في منتصف أغسطس/آب 2014، وصف الملثم صاحب الكوفية الأشهر عربيًا أبو عبيدة الناطق الرسمي باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام، المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية غير المباشرة، التي تحدث في القاهرة حينها، بوساطةٍ مصرية، بأنها “ولدت ميتة“.
كان السبب الذي دفع أبو عبيدة لاستخدام هذه اللغة الحادة، التي عكست حينها ما قيل إنه خلاف بين المستوى السياسي والعسكري داخل حركة حماس، وليس خلافًا بين حماس والوسيط المصري فحسب، أن الاحتلال حاول اغتيال القائد العام لجيش القسام، محمد الضيف، محاولة فاشلة، أدت إلى استشهاد زوجته ورضيعه، في مشهد مهيب، أدمى قلوب الشعب الفلسطيني والجماهير العربية المتابعة للشأن الفلسطيني، ومنح الاحتلال نصرًا زائفًا، بعد أن أوجعته المقاومة بشتى السبل في هذه المعركة.
بعد نحو 7 أعوام من هذا المشهد المعقد، وفي ظل تحسن نسبي للعلاقات المصرية الحمساوية بدا في إفراج القاهرة عن “كوماندوز القسام” المعتقل لديها قبل سنوات، ووقف عمليات قتل الصيادين الفلسطينيين في مياة المتوسط، وفتح معبر رفح على نحو مقبول، واستقبال رئيس المكتب السياسي للحركة في القاهرة، ووقف التحريض الإعلامي على أهل غزة وقيادتها، أن مبادرةً جديدةً من مصر، “ولدت ميتة” أيضًا، بشكل قد يبدد هذا التحسن النسبي الأخير في العلاقات.. فما القصة؟
حشر حماس في الزاوية
قال النظام المصري منذ بداية الأزمة إنه يبحث عن حلٍ لتهدئة الأوضاع في القطاع، فلم يستخدم النظام في مصر أي لغة حادة تجاه إدانة ما يحدث في غزة على غرار لغته المختلفة تجاه أحداث القدس، لكنه أبدى تغيرًا ملموسًا في طريقة التعامل مع التصعيد، سواء من ناحية التغطية الإعلامية للأحداث، التي لم تأخذ صف الاحتلال كما حدث في 2014، أم في الروح المختلفة خلال تقديم المساعدات الإغاثية لأهل القطاع.
في زيارته إلى فرنسا، التي تركز على ملفي العلاقات الثنائية الرفيعة مع باريس، وبحث دعم السودان اقتصاديًا لتجاوز أزمة الديون الدولية التي يعاني منها اقتصاده، قال السيسي إنه سيبحث مع كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، سبل احتواء الوضع في القطاع ووقف العنف في الأراضي الفلسطينية.
تلقى معظم المدونين ورواد مواقع التواصل الاجتماعي الخبر بحبورٍ ملحوظ، إذ ستدعم مصر، شقيقتها الصغري، في غزة، بمبالغ مصرية خالصة
في اليوم الثاني لزيارته التي شهدت لقاءات مع مسؤوليين عسكريين فرنسيين رفيعي المستوى، ودعمًا مصريًا سخيًا للخرطوم في قمة هيكلة ديونها، أعلنت الرئاسة المصرية توصل القمة الثلاثية، بين مصر والأردن وفرنسا، إلى “مبادرة” تهدف إلى إعادة إعمار قطاع غزة، بأموال مصرية، تقدر بنصف المليار دولار (500 مليون دولار) تتولى الشركات المصرية إنفاقها في القطاع.
تلقى معظم المدونين ورواد مواقع التواصل الاجتماعي الخبر بحبورٍ ملحوظ، إذ ستدعم مصر، شقيقتها الصغرى، في غزة، بمبالغ مصرية خالصة، تساهم في إعادة الإعمار، قد تكبح النفوذ الإسرائيلي والتغولات العسكرية ضد القطاع مستقبلًا.
لكن ما آثار ريبة آخرين، هو طريقة إعلان المبادرة، فمن المفترض أن تحدث 3 أمور قبل الوصول إلى هذه النتيجة المتعلقة بالدعم المالي كما هو معروف في مثل هذه النوائب، أولًا وقف لإطلاق النار، ثانيًا اتفاق مكتوب أو شفاهي بوساطات لوضع أطر محددة لسياق وقف إطلاق النار، أخيرًا أن تكون الأطراف المعنية بالأمر حاضرةً في الاجتماعات.
ما بدا من طريقة إعلان النظام المصري عن المبادرة السخية، أن النظام المصري يريد حشر حماس في الزاوية، من منطلق: إما أن توافقوا على نفوذنا الاقتصادي والسياسي والأمني في القطاع، الذي قد لا يكون رغبةً حمساوية في هذا التوقيت بالنظر إلى اعتبارات سياسية وإقليمية، وإما أن تظهر حماس أمام العالم بأنها ترفض الوساطة، من شقيقتها الكبرى، وترفض إعادة الإعمار، وهي نفس سردية الاحتلال عن المقاومة.
مصلحة إسرائيلية
بخلاف أن البيان الثلاثي المقتضب تجاهل توجيه أي إدانة للاحتلال أو تحميله المسؤولية الأخلاقية والسياسية، فضلًا عن الاقتصادية، عن تدمير القطاع، الذي يعرض النظام المصري الفقير الدفع بسخاء لإنقاذه، فإن الأنظمة التي قررت الدفع بهذه المبادرة مشكوكٌ في مواقفها تجاه الانحياز للفلسطينيين، فضلًا عن إمكانية التنسيق مع الاحتلال قبل تقديم المبادرة.
بعيدًا عن باريس التي تعاني مثل معظم دول أوروبا من عقدة تاريخية خاصة بالتطهر من جرائم اضطهاد اليهود قديمًا، وترى في الإسلاموية التي تعد حماس أحد أبرز تمظهراتها عدوًا جذريًا لها، فإن النظامين، الأردني والمصري، تجمعها علاقات إستراتيجية أكثر متانة من تلك التي تجمعهما بالفلسطينيين، رغم أي تحسن براغماتي في العلاقات، بلا مبالغة.
بالإضافة إلى توقيع كل من مصر والأردن اتفاقيات سلام مبكرة مع الاحتلال، في كامب ديڤيد ووادي عربة، فإن النظامين العربيين أبديا تحالفًا واضحًا مع الاحتلال في الأعوام الأخيرة بشكل مباشر أو غير مباشر، فقد شاركت “إسرائيل” في غارات جوية على المسلحين المتمردين في شمال سيناء، وأفرغ النظام المصري الشريط الحدودي بينه وبين القطاع من الأنفاق التي كانت تعد متنفسًا للسكان.
وأبرم مؤخرًا صفقةً ضخمةً لشراء الغاز من الاحتلال، رغم امتلاكه فوائض ضخمة منه، بأعلى من السعر العالمي، بسعر إجمالي يصل إلى 10 مليارات دولار أمريكي.
أما النظام الأردني الذي رفض توجيه أي إشارات لدور الاحتلال في محاولة الانقلاب الأخيرة، رغم عدم تحفظ الاحتلال على ما جرى، وعرضه المساعدة الميدانية لتهريب أسرة الجناح المتمرد بمروحيةٍ تابعة للـ”الموساد”، مكتفيًا بطمأنة العسكريين الإسرائيليين باحتواء التمرد، ضمن التنسيق الأمني، فإنه ينخرط مع مصر والاحتلال، في “بيزنس” استيراد الغاز، في صفقة مشابهة لصفقة النظام المصري من حيث المدة والقيمة.
ويعد جزءًا من مشروع “الشام الجديد”، الذي يدخل ضمن مشروعات إعادة رسم الجغرافيا الاقتصادية للمنطقة، لأهداف سياسية وأمنية، من بينها تحجيم النفوذ التركي والإيراني، عبر بناء تحالف سني عربي “إسرائيلي”.
رغم ما يثار عن توتر العلاقات المصرية الإماراتية مؤخرًا، وكثير منه صحيح، فإن المبادرة المصرية يبدو أنها تنال استحسانًا من رأس حربة التطبيع في العالم العربي حاليًّا
بخلاف وضع حماس في الزاوية، فإن المبادرة تعني على المستوى القريب، إيجاد مخرج سياسي للتصعيد العسكري الذي تورطت فيه “إسرائيل” دون أي إنجاز يذكر، سواء في النيل من الكوادر البشرية والمادية للمقاومة، أم بإمكان التدخل البري، أم بطرح السؤال عن استعادة الأسرى المفقودين منذ حرب “العصف المأكول”، مقابل تطور نوعي ملحوظ، كمًا وكيفًا، في قدرات المقاومة، وتعني المبادرة، على المدى البعيد، تحمل مصر جزءًا غير بسيط من مسؤولية إدارة القطاع، سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، وهو جوهر طرح إسرائيلي قديم يهدف إلى التنصل من مسؤولية سكان القطاع، وطرح حل مستدام لمشاكله لا يكلف الاحتلال أي ثمن.
أسباب أخرى
رغم ما يثار عن توتر العلاقات المصرية الإماراتية مؤخرًا، وكثير منه صحيح، فإن المبادرة المصرية يبدو أنها تنال استحسانًا من رأس حربة التطبيع في العالم العربي حاليًّا، الإمارات، وهو ما ظهر فيما دونه على الفور محمد دحلان، رجل السلطة في الإمارات ووريث محمود عباس المرجو، مشيدًا بالمبادرة والدور المصري، وواضعًا نفسه في المشهد، رغم كونه لا يعد طرفًا رسميًا في تسيير الأمور حتى الآن.
من زاوية أخرى، فإن المبادرة الثلاثية بهذه الصيغة، تقطع الطريق على مستوى آخر من إدارة الأزمة تقوده تركيا في الوقت الحاليّ، وهو إن كان صعبًا إلا أنه يرفع سقف طموح ومستوى المفاوضات مع الاحتلال، إذ طرح الرئيس التركي رجب أردوغان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين رسميًا إمكانية إرسال قوات دولية لحماية الشعب الفلسطيني، وتحدث أمس الثلاثاء صراحةً عن إمكان تقديم تركيا دعمًا عسكريًا للفلسطينيين.
المؤكد، أن هذه المبادرة، بالأطراف التي أشرفت عليها، وبنودها التي تحصر الصراع في الاقتصادي وتتجاهل أي كلفة سياسية أو أخلاقية أو اقتصادية على الاحتلال، ومن ردات الفعل السريعة للغاية من أطراف مشكوك في نواياها، لا ولن تروق لقيادة غزة، وسيسعى الفلسطينيون في القطاع إلى التملص منها، بدعم الحلفاء الإقليميين الذين يتوجسون من الدور المصري.
على أرض الواقع، ستلعب الساعات المقبلة دورًا في تحديد طريقة الرفض التي ستعلن بها حماس موقفها من المبادرة، هل ستبدي تساهلًا علنيًا في الإعلام مقابل تعنت في الغرف المغلقة؟ هل ستتجنب الاشتباك مع النظام المصري وتترك المهمة لأذرعها الإعلامية؟
سيتحدد ذلك خلال الساعات المقبلة، التي ستشهد تصعيدًا كبيرًا من الاحتلال لحفظ ماء وجهه ومحاولة تسجيل انتصار أمام شعبه لتحسين موقعه التفاوضي، وجسارةً من فصائل المقاومة التي ستستميت من أجل المحافظة على مكتسباتها ورفض تمرير واقع ميدانيٍ قد لا يتلاءم مع طموحاتها، عبر دحر أي مفاجآت عسكرية خاطفة من الاحتلال والصمود أمام مشروعات داعميه الإقليميين.