منذ عدة أعوام، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مخاطبًا الجبهة الداخلية في حشد عام بانفعال شديد، بدا على نبرة صوته ولغة جسده: “أنا مش سياسي، أنا مش سياسي بتاع الكلام، اللي عايز يهدّ مصر يخلص مني الأول”.
في ذلك التوقيت، فُهم هذا التصريح بأن السيسي يوجه رسائل خطابية، ويشحذ وجدان المصريين، من أجل التأهب لإجراءات استثنائية محتملة قد يتخذها ضد خصوم داخليين، يشعر تجاههم بالتهديد على مركزه في السلطة كرئيس للجمهورية وحاكم أوحد للبلاد.
السياسة، كما يعرّفها منظرون وفلاسفة، هي «فن الممكن» -ومن زاوية أخرى هي «صراع مستمر بين القيمة والمصلحة»-، وبالنسبة إلى السيسي في هذا التصريح، كان يقصد أنه لن يلتزم بالمسارات السياسية والتفاوضية مع خصومه الذين يريدون الإيقاع به، وسيستخدم معهم بدلًا من ذلك أدوات القوة، حصرًا، كي يبطش بهم.
بشكل من الأشكال، قد يعد قرار استخدام القوة حصرًا، والوعي بذلك، مع وجود خيارات أخرى، ضربًا من السياسة أيضًا. ولكن في الوقت نفسه، أبدى السيسي في السنوات الأخيرة، وفي عدة مواقف، بعضًا من القدرة على ممارسة «السياسة» بتعريفاتها القياسية، من حيث كونها محاولة لتعظيم المكاسب وتقليل الخسائر، واستخدام الأوراق المتاحة، لحشر الخصوم في الزاوية، والتأني خلافًا لما روجه في الداخل على الأقل، بأنه ليس سياسيًّا لا يعرف إلا الحلول الجذرية.
جذور العلاقة مع حماس
كان معروفًا أن العلاقات بين السيسي وحركة المقاومة الإسلامية “حماس” ليست على ما يرام، والأسباب والشواهد لذلك متعددة، إذ قضت محكمة الأمور المستعجلة في مصر باعتبار الحركة وجناحها العسكري كيانات إرهابية، وحوكم الرئيس الأسبق محمد مرسي على ما وصف بأنه “تخابر” مع حماس، بما يعني أنها طرف معادٍ للدولة المصرية.
واتهمت الدولة العميقة في مصر الحركة بالاشتراك مع كيانات أخرى في إثارة الفوضى إبان ثورة يناير/ كانون الثاني.
أسباب الخلاف بنيوية، وقد نتج عن ذلك أشكال كثيرة من التراشق والتخلي والكيد، تلت حتى ذروة التصعيد بعد الانقلاب العسكري.
بغض النظر عن صحة هذه الاتهامات من عدمها، والتي يرى كثير من المحللين أنها اتهامات ذات مضمون سياسي أكثر من كونها مبنية على أدلة وحقائق؛ فأسبابُ هذا الخلاف معروفة: يرتبط النظام في مصر بعلاقات متينة مع “إسرائيل”، العدو الأول لحماس، ويرفض النظام أي امتدادات لجماعات غير نظامية، خاصة لو كانت ذات توجه إسلامي، ويعتبرها قنبلة موقوتة تهدد استقرار المجتمعات، فيما تحتفظ حماس لنفسها بعلاقات متينة مشابهة مع خصوم النظام المصري الإقليميين، تركيا وإيران وحزب الله.
إذًا أسباب الخلاف بنيوية، وقد نتج عن ذلك أشكال كثيرة من التراشق والتخلي والكيد، تلت حتى ذروة التصعيد بعد الانقلاب العسكري في يوليو/ تموز 2013.
مثل خطف عدد من القوات الخاصة القسامية المطلوبين إسرائيليًّا من معبر رفح البري، وتوسع البحرية المصرية في إطلاق النار على الصيادين الفلسطينيين بالقرب من المياة الإقليمية المصرية، وصولًا إلى التحريض الإعلامي على المقاومة، ومباركة السلطات المصرية لموجة التطبيع العربي الإسرائيلي، التي تعد بشكل من الأشكال جزءًا من ترتيبات ما كان يعرف بـ”صفقة القرن”.
ما الذي تغير؟
على أرض الواقع، لم يقم السيسي بالكثير من أجل سكان القطاع خلال التصعيد الإسرائيلي؛ لم يفتح معبر رفح استثنائيًّا في أيام العيد لإدخال الجرحى إلى المستشفيات المصرية، لم يتخذ النظام المصري أي إجراءات سياسية أو دبلوماسية أو عسكرية ضد الاحتلال.
كما لم تقم الصحافة العبرية برصد أي تغير نوعي في التعامل المصري مع أزمات القطاع، كما لم تبرز أي دور استثنائي للوفود المصرية في التوصل إلى هدنة.
حافظ السيسي أيضًا على خطابه “المائع” تجاه الأحداث، إذ لم يدن قط في باريس، أو في مصر قبل السفر، الاعتداءات الإسرائيلية على القطاع، واكتفى بحديث غائم عن ضرورة وقف العنف والقتل، كل القتل، على حد قوله، في إشارة للقتلى الواقعين من الجانبين، وكأنهم واحد، مشددًا على ضرورة إيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية لقطع الطريق على المستفيدين من هذا العنف.
كما أن ما طرحه السيسي من مبادرة لدعم القطاع، كما أوضحنا في مقال سابق، على الرغم من تفرده، إن لم يكن، في جوهره، دعمًا لسردية الاحتلال تجاه القطاع، والتي تقول إن المعالجة الاقتصادية لمشاكل قطاع غزة المحاصر، خاصة إذا تكفل بها العرب بعيدًا عن الاحتلال، قد تحول القطاع إلى ضفة جديدة، في إشارة إلى تدجينها وسلميتها؛ فإنه أبعد ما يكون عن تقديم دعم حقيقي للمقاومة.
كرر السيسي الأداء نفسه الذي يركز على “اللقطة” الخاوية من المضمون الحقيقي، إن لم تكن هذه اللقطة أصلًا لها نتائج عكسية في أكثر من موقف.
إذًا تطرح هذه الرؤية سؤالًا: ألم يختلف حقًا التعامل المصري مع الملف الغزي بشكل إيجابي كما يؤكد الكثيرون؟ والحقيقة أن التغير الوحيد الجاد في المعالجة المصرية هو تغير إعلامي وسياسي، أكثر من كونه تغيرًا في السلوك الفعلي.
وهو ما بات يجيده السيسي، بمساندة إعلامية من فئات لا تستطيع التفريق بين ما هو “وطني” وما يروج النظام بأنه وطني، حيث تركز التغير على كبح التحريض على المقاومة، خلافًا لما حدث من تحريض مخزٍ في معركة “العصف المأكول” في يوليو/ تموز 2014، مع توجيه “الأذرع الإعلامية” للتحرك ضمن هذه السياسة الجديدة التي باتت أقل ترصدًا بالمقاومة.
اللعبة نفسها
كرر السيسي الأداء نفسه الذي يركز على “اللقطة” الخاوية من المضمون الحقيقي، إن لم تكن هذه اللقطة أصلًا لها نتائج عكسية في أكثر من موقف. منها على سبيل المثال، حينما سافر إلى فرنسا، ممثلًا لأكبر دولة عربية، وواحدة من أكبر الدولة الإسلامية، في ظل ثورة شعبية عارمة ضدّ التحريض الفرنسي على الإسلام والمسلمين.
قال السيسي هناك كلاماً ظاهره الرحمة عن ضرورة عدم المساس بالرموز الروحية، ما أثار إعجاب الجماهير، فيما كانت مضامين زيارته تختلف كثيرًا عن هذه الرسالة.
فقد كرمته باريس، واستقبلته استقبالًا لا يخلو من حفاوة، وأكدت خلال الزيارة نفسها على تسامحها مع سياساته السلبية تجاه ملف حقوق الإنسان، مشددة على ضرورة استمرار تدفق توريد السلاح إلى نظامه من أجل مكافحة الإرهاب “الإسلامي”.
وهو ما يعني أن الاستنتاج القائل بأن السيسي اتخذ موقفًا إيجابيًّا استثنائيًّا تجاه أزمة التحريض الفرنسي على المسلمين، كان محض بروباغندا.
داخليًّا قبل ذلك، تكرر السيناريو نفسه الحاصل حاليًّا في الموقف من القضية الفلسطينية، بعد أحداث سبتمبر/ أيلول 2019، التي استطاع المقاول المنشق محمد علي خلالها حشد مئات المصريين، لأول مرة، في أكثر من محافظة، للتظاهر ضد فساد السيسي المالي، خلال زيارته إلى نيويورك لحضور أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.
عاد السيسي من أميركا إثر هذه المظاهرات، مبشرًا بإصلاحات اقتصادية تدعم المواطن الفقير، مخفضًا سعر الوقود تخفيضًا شكليًّا (25 قرشًا)، ومتحدثًا عن عودة ملايين المصريين المحذوفين إلى بطاقات الدعم العيني، وأطلق أذرعه الإعلامية ورجال البرلمان يلقون باللوم على “الحكومة” التي لا ينسجم أداؤها مع تطلعات الرئيس الذي يشفق على الشعب.
وبعد امتصاص الأزمة، عادت السياسات الجبائية نفسها إلى طبيعتها، سواء من جهة الاستمرار في الاقتراض، أو رفع الأسعار والتخلي عن الدعم وزيادة الضرائب.
الخلاصة
ما يقدمه السيسي في الوقت الحالي من تساهل إعلامي في الخطاب المتناول للمقاومة، وإن كان يستحق الرصد من الباحثين والكتّاب، فإنه لا يتناسب مع الثمن الذي جباه من أهل القطاع، بتجفيف منابع الأنفاق نهائيًّا، وتشديد الحصار على القطاع، وتكثيف التنسيق الأمني مع الاحتلال.
فضلًا عن أنه لا يستحق الاحتفاء به، لا سيما من أناس اكتووا بنار السيسي، قتلًا وقمعًا، تحت ذرائع الوطنية والابتزاز بالبروباغندا الرسمية.
يظل ما يفعله السيسي، إن رُصد، في حكم الاضطرار والمراوغة السياسية والتفاعل مع السياق، ولا يفعله مدفوعًا بدوافع قيمية حقيقية تضمن استدامة أو صدق هذه السياسات.
قبل أشهر قليلة، شكت المقاومة ضمنيًّا في برنامج وثائقي على قناة الجزيرة من استخدام قاعدة برنيس البحر جوية العملاقة، جنوب شرق البلاد، والتي افتتحت حديثًا بحضور قادة الإمارات والسعودية، لقطع مسار تهريب السلاح عن طريق البحر الأحمر/ السودان، لتصبح الصورة بهذا الشكل: حصار بحري من المتوسط ضمن العملية الشاملة “سيناء”، غلق الأنفاق، حصار بحري من مسار البحر الأحمر.
بات السيسي أكثر انتباهًا لأثر التحركات الإعلامية غير المكلفة في التأثير على الجماهير، لا سيما أن كثيرًا من الشرائح الشعبية تماهت مع حالة القوة التي يطوق بها المجتمع منذ 7 أعوام.
وأن هناك شرائح أخرى لديها ما يكفي من الاستعداد النفسي للانخراط في بروباغندا الدولة، في ظل تكثيف الاستثمار في أدوات التأثير اللاواعي مثل الدراما والسينما.
وقد رأينا شبابًا باحثين، محسوبين على التيار الإسلامي وثورة يناير/ كانون الثاني 2011، يروجون لسردية: إن موقف النظام المصري في التصعيد على قطاع غزة المحاصر مؤثر وصادق ونوعي ويستحق الإشادة.
بطبيعة الحال، لا ينفي ذلك أن هناك أسبابًا دفعت النظام المصري إلى هذا التراجع النسبي في الخطاب تجاه المقاومة، منها الإفراغ من إحكام السيطرة على المنافذ غير الرسمية مع القطاع، والتقدم المتراكم في العمليات ضد المتمردين الإسلاميين في شمال سيناء، وتقديم حماس تنازلات فكرية تتعلق بفك الارتباط الرمزي بينها وبين جماعة الإخوان (الأمّ) ضمن وثيقة حماس عام 2017.
إلى جانب نجاح المقاومة، رغم كل ذلك، في فرض نفسها قوة عسكرية قادرة على مجابهة الاحتلال وتمثيل طوائف كبيرة من الشعب الفلسطيني، وحاجة النظام المصري إلى ورقة مؤثرة في التفاوض مع الأميركيين في ملفات حقوق الإنسان وسد النهضة.
ولكن يظل ما يفعله السيسي، إن رُصد، في حكم الاضطرار والمراوغة السياسية والتفاعل مع السياق، ولا يفعله مدفوعًا بدوافع قيمية حقيقية تضمن استدامة أو صدق هذه السياسات.