يتعمد الاحتلال الإسرائيلي في كل عدوان على قطاع غزة استهداف الأطفال وقتلهم بدم بارد أو التسبب لهم بضرر سواء نفسي أم جسدي، ضاربًا بعرض الحائط جميع الأعراف والقوانين الدولية التي تحرم ذلك، فكل مرة يزيد في طغيانه ويسلك طرقًا وحشيةً لترهيبهم وهم آمنون في بيوتهم.
ودومًا يبتكر الاحتلال أساليب جديدة لترهيب الأطفال، فإن لم يقتلهم ويهدم البيوت على رؤوسهم، يفزعهم بأصوات صواريخه التي يقذفها في كل مكان ليمحو ذكرياتهم، فتارة يقتل ذويهم وتارة يقصف مدارسهم.
وفي المعركة الحاليّة سجلت وزارة الصحة استشهاد نحو 63 طفلًا، جميعهم قصفت الطائرات الحربية منازلهم وهم نيام، بينما آخرون بقوا ينزفون تحت الركام حتى انتشلتهم طواقم الإسعاف الطبية ليتفاجأوا أنهم نجوا دون ذويهم، كحال الطفلة سوزان أشكنتنا التي لم تتجاوز العشر سنوات.
بعد ساعات طويلة انتشلت سوزان من تحت الركام حين قصف بيتها بصواريخ محرمة دوليًا في شارع الوحدة فجر السبت الماضي، فقد غيب الرماد ملامحها حتى حسبها رجال الإسعاف في عداد الشهداء لكن ضربات قلبها كانت متسارعة وعيناها تسألان “ماذا حدث؟” ثم فقدت الوعي.
بعد تقديم الإسعافات الأولية والرعاية الصحية، أفاقت الصغيرة وراحت تسأل: “وين أمي وأخوتي”، ليخبرها والدها الذي نجا برفقتها “بالجنة”.
يقول والدها: “فقدت زوجتي وأطفالي الأربع (..) لا يزال صوتهم في أذني وهم يطلبون مني أن أنقذهم ولم أستطع، كنت مثلهم محاصر تحت الركام”.
ما يدفع الاحتلال لمواصلة عنجهيته ضد الصغار هو الصمت الدولي الذي يتجاهل المجازر التي ترتكبها وتحرمها المواثيق الدولية
وإن كانت سوزان قد نجت من الصواريخ، فهناك عشرات الأطفال الذين دفنت معهم أحلامهم، بينما لم تتوان “إسرائيل” في ترويع الصغار بشكل همجي كما فعلت خلال الأسبوع الحاليّ حين قصفت عدة مرات بالقرب من معهد الأمل للأيتام بشارع الوحدة، فهؤلاء الصغار فقدوا ذويهم في الحروب السابقة ويقضون ليلهم في المعهد يوميًا رفقة مربية واحدة لا تستطيع السيطرة عليهم في لحظات الخوف والهلع.
وما يدفع “إسرائيل” لمواصلة عنجهيتها ضد الصغار هو الصمت الدولي الذي يتجاهل المجازر التي ترتكبها وتحرمها المواثيق الدولية.
الصدمة النفسية بعد العدوان
رغم محاولات الاحتلال سلب الأطفال أبسط حقوقهم، فإنهم ينبشون بين ركام منازلهم عن ذكريات، فهنا طفل يبحث عن دراجته وفتاة أخيرًا وجدت دميتها وعلبة “إكسسوار وطلاء أظافر” أعادت البسمة لوجهها الحزين، بينما الطفل محمد عباس وشقيقته سارا وزعا الحلوى أمام بيتهما لبقائهما على قيد الحياة رفقة العائلة بعد قصف منزل مجاور لهما مكون من ستة طوابق.
ما يحدث للأطفال في قطاع غزة تتبعه آثار نفسية تؤثر على شخصيتهم خاصة عند تعرضهم لحدث مروع بشكل مباشر، وهنا تعقب الاختصاصية النفسية إيناس الخطيب بالقول: “ما يعيشونه تحت القصف يسبب لهم صدمات نفسية غالبًا ما تظهر بعد الحدث”، موضحة أن هناك سلوكيات تظهر على الأطفال كالتبول اللاإرادي وفقدان الشهية وعدم الرغبة في الكلام، وكذلك العنف والصراخ.
وتوضح الخطيب لـ”نون بوست” أن فقدان الأهل وتدمير المنزل من أشد الصدمات التي يعانيها الطفل، كون الأسرة هي الحضن الدافئ الذي يعطي الطفل الأمن والأمان، والبيت هو مركز الشعور بالأمان والاستقرار وفقدانهما يجعل الطفل يعاني من مشاكل واضطرابات نفسية أليمة وقاسية.
وتشير إلى أن الطفل فترة العدوان يحتاج إلى توفير احتياجاته الأساسية كالمأكل والملبس، بينما الرعاية النفسية تبدأ بعد انتهاء المعركة، فيتم تقييم الحالة لتقديم العلاج اللازم للطفل، مشيرة إلى أن الطفل يكون بحاجة إلى تقنيات عديدة كالعلاج الأسرى أو المعرفي السلوكي أو الروحاني أو تقنيات الاسترخاء والحركة وكل حسب الصدمة النفسية التي تعرض لها.
ولفتت الخطيب إلى أن الصدمة التي يعيشها الطفل قد تتحول إلى أمراض سلوكية وعقلية ويصبح مريضًا نفسيًا يحتاج للأدوية، بالإضافة إلى أن ما تعرض له يدفعه لعدم القدرة على الفرح والاستمتاع بوقته، عدا عن تفكيره المستمر في التجارب الصادمة والأليمة التي حدثت معه.
وفيما يتعلق بمدى توافر الخدمات النفسية في قطاع غزة ذكرت أن هناك العديد من المؤسسات التي تعمل على الأرض لكنها لا تكفي لحجم المشكلة بسبب زيادة أعداد من تعرضوا لأزمات نفسية وصدمات مزمنة، فلا يمكن الوصول إلى تقديم الخدمة لكل من يحتاجها، لذا لا بد من وجود المزيد من مؤسسات الدعم النفسي التي يحتاجها الطفل وأسرته.
قتل الأطفال عمدًا
على الصعيد القانوني يفسر الحقوقي مصطفى إبراهيم أن ما ترتكبه “إسرائيل” بحق الأطفال متعمد وذلك واضح من خلال عملياتها الحزبية حين تستهدف جميع الفلسطينيين وعادة ما يكون النساء والأطفال هم الضحايا، مشيرًا إلى أنها تقصف المنازل لقتل أكبر عدد من الأطفال، دون الاكتراث للقوانين الدولية التي تحرم قتل الأطفال.
يصف مركز فنون الطفل الفلسطيني في بيان له أن سياسة الاحتلال في قتل الأطفال عقيمة وتؤدي إلى مزيد من التدهور وجرائم الحرب
يقول إبراهيم لـ”نون بوست”: “ما تفعله “إسرائيل” هو مخالفة للقانون الدولي الإنساني، وعدم احترام اتفاقية حقوق الطفل بالحماية والحق في الحياة”، متابعًا: “إسرائيل مستمرة بالعدوان والقتل واستهداف منازل المواطنين والأطفال هم الضحايا سواء بفقدان حقهم في الحياة أم الاصابة بجراح بليغة قد تؤدي إلى جعلهم من ذوي الإعاقة، عدا عن الآثار النفسية والصدمات التي يتعرضون لها كالخوف وعدم النوم”.
وفي سؤال عن مدى تعمد الصمت الدولي حيال ما يجري في قطاع غزة بحق الأطفال تحديدًا، يؤكد الحقوقي أنهم يتجاهلون ما يحدث ويشجعون “إسرائيل” بصمتهم على مواصلة الردع والتخويف والقتل، مشيرًا في الوقت ذاته إلى أن الولايات المتحدة شريك في الجريمة، فهي من تعطي السلطات الإسرائيلية الضوء الأخضر للعدوان والاستمرار في قصف وقتل المدنيين وكذلك الاتحاد الأوروبي منافق يرفض حتى التعبير عن القلق في مجلس الأمن.
كما أدان مركز فنون الطفل الفلسطيني في مدينة الخليل، قتل الأطفال في ظل العدوان على قطاع غزة من الاحتلال الإسرائيلي، معتبرًا أن ما يرتكبه الاحتلال بحق الأطفال في فلسطين انتهاكًا جسيمًا وخطيرًا لحقوق الطفل وللمواثيق الدولية والأعراف والشرائع السماوية.
ويصف مركز فنون الطفل الفلسطيني في بيان له أن سياسة الاحتلال في قتل الأطفال عقيمة وتؤدي إلى مزيد من التدهور وجرائم الحرب، وناشد الجهات الدولية والمؤسسات الحقوقية التي تعني بالأطفال وحقوقهم التدخل فورًا لحماية المدنيين والأطفال الفلسطينيين، والتنديد بالانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة لاتفاقية حقوق الطفل الدولية، ووقف ما يتعرض له الأطفال من القتل والتهجير في فلسطين.
وطيلة أيام التصعيد والقصف المستمر، يترقب الصغار مصيرهم، فبلغتهم البسيطة يحاولون تفسير ما يحدث لكن دون إجابة، فيخلدون للنوم وهم يحلمون بغد أفضل، بعيدًا عن الدمار والقتل.