لم يذهب إلى فرنسا لينتصر لنا بل ذهب ليحمي نفسه من فضيحة حكمه. لقد يقن قطاع أغلبي يمكن قياسه دون مؤسسات سبر الآراء الموالية له، أن الرجل لم يعد لديه ما يقدمه للبلد.
وأنه دخل مرحلة إنقاذ نفسه من فراغات فكره، وهو يتوسم في الفرنسي خيرًا وقد بذل ما طلب منه ليحظى بالسند الفرنسي. وعلينا الآن أن نتحدث مع فرنسا مباشرة، فهو لم يعد يمثل طموح الناس.
زيارة إلى بلد أجنبي بلا برنامج معلن للناس ولا خطاب كاشف، ولكننا استقينا بعد طول بحث أن حديث الأموال المهربة من زمن بن علي كانت مطروحة. ولكن لم نسمع عنها خبرًا في الظهور العلني للرئيسيَن، ولا تسربت من كواليس الزيارة إفادة واحدة بأن الموضوع قد طرح.
واللقاء الصحفي الوحيد (مع صحفي تونسي يعمل بقناة فرانس 24) قال فيه سوءًا لا يغتفر، تونس ليست مناخًا استثماريًّا. لننسَ الأموال المنهوبة إذًا. هذا الرجل ذهب يخرب بلاده ولا يبنيها.
ذهب تاركًا الناس تموج وقلوبها مشدودة إلى ما يجري بالأرض المحتلة، فإذا هو يقبل على نفسه الحضور في مشهد يدين المقاومة ويجرّم فاعلها وينصر عليها عدوها. سنصنف هذه الزيارة كفضيحة دولة.
ذهب يبحث عن مدد سياسي
تفيد الأخبار الرائجة منذ تنصيب الإدارة الأميركية الجديدة، بوجود مشروع أميركي للمنطقة، يتخذ من شمال أفريقيا قاعدة لغزو إفريقيا وقطع الطريق على حلفٍ سياسي واقتصادي تشكل ضد الإدارة الأميركية، ويتألف من الصين وفرنسا وروسيا هدفه إفريقيا.
هذا المشروع الذي لم تتضح لنا كل معالمه، كشف عن نفسه بمساندة الحلول السياسية في ليبيا وإنهاء الحرب الأهلية، التي كانت تسعرها فرنسا وحلفها العربي ( الإمارات ومصر)، عبر مساندة حفتر وتمويله بالخبرة والسلاح.
القضاء على حفتر أو الحد من دوره كشف الرهان الفرنسي وأخسره، ما كشف للمتابع أن سياسة فرنسا وأميركا في المنطقة قد اختلفت، ووجودهما معًا في حلف الناتو لم يعد يكفي لبناء سياسات مشتركة خارج الحلف.
انحاز الرئيس التونسي إلى الموقف الفرنسي، وحاول نصرة حفتر وحلفه، ونسق سياسته الخارجية مع النظام المصري، ما جعله يقف في صف الخاسرين في ليبيا (وقد فوت على بلده الكثير من غنيمة إعادة إعمار ليبيا التي تناهبتها الدول).
ووجد نفسه تابعًا للموقف الفرنسي، بل ذهبت تسريبات كثيرة إلى أنه سافر إلى ليبيا فجأة ليتوسط للشركات الفرنسية لدى الحكومة المؤقتة في طرابلس، وعاد من هناك بخفي حنين.
بناء عليه، نعتقد أنه لم يعد محل ثقة ضمن الخطة الأميركية المستقوية بموقف إنجليزي وتركي وإيطالي، تختلف في تقدير مصالحها وتحركاتها عن التقدير الفرنسي، بل ربما تقوم ضد فرنسا وتعمل على إقصائها من النفوذ على منطقة المتوسط وإفريقيا.
وقد كشفت المكالمة التي أجرتها معه نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس، أن تعطيله للمؤسسات الديمقراطية وخاصة المحكمة الدستورية ليس مقبولًا أميركيًّا، وقد قرأ العارفون باللغة الدبلوماسية أن المكالمة احتوت ضمنًا تنبيهات شديدة اللهجة.
إزاء هذه الضغوطات، لا يمكن قراءة الزيارة إلا كبحث عن مدد سياسي.
لقد صيغت الزيارة في إطار أوسع، حيث كانت تجميعًا لعدد من الرؤساء الأفارقة بدعوة فرنسية. ولكن هذا الإطار الموسع يؤكد المعنى، ففرنسا الداعية ترى مناطق نفوذها ومصالحها في إفريقيا مستهدفة، لذلك دعت حلفاءها للاستقواء بهم.
وهؤلاء الحلفاء المحتاجون للدعم بدورهم، ذهبوا يستقوون بفرنسا ضد أخطار يستشعرونها (الشعور بالخطر الأميركي يؤكد وجود هذا الخطة الأميركية للمنطقة، والتي يشكك الكثير في وجودها ويعتبرها دعاية سياسية بلا مضمون).
هل حصل الرئيس على الدعم الذي يريد؟ نظن أنه استعان بقاصر لذلك عاد فارغ الوفاض.
يحق لنا تقييم الزيارة
تونس مضطربة سياسيًّا، ولذلك هي ليست مناخًا استثماريًّا مغريًّا. هكذا وصف الرئيس بلده على قناة تلفزيونية أجنبية.
يمكن أن نكتفي بهذه لنحكم على نتائج الزيارة، لكن أن يظهر الرئيس في موضع البحث عن مساندة ودعم لنظام السودان الجديد، فإن الوضع يتحول إلى نكتة سخيفة.
فبلد الانتقال الديمقراطي السلمي المعادي للصهاينة والمساند المطلق للحق الفلسطيني، يعمل رئيسه المنتخب ديمقراطيًّا على مساندة نظام انقلابي خرّب ثورة وسار في طريق التطبيع بخطى عملاقة.
البلد المضيف الذي يصنف نفسه بلد الحريات والديمقراطية يقف مع الانقلابي المطبع، بل يجبر البلد الديمقراطي على مساندة المطبع الانقلابي.
بماذا عاد الرئيس من رحلته؟ لقد عاد بعار لا يمحى، لقد حقّر بلده وتجربة الديمقراطية التي سمحت له، وهو المواطن المجهول، أن يصير رئيسًا.
الرسالة واضحة ويمكن اختصارها على القارئ، بل هي تستعيد قواعد الحكم والوصول وقواعد البقاء فيه قبل الربيع العربي: التطبيع شرط نيل السلطة وشرط البقاء فيه.
لذلك زيارة فرنسا تحمل نفس غايات زيارة مصر: بناء العلاقة النافعة مع صف التطبيع العربي ومموليه الغربيين، وفي مقدمتهم فرنسا الصهيونية أكثر من الصهاينة.
وقد حدث هذا فيما الشعب المسكين يرنو إلى المعركة الدائرة في الأرض المحتلة، ويساندها بما ملكت يده. ذهب الرئيس إلى فرنسا ليخذل نضال شعبه مقابل البقاء في سدة الحكم. هذا الشعب الذي انتخبه من أجل تلك الجملة اليتيمة: “التطبيع خيانة عظمى”.
رب خديعة تصير درسًا بليغًا
لم يصل إلى السلطة إلا لأنه “مخدوم” على التطبيع. لقد تمت تهيئته ومهّد له الطريق، وها هو يضمن بقاءه فيها بالمزيد من التطبيع في قمة معركة تحرير، ولا نستبعد أن يقترح نفسه (أن يقترحوه بالأحرى) لفترة ثانية.
وجب أن ننظر إلى الخديعة في وجهها. لقد خدعنا و”انضحك علينا”. والعزاء الوحيد من جهلنا هو طيبتنا.
فالمهجة الشعبية مع فلسطين المحتلة منذ النكبة، عندما ترك أجدادنا المحتل الفرنسي مهيمنًا هنا، وساروا راجلين للمساهمة في دحر الكيان الغاصب.
لقد تسرب إلينا المخادع من محبتنا للحرية ولفلسطين المحتلة. ولا نظنه ينتبه أن الموالين له في هذه اللحظة يقفون مع العدو ويبررون له صنيعه. لن نحتاج إلى تسميتهم: إنهم حزب فرنسا.
تكتمل الدائرة. فرنسا تدعو وتأمر بالتطبيع ولا تقدم مساعدة إلا لنظام مطبّع، بل تجبر النظام الديمقراطي على التطبيع في الداخل.
حزب المطبعين يلتف بالرئيس ويجبره على الانحياز ضد شعبه، بينما يساهم في معركة حرية. ويتوج الرئيس المسخرة بأن بلده ليس مناخًا استثماريًّا جيدًا.
ماذا أبقى لنا الرئيس لنظن أنه رئيس؟ لقد سقط من أرواحنا التي أمَلَت منه خيرًا ذات يوم. فليحتفظ بالكرسي حتى حين، ومع الكرسي نعل الرئيس الفرنسي وسادة.
لقد كان درسًا قاسيًا، لكنه درس تبنى عليه الديمقراطية الصلبة التي لا تنخدع. وجزى الله الشدائد كل خير.