أكد العدوان الصهيوني على قطاع غزة المحاصر وفلسطين المحتلة من جديد، أن الاحتلال الإسرائيلي لا يستهدف فقط كما يدعي أعضاء المقاومة بالدرجة الأولى، إنما غايته إسكات كل من يعمل على نصرة القضية العادلة، وعلى رأسهم الصحفيين ووسائل الإعلام التي تفضح جرائمه، والتي لم تستطع آلته الدعائية الضخمة إخفاءها هذه المرة بسبب حملات الدعم والنشر الرقمية.
ووسط هذا العدوان العنصري الإسرائيلي، يمارس الصحفيون الفلسطينيون مهنتهم النبيلة في ظروف صعبة، يجمع بين السبق في نقل المعلومة لفضح جرائم الاحتلال، والحرص على السلامة الجسدية من اعتداءات إرهاب يضع رجال الإعلام ضمن أولى أهدافه.
شهداء القلم
استيقظت الأسرة الإعلامية في فلسطين صبيحة الأربعاء على خبر استشهاد الصحفي والإذاعي يوسف أبو حسين، جراء قصف الطيران الإسرائيلي منزله بحي الشيخ رضوان في قطاع غزة المحاصر.
ويمارس أبو حسين الذي ولد عام 1989، وترك وراءه زوجة و3 أطفال، تقديم البرامج في إذاعة صوت الأقصى المحلية في قطاع غزة المحاصر منذ 12 عامًا.
وكان الصحفي الشهيد يدرس أيضًا العلوم السياسية في جامعة الأزهر في قطاع غزة المحاصر، لنيل درجة الماجستير في الدراسات الشرق أوسطية.
وقال عماد زقوت، مدير إذاعة الأقصى: “كان يتمتع يوسف بصوت رخيم ومميز، وكان محبوبًا من زملائه والجمهور، وكان من المفترض أن يقدم على الهواء مباشرة صباح الأربعاء برنامجه اليومي “حدث في مثل هذا اليوم” لكنه تحول هو نفسه إلى حدث اليوم”. وأضاف زقوت أن الشهيد يوسف دفن في قبر واحد إلى جوار شقيق له استشهد عام 2005.
الموت خطر يعيشه الصحفيون الفلسطينيون كل يوم، خاصة خلال فترات العدوان، وهو لا يشكل بالنسبة إلى الكثيرين منهم هاجسًا إنما قد يكون دافعًا، لأن جهاد القلم في فلسطين المحتلة جزاؤه الشهادة.
ويوسف الذي كان يعيش كغيره من الصحفيين الفلسطينيين على وقع الأخبار المؤلمة في قطاع غزة المحاصر، كان من الحريصين على نقل المعلومة لحظة بلحظة، سواء عبر منبره الإذاعي أو على حسابه الشخصي في فيسبوك.
حيث قال في آخر منشور له: “حجم الدمار في قطاع غزة لا يوصف بفعل استهداف المنازل والمدنيين، محاولات إخراج الجثث من تحت الأنقاض مستمرة حتى اللحظة، ليلة مرعبة عاشتها غزة، أطنان من المتفجرات والقذائف انهالت على الأحياء السكنية والبنى التحتية في العدوان المستمر لليوم السابع على التوالي”.
ويوسف أبو حسين ليس أول صحفي يرتقي إلى شهيد، فقد سبقه إلى ذلك الصحفي عبد الحميد الكولك الذي استشهد في 16 مايو/ أيار الجاري، جراء قصف طائرات الاحتلال منزله، الكائن في شارع الوحدة بمدينة غزة.
وكذا الصحفي محمد عبد المنعم شاهين من مخيم النصيرات، الذي غادر أرض المقدس في 12 مايو/ أيار الجاري، جراء قصف طائرات الاحتلال الغاشمة على دير البلح وسط قطاع غزة المحاصر.
والموت خطر يعيشه الصحفيون الفلسطينيون كل يوم، خاصة خلال فترات العدوان، وهو لا يشكل بالنسبة إلى الكثيرين منهم هاجسًا إنما قد يكون دافعًا، لأن جهاد القلم في فلسطين جزاؤه الشهادة.
مستهدفون
يقول الصحفي محمد لبد، العامل في شبكة “قدسنا” الإعلامية، لـ”نون بوست”، إنه وزملاءه يعملون “على تغطية الأحداث الميدانية في ظروف غاية في الصعوبة، حيث طائرات الاحتلال الإسرائيلي لا تميز بين مدني أو صحفي وعسكري مقاوم، الجميع في دائرة الاستهداف”.
وفي فلسطين المحتلة، لا يمكن لصحفي ممارسة مهنته ميدانيًّا دون ارتداء السترة الواقية، بالنظر إلى أن خطر التعرض لإصابات بنيران الاحتلال الإسرائيلي احتمال وارد في كل لحظة.
غير أن ذلك ليس متوفرًا للجميع بالنظر إلى أن تل أبيب تمنع توريدها إلى فلسطين، بحجة إمكانية وصولها للمقاومة، غير أن ذلك لا يمنع الصحفي هناك من ممارسة مهنته النبيلة حتى لو كانت بصدر عارٍ، وفي ظروف غير آمنة.
وبالنسبة إلى من يختار مهنة الصحافة في أرض أولى القبلتين، فهو في سباق مع الوصول إلى المعلومة وضمان حق الجمهور في الإعلام، وكذا تصحيح الرواية المغلوطة التي تنقلها ترسانة لا تعد ولا تحصى من الإعلام الخانع للنظرة الصهيونية.
ويقول هنا محمد لبد لـ”نون بوست”: “إننا نسعى لنقل الحقيقة للعالم وكشف تلك الجرائم التي تمارس بحق الأبرياء والآمنين في منازلهم وبيوتهم”، وهي المهمة التي تتطلب التضحية بكل شيء من أجل كفاح المعلومة ونصرة قضية فلسطين العادلة.
وأوضح محمد لبد: “غالبية الصحفيين وأنا منهم لم يروا أبناءهم وأهلهم منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المحاصر، فجميع الزملاء متواجدين في المكاتب الصحفية أو في الميادين والأماكن التي تتعرض للاستهداف، أو في المشافي لرصد عدد الشهداء والإصابات في صفوف المواطنين الآمنين في بيوتهم”.
ورغم هذه المتاعب التي تذهب أحيانًا ضحيتها أرواح الصحفيين، يؤكد مراسل قناة الجزيرة في قطاع غزة المحاصر، فأنه “لن تسقط الرسالة والحقيقة أبدًا، وسيكمل الصحفيون مسيرتهم وينقلون للعالم الأحداث في غزة”.
طائرات ومدفعية الاحتلال قصفت آلاف المنازل في قطاع غزة المحاصر، واستهدفت بشكل متعمد الصحفيين ومكاتبهم كبرج الجلاء.
ويشير الصحفي محمد لبد في تصريحه، أن استهداف الصحفيين من قبل قوات الاحتلال ليس مجرد تصادف خاطئ، إنما هو فعل مدبر.
وقال في هذا الإطار: “إن طائرات ومدفعية الاحتلال قصفت آلاف المنازل في غزة، واستهدفت بشكل متعمد الصحفيين ومكاتبهم كبرج الجلاء الذي دمرته الطائرات الحربية الإسرائيلية، ويضم مكتب قناة الجزيرة القطرية وعدد من وكالات الأنباء العالمية”.
ويضيف: “كما أن القصف استهدف زملاء مصورين وصحفيين، وآخر تلك الجرائم هو قصف الاحتلال منزل الصحفي الذي يعمل في إذاعة صوت الأقصى المحلية يوسف أبو حسين، والذي استشهد على الفور”.
مكملًا: “الوضع الإنساني هنا غاية في الصعوبة و”إسرائيل” لا تحترم القانون الإنساني ولا القانون الدولي، الذي يضمن حماية الصحفيين وحرية العمل الصحفي”.
انتهاكات بالجملة
لا تمثل الاعتداءات الصهيونية على رجال الإعلام في فلسطين المحتلة أحداثًا منعزلة، بل هي ممارسات إجرامية تتكرر كل يوم، وفق ما توثقه المؤسسات المحلية المستقلة التي تعنى برصد الخروقات المرتكبة في حق الصحفيين.
وتشير وحدة الحماية القانونية للصحفيين التابعة لبيت الصحافة في فلسطين المحتلة، في آخر نشرة لها حول انتهاكات الحريات الإعلامية في قطاع غزة المحاصر، أثناء العدوان الإسرائيلي على القطاع في الفترة ما بين 11-19 مايو/ أيار الجاري؛ إلى ارتكاب قوات الاحتلال 69 انتهاكًا للحريات الإعلامية في القطاع، طالت 36 صحفيًّا، و31 مؤسسة إعلامية.
وإضافة إلى استشهاد صحفيين، سجلت مؤسسة بيت الصحافة 9 إصابات جسدية في صفوف الصحفيين، و4 إصابات بالهلع أو الصدمة، و26 ضررًا كليًّا بمؤسسات صحفية، و7 أضرار جزئية بمؤسسات صحفية، و14 منزلًا يقطنها صحفيون قد تعرضت لأضرار نتيجة القصف، و5 عمليات تدمير لمعدات صحفية، كما شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي 3 هجمات سايبر على وكالات أنباء فلسطينية في قطاع غزة المحاصر.
وبدورها، سجلت لجنة دعم الصحفيين 78 انتهاكًا في قطاع غزة المحاصر، شن الاحتلال خلالها هجومًا عنيفًا بحق المؤسسات الصحفية، موقعًا 3 شهداء إعلاميين.
إضافة إلى إصابة أكثر من 10 صحفيين بجروح وكسور ورضوض جراء استهدافهم بشكل مباشر من قبل طائرات الاحتلال خلال قصفهم لمنازلهم، أو خلال تغطيتهم جرائم الاحتلال بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة المحاصر.
وفي القدس والضفة المحتلتين، تشير إحصاءات اللجنة ذاتها إلى تسجيل أكثر من 52 حالة إصابة واعتداء بالرصاص المطاطي وقنابل الغاز والصوت، والضرب العنيف بأعقاب البنادق من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي على الصحفيين، خلال تغطيتهم جرائم الاحتلال بحق المقدسيين في حي الشيخ جراح، وخلال تغطيتهم الفعاليات والمسيرات المناهضة للاستيطان في الضفة الغربية المحتلة.
يبقى الصحفيون الفلسطينيون يواصلون عملهم في هذه الظروف الصعبة، التي تجعلهم في كثير من المرات من ناقلين للحدث إلى أن يصبحوا الحدث نفسه.
وتطالب لجنة دعم الصحفيين المجتمع الدولي بالعمل فورًا على ضمان حماية وأمن الصحفيين في الأراضي المحتلة، واتخاذ كافة الإجراءات الكفيلة بعدم إفلات الاحتلال الإسرائيلي مرتكب الجرائم بحقهم من العقاب.
وذلك وفقًا لالتزاماته بموجب القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة وخصوصًا القرار رقم 1788 وكذلك القرار رقم 2222، اللذين اتخذهما مجلس الأمن وينصان على حماية الصحفيين أثناء النزاعات المسلحة.
غير أن هذه المطالب الفلسطينية تبقى للأسف غير مسموعة من مجتمع دولي جبان صار بيد الصهيونية العالمية، وحتى من تلك المنظمات التي تدعي الدفاع عن الصحفيين وحرية التعبير.
ومنها على سبيل المثال منظمة مراسلون بلا حدود، التي تستنكر اليوم عدم سماح “إسرائيل” للصحفيين الأجانب بدخول قطاع غزة المحاصر، وتدعو المحكمة الجنائية الدولية لإجراء تحقيق في القصف الإسرائيلي الذي استهدف برج الجلاء في قطاع غزة، باعتباره “جريمة حرب محتملة”.
إلا أنها تصنف الكيان الصهيوني رغم جرائمه الفظيعة في حق الصحفيين على طول العام، في المرتبة 86 عالميًّا فقط في حرية الصحافة من أصل 180 دولة.
ومهما كانت هذه التصنيفات المتواطئة مع الاحتلال الإسرائيلي، والتي تشجعه على ارتكاب أفظع الجرائم أمام أعين العالم، مثلما حدث في قصف برج الجلاء، يبقى الصحفيون الفلسطينيون يواصلون عملهم في هذه الظروف الصعبة، التي تجعلهم في كثير من المرات من ناقلين للحدث إلى أن يصبحوا الحدث نفسه.