسي هناك سنة 2012، ما يعني أن المهمة الفرنسية لمكافحة الإرهاب فشلت.
حتى شعوب المنطقة خرجوا في مظاهرات – وآخرها في مدن تشاد – تدعو لطرد الفرنسيين من هناك بعد أن تشوهت سمعتها، فلا هم للفرنسيين إلا سرقة ثروات المنطقة ومدخراتها المالية المهمة وفق شعوب تلك الدول.
تُتهم فرنسا بسرقة ما يحمل باطن دول الساحل من ثروات نفطية وغازية ومعدنية كبيرة (الذهب والبوكسيت واليورانيوم والحديد والنحاس واللثيوم والمنغنيز والفوسفات والملح)، رغم ادعائها محاربة الإرهاب ومساعدة دولة المنطقة على توفير الأمن والاستقرار.
وأجبر الرحيل غير المتوقع للرئيس التشادي السابق إدريس ديبي على يد المتمردين الساعين للسيطرة على الحكم، فرنسا على تكثيف تحركاتها في المنطقة للحصول على دعم حلفاء جدد هناك لمواصلة تنفيذ مهمتها بعد أن رفع الأوروبيون والأمريكان أيديهم عنها.
عين على ثروات السودان
إلى جانب ذلك، فإن لفرنسا أهدافًا كثيرةً في السودان، فعينها متجهة نحو ثروات البلاد، فالسودان غني باليورانيوم والذهب ومعادن أخرى عديدة، بالإضافة إلى الموارد الكبيرة، إذ يمتلك مقومات زراعية وحيوانية هي الأكبر في المنطقة العربية.
يقول عمار النوراني في هذا الشأن لنون بوست: “لفرنسا خبرة طويلة في فنون الاستعمار القديم والحديث للشعوب وسلبها حريتها وثرواتها وطمس هويتها، فرغم زعمهم بأنهم يتعاملون معهم بناء على القيم الإنسانية فإنهم يستميلون الآخر بوعود الدعم الاقتصادي والثقافي والعسكري”.
تأمل فرنسا أن يكون السودان بوابةً لها لتعزز نفوذها الإفريقي
يضيف النوراني “هذا الأمر حصل مع السودان، ونفهمه من كلام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي وعد بالدعم الاقتصادي للسودان وتقديم منح مالية غير مشروطة، وتحرك لدعم الجيش ووعد بالمساهمة في استقرار السودان”.
يتابع محدثنا “في مقابل تلك الوعود بالدعم ستجني فرنسا مستعمرة جديدة لضخ الحياة في اقتصادها المأزوم، وستفتح المجال لكل الشركات الفرنسية وبالأخص التي تعمل في مجال التنقيب عن المعادن والمنتجات النفطية التي تشكل أهم وارداتهم”.
إعادة تموضع في إفريقيا
ستتمكن فرنسا أيضًا وفق عمار النوراني من “الولوج إلى القارة السمراء، قارة لا مثيل لها ولا حد لها من الموارد الطبيعية التي سوف تحصل عليها بأقل تكلفة ممكنة، وحينها يكون السودان منطقة نفوذهم وسوقًا مفتوحةً لتصريف بعض الفائض من منتجاتهم”.
دولة رئيس الوزراء د. حمدوك:
عندما جئنا لزيارة فرنسا قبل عام ونصف، جئنا بآمال وطموحات، لم نتوقع أن نصل لكل هذا القدر في مثل هذا الوقت، وقتها قلت لنا أنك مستعد لعقد مؤتمر كبير للسودان، سيدي الرئيس ماكرون لقد أوفيتم بوعدكم.#مؤتمر_باريس
— مكتب رئيس الوزراء – السودان (@SudanPMO) May 17, 2021
هذا الدعم الفرنسي السخي للسودان هو إعادة تموضع لباريس في القارة الإفريقية بعد الضربات التي تلقتها مؤخرًا بسبب توجهاتها في العديد من الدول الإفريقية على غرار مالي وتشاد وأيضًا في جمهورية إفريقيا الوسطى.
وتأمل فرنسا – التي تواجه اتهامات باستغلال القارة الإفريقية، سواء بسبب ماضيها الاستعماري في القارة السمراء أم لكثرة تدخلاتها العسكرية في العديد من النزاعات التي تجري في بلدانها – أن يكون السودان بوابةً لها لتعزز نفوذها الإفريقي.
يرى المسؤولون في الإليزيه أن دعم السودان اقتصاديًا وسياسيًا سيفتح الباب أمام فرنسا لاستمرار اتفاقيات التجارة القديمة مع مستعمراتها السابقة، التي تضمن لها علاقة خاصة في منطقة اليورو، فضلًا عن إيجاد سوق لمنتجاتها ومنفذ لمواد أولية رخيصة إضافة إلى التأثير السياسي والعسكري.