ترجمة وتحرير: نون بوست
يجمع “كتاب رام الله” عشر قصص قصيرة لعشرة مؤلفين فلسطينيين بينهم ناشئون وآخرون معروفون عالميًا، وتصور قصصهم سرابًا عن مدينة فلسطينية مستقلة محاطة بنقاط تفتيش واقعيّة، وحيث تتعرض عقول الشخصيات واستقلاليتها دائمًا للتهديد، وتكون رواياتهم موضع تساؤل دائم.
على غرار الكتب الأخرى الصادرة ضمن سلسلة “قراءة المدينة” من دار النشر “كوما برس”، يجمع “كتاب رام الله” من تحرير الكاتبة الفلسطينية المقيمة في القدس مايا أبو الحيات مؤلفين من خلفيات وأجيال مختلفة كُتبت قصصهم وفق أنماط متنوعة تتراوح بين الواقعية الرومانسية والهجاء والسريالية.
ما تقدّمه هذه القصص ليس صورة موحدّة عن رام الله. وإجمالا، فإن هذه الصور المختلفة لرام الله أكثر هدوءًا بكثير من قصص المدينة المذكورة في “كتاب القاهرة” و”كتاب الخرطوم”، بينما أقل سوداوية وأكثر تهكما من القصص الموجودة في “كتاب غزة”.
مع ذلك، تكافح شخصيات هذه القصص بأسلوبها الهادئ للسيطرة على حياتها والعالم من حولها، وتحارب الأعراف الاجتماعية وتقلبات الذاكرة والقيود التي فرضها كوفيد-19. لكن الأهم من ذلك كله أن هذه الشخصيات تحارب من أجل الاستقلال الذاتي في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي.
يُستهلّ الكتاب بمقدمة تعطي نبذة مختصرة عن تاريخ المدينة، وعلى عكس القدس أو بيت لحم المجاورة ليس لرام الله تاريخ حافل. كتبت مايا أبو الحيات أن رام الله كانت لفترة طويلة قرية مسيحية صغيرة تأسست في وقت مبكر من القرن السادس عشر، وظلت إلى حد كبير متخفّية إلى أن أصبحت تحظى بأهميّة مفاجئة خلال اتفاقيات أوسلو، عندما تم تصنيفها “منطقة أ” ووضعها تحت سيطرة السلطة الفلسطينية.
بعد توقيع اتفاقات أوسلو في 1993 و1995، عاد العديد من الأدباء الذين كانوا في المنفى، ومن بينهم محمود درويش، إلى المدينة. وقد وثّق مريد البرغوثي في رواية “رأيت رام الله” التغريبة الفلسطينية من زاوية شخصية. لكن الاستقلال الذاتي الموعود لم يتحقق. وتشير أبو الحيات إلى أن رام الله تمثل بالنسبة للعديد من الكتاب “بصيص أمل غير حقيقي”.
‘أخرج من بيتي’
من بين أروع القصص القصيرة المحبطة في هذا الكتاب قصّة “أخرج من منزلي” لزياد خداش التي ترجمها رفائيل كورماك. تبدأ القصّة عندما يدخل الراوي، الذي يدعى زياد خداش، إلى منزل يعتقد أنه ملكه ليجد داخله امرأة “تحمل سكينا وعلى وشك الصراخ”، فيسألها خداش عما تفعله في منزله، فتجيبه بنفس السؤال.
كان كل واحد منهما على اقتناع بأن هذا بيته، فيما يبدو أنه صدى واضح للصراعات من أجل السيطرة على فلسطين. يشير كل واحد منهما إلى أشياء مختلفة كدليل على أن المنزل ملكه. وعندما تسحب المرأة جواز سفرها من الدرج، يلاحظ الراوي أن الاسم المكتوب عليه هو “زياد خداش”، بينما ترى هي أن الاسم هو اسم زوجها “أيمن شريف”. لكن عندما وصل ضابط شرطة لحلّ النزاع، قرأ الاسم الموجود في عقد الإيجار وهو “سمير خالد”.
أخيرا، يصل مالك المنزل – الذي يمثّل على الأغلب السلطة العليا – ليخبرهم بأنه يؤجر المكان لطالب يدعى فادي مقيم بشكل مؤقت في جنين. يغادر الراوي المنزل المتنازع عليه ويتجول بهدوء في رام الله وهو “يدخّن منتظرا ما سيحصل” ليأخذنا في جولة معه في شوارعها.
“الحب في رام الله”
تَربِط العديد من القصص الاستقلالية بالحب الرومانسي، على غرار قصّة ليانة بدر بعنوان “حديقة تشرب فقط من السماء” وقصّة إبراهيم نصر الله “الحب في رام الله” المثيرة للغضب واللطيفة في آن واحد. يمكن أيضا إطلاق عنوان “الحب في الاحتلال” على هذه القصة التي ترجمها محمد غلاييني لما تحتويه من حكايات متشابكة عن الحب يقيدها جنود الاحتلال.
تدور أحداث قصّة “الحب في رام الله” خلال سنوات اتفاقات أوسلو الأولى، ويبدأ الجزء الأول بشابة تطرق باب بيت يقطنه رجل لا تعرفه لكنها قرأت مسرحية عن حياته وسنواته في سجن إسرائيلي وأصبحت ترغب في الزواج من هذه الشخصية الرومانسية. يستمتع الرجل الذي في الداخل، والذي يدعى ياسين، بوجود هذه المرأة التي وقعت في حب قصته.
في قصة الحب الثانية، تُفرض قصة حب زائفة مسيئة نفسها على غريبين. كان ياسين على متن حافلة مع صديقه نعيم عندما أوقفهما جنود إسرائيليون عند حاجز عيون الحرامية خارج رام الله. يقول الراوي “لم يمض يوم دون تمركز الجنود في هذا المكان”. ذكر نعيم “في البداية، انتشر الجنود البريطانيون ثمّ جاء الأردنيون والآن الجنود الإسرائيليون”، ويردف مازحًا “يومًا ما سيكون لدينا نحن الفلسطينيين نقطة تفتيش هنا”.
دون وجود سبب وجيه، انصبّ تركيز الجنود الإسرائيليين على نعيم وأبوا أن تمرّ الحافلة إلا إذا قبّل شابة أشاروا إليها في الحافلة. قال له أحد الجنود: “أنتم الفلسطينيون تتحدثون دائمًا عن اتخاذ قرارات مستقلة”، ليضغط على نعيم لاتخاذ قرار إمّا أن يوقف الحافلة أو يفرض نفسه على شابة غريبة.
رفض نعيم تقبيل الفتاة لكنّ الجندي لم يقبل هذا “القرار المستقل”. وبدلاً من ذلك، وجّه ضربة لنعيم بمؤخّرة بندقيته حتى يجبر الفتاة على طلب قبلة منه ويجبر نعيم على الإذعان للأمر. حينها، “تعالت هتافات الجنود وكأنهم يحتفلون بهدف الفوز الذي سجله فريقهم، بينما تذمر الآخرون من فرط الاستياء”.
في الفصل الثالث، ينزل ياسين من الحافلة ويصل إلى منزل عمته حيث يتبادل الاثنان أطراف الحديث عن الحب والتقاليد الاجتماعية. ترى العمّة أنّ المجاهرة بالحب أمام العامة يعدّ أمرا مخزيا بعض الشيء، بينما يعتقد ياسين أن التبجّح بالحرب هو الشيء الذي يجب أن يخجل الناس من فعله.
بعد ذلك، تصل دورية للجيش كانت متمركزة بالقرب من المنزل، حينها تنادي عمة ياسين زوجها في محاولة لتشتيت انتباه الجنود عن حضور ابن أخيها الذي كان سجينا سابقًا أو ربما تأثرا بالمحادثة التي جدّت بينهما، وإذ بها تقول له بصوت جهوريّ: “أنا أحبك”. بعد لحظة من التردد، أجاب زوجها بأنّه يحبها أيضًا. يبدو الارتباك على الجنود ويعلّق أحدهم: “رجل عجوز وامرأة مسنّة يجاهران بحبهما لبعضهما البعض! يال هؤلاء الفلسطينيين المجانين الملعونين”.
“على حاجز قلنديا”
في المقدّمة، تصف أبو الحيات الطرق المختلفة التي يمكن من خلالها الاقتراب من رام الله فتقول: “إذا كنت تقود سيارتك من الجنوب، سيتعين عليك المرور عبر حاجز قلنديا الذي يفصل القدس عن رام الله. وإذا كنت قادمًا من الشمال، فيجب أن تمر عبر نقاط تفتيش مشابهة أو أقل شهرة”.
إن نقاط التفتيش حاضرة في هذه القصص بشكل مكثّف. فهي أماكن تعكس خيبة الأمل والقسوة، كما هو الحال في تجربة نعيم في “الحب في رام الله”. وفي قصة ليانة بدر “حديقة تشرب فقط من السماء”، تم تفريق امرأة عن حبيبها عند إغلاق نقاط التفتيش وهو الأمر الذي سينهي علاقتهما. لكنّهما كانا أيضًا مصدرًا للعبثية والكوميديا السوداء، على غرار قصة خالد حوراني “سردا، سردا! رام الله، رام الله!” وقصة “على حاجز قلنديا” لأمير حمد.
تمحورت رواية “على حاجز قلنديا” التي ترجمتها بسمة غلاييني بالكامل تقريبًا حول نقاط التفتيش. تبدأ الرواية بنبرة غاضبة حيث يقول الراوي “ها نحن ذا مرة أخرى. المزيد من الانتظار. في المجمل يستطيع الإنسان أن يقضي 15 عامًا في حاجز قلنديا”.
يتحدث الراوي بشيء من السخرية: “تمّ جلب فريق من علماء الأنثروبولوجيا لخلق شيء مفيد بدل الوقت الضائع عند نقطة التفتيش. تشير دراسة نرويجية إلى احتمال تدخين السلمون وسط أبخرة المواجهات عند نقاط التفتيش”.
في هذا السرد الساخر اللطيف، يكتشف القارئ أن الراوي وُلد عند نقطة تفتيش وأنه أنقذ زواج والديه بنطق كلمته الأولى “محسوم”، وهي مزيج من عبارة لا تكاد تُفهم تعني بالعامية العبرية والفلسطينية “الحاجز”، حتى يصرف انتباه والديه عن الجدل. هناك القليل جدًا من رام الله أو أي مدينة أخرى في هذه القصة. في الواقع، لا يكاد يوجد أي شيء خارج نقاط التفتيش.
إن جوهر العلاقة الأساسية في هذه القصة بين الراوي وضابط إسرائيلي قابله عند نقطة تفتيش. على غرار الشخصيات الأخرى في المجموعة، يكافح الراوي في قصة حمد من أجل السيطرة على عالمه. وبينما استعادت عمة ياسين بعض السيطرة من خلال إعلانها عن حبها لزوجها، يستعيد الراوي هنا بعضًا من السيطرة على عالمه من خلال روح الدعابة التي يتمتع بها.
إذن كيف هي مدينة رام الله؟ حسب ما كتبته أبو الحيات في مقدمتها، فإن رام الله بالنسبة للكثير من الكتّاب حلم لم يتحقق. لكنها أيضًا مدينة حية “تختبر دائمًا المدى الذي يمكن أن تذهب إليه، وتجرب ما هو ممكن، وتخضع للأحكام وفقا لذلك”. تتجاوز القصص أيضًا الحدود الأسلوبية والسردية، وتُريك إلى أي مدى يمكن رسم صورة الحياة في المدينة.
إن رام الله مدينة صغيرة ولكنها موطن للعديد من الموارد الثقافية والتعليمية في فلسطين، ما يجذب إليها الناس من جميع أنحاء فلسطين وخارجها. تبدو رام الله في هذه المجموعة القصصية وكأنها محطة حافلات كبيرة، حيث يأتي الناس ويذهبون، ولا تُعرف المقاعد لمن، في هذه المدينة الممنوع فيها السفر تمامًا. ومع ذلك، هناك أيضًا لحظات من الكوميديا السوداوية، والحب الدافئ، والنعم السامية.
المصدر: ميدل إيست آي