يسعى الاحتلال الإسرائيلي خلال عدوانه على قطاع غزة المحاصر، الرجوع به سنوات إلى الوراء باستهداف مقدراته ومراكزه الحيوية والتعليمية والصناعية بالإضافة إلى الصحية. أي فسحة للغزيين لتعلم لغة جديدة أو الاطلاع على كتاب يوصلهم بالعالم، دمرتها صواريخ الاحتلال ثقيلة الوزن.
تهدف “إسرائيل” إلى القضاء على إمكانات قطاع غزة المحاصر البسيطة، والتي استغرق ترميمها لسنوات بعد العدوان عام 2014، في محاولة لحرمان الغزيين من مواكبة التطور ولو بالحد الأدنى. فقد نفّذ الاحتلال منذ بداية العدوان المتواصل على قطاع غزة المحاصر أكثر من 1615 غارة ما بين جوية وبحرية ومدفعية، طالت جميع مناطق القطاع، وسط تركيز على البيوت والمباني السكنية والمقار الحكومية والبنى التحتية من طرق وشبكات كهرباء ومياه وصرف صحي.
المكتبات هدف
يستهدف الاحتلال حياة الغزيين المحاصرة بالأساس، لذا يهاجم أي متنفس لهم، فكانت المكتبات التي تفتح لهم نافذة على العالم هدفًا لصواريخه التي سوّت حتى اللحظة 5 مكتبات بالأرض، ليغطي الرماد أوراقها.
مكتبة سمير منصور أقدم المكتبات، والتي توارث ملاكها المهنة عن أجدادهم، استهدفتها صواريخ الاحتلال لتبقى رفوفها تحت الركام، بعدما طبعت دار النشر التابعة للمكتبة لأكثر من 150 كاتب غزيّ وأوصلت صوتهم للعالم، من خلال المشاركة بمؤلفاتهم في معارض عربية ودولية.
#GazaUnderAttack
هاي المكتبة اشتريت منها اول كتاب يكون ملك الي و كان هدية من امي، هاي المكتبة الها ذكريات حلوة معي.
لعن الله المحتل، راح ترجع المكتبة ان شاء الله، ربنا يعوضكم ?? https://t.co/MgdNIkJSdv
— YOUNIS ?? (@AlemourYounis) May 18, 2021
يقول مالك المكتبة سمير منصور إن خسائر مكتبته بما فيها من أجهزة وكتب تقدر بـ 700 ألف دولار، لافتًا إلى أن دار سمير للنشر قد تعاقدت مع أكثر من 150 كاتب فلسطيني لنشر كتبهم، فمنهم من خرجت كتبه إلى النور، ومنهم من ما زالت كتبه قيد النشر.
ودمر الاحتلال بالصواريخ ذاتها مكتبة “اقرأ” الواقعة في عمارة كحيل القريبة من تجمع الجامعات بقطاع غزة المحاصر، ويقف مالك المكتبة ليجمع عددًا من الكتب التي بانت عليها آثار القصف في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الذكريات.
إنه استهداف لأي مظهر من مظاهر الحياة في قطاع غزة المحاصر، يقول شعبان سليم صاحب مكتبة “اقرأ”، متابعًا وقد غلبته الدموع: “أجمع الكتب من تحت الركام للذكرى فقط، لا شيء يعوض خسارة وشقاء العمر”.
قضى الاحتلال بحقده على حلم شعبان الذي سعى له كثيرًا، وحرم نفسه من الكثير من الملذات في سبيل امتلاك المكتبة.
استهداف المكتبات بمثابة سياسة تجهيل يمارسها الاحتلال بهدف إبقاء قطاع غزة المحاصر بلا صوت، حيث لا يريد لكتّابه أن يرفعوا أصواتهم وتصل كتاباتهم إلى العالم.
تقول الكاتبة والصحافية رشا فرحات بدورها: “كنت أبحث دائمًا عن دار نشر لتتبنى نشر كتاباتي وتشارك فيها بمعارض النشر خارج قطاع غزة، وكانت دار سمير منصور هي الأولى من نوعها على مستوى القطاع التي تطبع الكتب بجودة عالية، وتحفظ حقوق الكاتب كاملة وتشارك في معارض الكتاب على مستوى العالم”.
كما تضيف فرحات: “دار سمير منصور طبعت كتابي الأول الذي وصل الى العالم أجمع”، وترى أن استهداف المكتبات بمثابة سياسة تجهيل يمارسها الاحتلال بهدف إبقاء قطاع غزة المحاصر بلا صوت، حيث لا يريد لكتّابه أن يرفعوا أصواتهم وتصل كتاباتهم إلى العالم.
لكن من جانب آخر تؤكد الكاتبة فرحات أن هناك تضامنًا مقدّرًا مع ما حدث، ومع الكاتب الفلسطيني، و”حتى لو سقطت كل الأرفف التي عرضت عليها كتبنا المنشورة في مكتبة سمير منصور سوف نعاود الكتابة وسنملأها من جديد”.
في مرمى النيران
ليست المكتبات وحدها من كانت في مرمى نيران الاحتلال، بل المراكز التعليمية ومراكز اللغات التي استهدفها الاحتلال من خلال تدمير أكثر من برج وعمارة في قطاع غزة المحاصر.
أحمد الفليت مدير مركز “نفحة” لدراسات الأسرى والشؤون الإسرائيلية، الذي استهدفته طائرات الاحتلال، قال لـ”نون بوست” إن الاحتلال استهدف المكتبات ومؤسسة مشارق الإعلامية وعمارة كحيل المعروفة على مستوى القطاع بأنها تجمّع للمراكز التدريبية، حيث يوجد في البناية 24 مؤسسة تعليمية وتدريبية تقدم خدمات لأبناء القطاع كافة.
وذكر أن العمارة قريبة من جامعات القطاع ويرتادها يوميًّا قرابة 5 آلاف مواطن، مؤكدًا أن ما يحدث هو استهداف للعلم ولكل ما هو فلسطيني ومدني.
ويرى الفليت أن أهداف الاحتلال في الأيام الأخيرة تدل على إفلاسه، وما يجري هو للضغط على المواطنين باستهداف المؤسسات المدنية، لكن المواطن صابر وسيفوّت الفرصة على الاحتلال.
وحول إذا ما كان الاحتلال معنيّ بتدمير المكتبات والمراكز بهدف تجهيل المواطن وإعادته خطوات للوراء، يشير الفليت إلى أن كل حروب الاحتلال كان أحد أهم أهدافها تدمير البنية التحتية لأن الوضع الاقتصادي صعب في القطاع، لذا يلعب على العصب الحساس للمواطنين، مبيّنًا أن قطاع غزة المحاصر كطائر العنقاء يعود من جديد ويتغلب على الركام ولن تؤثر أدوات الاحتلال، وليس لهم خيارًا سوى المواصلة.
يرى المواطن وسام عويضة أن “إسرائيل” لا تقتل الآمنين فحسب، بل تقتل الذاكرة والمكتبات والشوارع، وحتى الحيوانات والطيور، قد نفهم الحرب وويلاتها، لكن كيف نفهم هذا الإجرام المجنون بحق كل شيء.
ويؤكد أن عمارة كحيل، بمكتباتها ومراكزها ونباتات الزينة التي كانت تزين مدخلها شاهدة على الجريمة، مشيرًا إلى أنه قضى عدة أشهر في دراسة اللغة العبرية في مركز “نفحة” للتدريب، وكان ينوي العودة قريبًا ليتم مشواره.
تسبب هذا العدوان الهمجي حتى اللحظة بتدمير عدة مكتبات عامة.
وفي السياق ذاته استنكرت الهيئة العامة للشباب والثقافة، الجرائم البشعة التي تمارسها قوات الاحتلال الصهيوني بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة المحاصر، واستهدافها المتعمد للمنشآت الثقافية.
وقالت الهيئة في بيان لها: “إن هذا العدوان المتواصل واستهداف البيوت الآمنة ومراكز العلم والثقافة دليل واضح على بربرية الاحتلال الذي لا يراعي أي قيم حضارية أو ثقافية، وهو دليل على عقلية ظلامية عنصرية حاقدة لا علاقة لها بالقيم الحضارية والإنسانية”.
وأضافت: “تسبب هذا العدوان الهمجي حتى اللحظة بتدمير عدة مكتبات عامة وهي مكتبة سمير منصور للطباعة والنشر، ومكتبة اقرأ، ومكتبة الرؤية، ومكتبة النهضة، وتدمير عدد من المراكز الثقافية وهي منتدى الأمة للتنمية، ومركز المواهب الفلسطينية، ومركز بسمة للثقافة والفنون، بالإضافة إلى تدمير عدد كبير من المراكز المختصة في مجالات العلوم والأبحاث والتدريب، وشركات الإنتاج الإعلامي والفني”.
استهداف الخدمات
ولم تسلم الخدمات الصحية من عدوان الاحتلال المتواصل على قطاع غزة المحاصر، حيث طال الدمار المختبر المركزي الوحيد المخصص لفحوصات كورونا في القطاع. فقد أكد الناطق باسم وزارة الصحة الدكتور أشرف القدرة، أن المختبر جرى تدميره بشكل كامل، ومتوقف عن العمل لليوم الثالث على التوالي.
وبيّن أن الاحتلال بتركيزه على استهداف المؤسسات الصحية، يطلق رسالة واضحة بالقتل والإجرام لكل ما هو إنساني.
ولفت القدرة إلى أن الاحتلال استهدف حتى اللحظة 21 مؤسسة صحية، إضافة إلى استهداف الطواقم في الميدان، داعيًا مؤسسات المجتمع الدولي للتدخل لحماية الطواقم الطبية وفق القانون الدولي.
وتبلغ قيمة الخسائر التي تكبدها قطاع غزة المحاصر حتى الآن، جراء العدوان الإسرائيلي المتواصل، بحسب الأرقام التي ساقها سلامة معروف، رئيس المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة المحاصر، 243.8 مليون دولار، منها 176.6 خسائر مباشرة، و67.2 مليون دولار غير مباشرة.
وأشار المسؤول المحلي أن 75 مدرسة ومرفقًا صحيًّا وعيادات رعاية أولية تضررت بشكل بليغ وجزئي جراء القصف الشديد في محيطها، كما تم قصف مزارع حيوانية وأراضٍ زراعية وآبار وشبكات ري بقيمة أولية للخسائر بلغت 22 مليون دولار، وخسائر مباشرة بقيمة 27 مليون دولار في المنشآت الاقتصادية والتجارية.
وبيّن معروف أنه تم قصف شوارع وبنى تحتية ممثلة في شبكات مياه وصرف صحي بقيمة خسائر أولية بلغت 22 مليون دولار، فيما بلغت الخسائر المباشرة لقطاع الطاقة جراء قصف شبكات ومحولات وخطوط الكهرباء الـ 12 مليون دولار.
واستمرارًا لقصف المقدرات الفلسطينية، استنكر الاتحاد العام للصناعات الفلسطينية في قطاع غزة المحاصر الاستهداف الإسرائيلي الممنهج والمتعمد للمصانع والمنشآت الاقتصادية الحيوية في القطاع، والتي كان آخرها تدمير مصنع فومكو للإسفنج شمال القطاع.
وقال الاتحاد في بيان صحفي، إن الاحتلال يستمر بتدمير ما تبقى من مرافق اقتصادية وخدماتية وبنى تحتية، والتي تتجاوز خسائرها منذ بداية العدوان الـ 200 مليون دولار أميركي.
وأضاف الاتحاد أنه لا يوجد أي مبرر للاستهداف الإسرائيلي للمنشآت الصناعية والاقتصادية والمدنية، والتي لا تشكل أي خطورة على الاحتلال، مؤكدًا أن ذلك يأتي ضمن سياسات الاحتلال لتدمير المقدرات الفلسطينية، وتشديد الحصار الإسرائيلي على القطاع، وإلحاق أكبر قدر من الخسائر المالية في الاقتصاد الفلسطيني.
ويخالف الاحتلال بأهدافه كل القوانين الدولية والإنسانية التي يضرب بها عرض الحائط، ليكون المواطن الغزي ومقدراته في “خبر كان”.