كيف يسقط المسلمون هذا السقوط المريع وفيهم أسباب الصعود وبين أيديهم كل ما ارتقى به أسلافهم؟
بحث كاتب هذا القول عن إجابة طول حياته لسؤاله، كما عمل على صنع إجابة بنفسه لتغيير الواقع العربي والإسلامي المنهار منذ عشرات السنوات.
فكان قلمه ولسانه وحضوره مسخرين للدفاع عن الأمة وقضاياها والسير نحو التحرر والاستقلال وتغيير الواقع المزري، فسار في البلدان ونظر في أحوال العالم العربي، وكل ذلك كان بموازاة الدفاع عن قضية بلاده المحتلة من قبل فرنسا.
إنه العالم الجزائري الكبير محمد البشير الإبراهيمي، صديق العلامة عبد الحميد بن باديس، الذي قال عنه الشيخ علي الصلابي: “قبل أن يكون الإمام محمد البشير الإبراهيمي مفكرًا مصلحًا وسياسيًّا محنكًا، كان أديبًا بليغًا، وشاعرًا وخطيبًا مفوهًا، عالمًا فقيهًا في العربية، خبيرًا بأسرارها، متضلعًا في آدابها وفنونها، إلى جانب علمه بالتفسير وبالحديث وعلومه وبالفقه وأصوله”.
عائلة العلماء
ولد البشير الإبراهيمي في يونيو/ حزيران 1889، في قرية رأس الوادي شرقي الجزائر، وكانت أسرة الإبراهيمي ذات تاريخ بالعلم والإفتاء في المسائل الدينية، إضافة إلى أنها كانت ملاذًا لطلبة العلم، حيث كانت بيوت العائلة تستقبل الطلاب وتهتم بحاجاتهم.
بدأ البشير الإبراهيمي في حفظ القرآن الكريم في سن الثالثة على يد عمه الشيخ المكي الإبراهيمي، وكان لعمه يد طولى في نشأته وتعليمه، وانتبه المكي أن ابن أخيه يمتلك ذاكرة قوية ومهارة عجيبة بالحفظ، فنظّم له وقت تعليمه.
وعند سن التاسعة كان البشير قد أتم ختم القرآن حفظًا، كما أتقن حفظ المتون المهمة في العلوم، إضافة إلى دراسة النحو والفقه والبلاغة. توفي عمه سنة 1903 تاركًا وراءه تلميذًا نجيبًا وعالمًا متمكنًا، فخلفه الإبراهيمي في التدريس.
خرج والد البشير الإبراهيمي إلى المدينة المنورة هربًا من الظلم الفرنسي في الجزائر ليلحق به البشير، وفي طريق الإبراهيمي الابن إلى الحجاز توقف في مصر ليتلقّى بعض العلوم في الأزهر ويلتقي ببعض الشخصيات، أهمها أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، ليستأنف رحلته بعد 3 أشهر، وكان أكبر شيوخه في دراسته الشيخ العزيز الوزير التونسي، والشيخ حسين أحمد الفيض أبادي الهندي.
قال البشير الإبراهيمي: “كانت إقامتي بالمدينة المنورة أيام خير وبركة عليّ، فكنت أنفق أوقاتي الزائدة في إلقاء دروس في العلوم التي لا أحتاج فيها إلى مزيد كالنحو والصرف والعقائد والأدب، وكنت أتردد على المكتبات الجامعة، فلا يراني الرائي إلا في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، حتى استوعبت معظم كتبها النادرة قراءة، وفي المكتبات الغاصة بالمخطوطات”.
اللقاء مع ابن باديس
خلال إقامة الإبراهيمي في المدينة المنورة، التقى بالشيخ عبد الحميد بن باديس، ولازمه طيلة فترة إقامته، وكانا يقضيان الليل يدرسان أوضاع الجزائر، ويبحثان شروط ووسائل نهضتها.
وبالتزامن مع زيارة ابن باديس، زار الشيخ العربي بن بلقاسم بن مبارك بن فرحات التبسي في المدينة، والتقى معهما بالإضافة إلى الشيخ الطيب بن محمد العقبي.
وكان لقاء هؤلاء الأربعة له ما بعده، فقد أسسوا لعمل إسلامي جهادي كبير، وتبلورت خطتهم الإصلاحية لمقاومة المخططات الفرنسية في الجزائر.
في دمشق
عندما قام الشريف الحسين بثورته على الأتراك، وبدأ وجيشه قتال الأتراك وحوصرت المدينة المنورة، وبسبب الحصار وقلة الطعام أجْلَت الحكومة التركية سكان المدينة المنورة إلى الشام وتركيا؛ غادر الإبراهيمي المدينة إلى دمشق عام 1916، حيث اشتغل في دمشق بالتدريس، وشارك في تأسيس المجمع العلمي الذي عمل على تعريب المؤسسات الحكومية.
قال الإبراهيمي عن فترة جلوسه في دمشق ولقائه بشخصياتها: “ولقد أقمت بين أولئك الصحب الكرام أربع سنين إلا قليلًا، فأشهد صادقًا أنها هي الواحة الخضراء في حياتي المجدبة، وأنها هي الجزء العامر في عمري الغامر، ولا أكذب الله، فأنا قرير العين بأعمالي العلمية بهذا الوطن؛ الجزائر، ولكن… مَن لي فيه بصدر رحب، وصحب كأولئك الصحب؛ ويا رعى الله عهد دمشق الفيحاء وجادَتْها الهوامع وسقت، وأفرغت فيها ما وسقت، فكم كانت لنا فيها من مجالس نتناقل فيها الأدب، ونتجاذب أطراف الأحاديث العلمية”.
العودة وجمعية العلماء
عاد الإبراهيمي عام 1920 إلى الجزائر، ليبدأ دعوته إلى الإصلاح ونشر التعليم الديني، وبدأ ذلك في مدينة سطيف، وكانت حكومة المستعمر الفرنسي حينذاك تسيطر على المساجد.
إلى ذلك كان عبد الحميد بن باديس قد عاد إلى الجزائر قبل الإبراهيمي بسنوات، واستقر في مدينته قسنطينة، وعمل على وضع مؤسسة دعوية تشمل الجزائر.
ومن هنا انطلقت فكرة تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأُعلن عن تأسيس الجمعية عام 1931 في نادي الترقي في العاصمة.
حضر الاجتماع التأسيسي أكثر من 70 عالمًا من مختلف مناطق الجزائر، ومن شتى الاتجاهات الدينية والمذهبية، وانتخبوا مجلس إدارة للجمعية يتكون من 13 عضوًا برئاسة الشيخ ابن باديس، واختاروا البشير الإبراهيمي نائبًا له.
بادر الإبراهيمي لما ندبته إليه الجمعية، فأسس المدارس الحرة، وبث روحًا إسلامية جديدة في غرب الجزائر، مستخدمًا ما آتاه الله من براعة في الخطابة والأدب.
وما لبثت الفئات المتنفذة المتعاونة مع فرنسا من السياسيين والطُرقيين أن تنبهت لما يمثله من تهديد، فبدأت في معاداته وسعت وراء إبعاده، ولكن الشيخ استمر في نشاطه، وبرزت المدارس العربية في وهران التي كانت تعتبر معقلًا حصينًا للصوفية الطرقيين.
بعد كتابته لأحد المقالات، نفت السلطات الفرنسية البشير الإبراهيمي عام 1940 إلى منطقة أفلو بالجنوب الغربي للجزائر، وبعد أسبوع من نفيه مات الشيخ ابن باديس، وتم انتخاب الإبراهيمي رئيسًا لجمعية العلماء المسلمين وتولى رئاستها في منفاه لمدة 3 سنوات.
وفي عام 1945 اعتقلت فرنسا الإبراهيمي ووضعته في السجن العسكري الفرنسي، ولاقى تعذيبًا كبيرًا، ثم أطلق سراحه عام 1946 وأنشأ جريدة “البصائر” وتولى رئاسة تحريرها، بالإضافة إلى أنه أسس معهدًا أطلق عليه اسم رفيق دربه الشيخ عبد الرحمن بن باديس.
أسهم الإبراهيمي في التعريف بالقضية الجزائرية، وعمل من خلال الجمعية التي يرأسها على تأسيس مراكز ومدارس لتخريج قيادات للثورة المسلحة، ويذكر أنه أنشأ 73 مدرسة في عام واحد.
سافر الإبراهيمي إلى بعض الدول العربية لحث الحكومات على استقبال بعثات طلابية من بلاده ومن الدول التي زارها، التي هي مصر والسعودية والعراق وسوريا والأردن والكويت وباكستان.
الإبراهيمي واللغة
اهتم الشيخ الإبراهيمي باللغة العربية، حتى أن البعض وصفه بجاحظ العصر، وكافح مكافحة عظيمة في الجزائر لإعادة العربية وترسيخها في المجتمع، بعد أن حاولت فرنسا محو العربية وجعل الفرنسية هي لغة الجزائريين.
وكان الإبراهيمي يؤمن إيمانًا مطلقًا بأن اللغة العربية هي “وعاء الإسلام وحافظة قرآنه وتراثه، وأن المحافظة على اللغة العربية في الجزائر تعني بقاء الإسلام في الجزائر، وبقاء العروبة في الجزائر، وأن محاولة فرنسا القضاء عليها إنما يستهدف عروبة الجزائر وإسلامها في الدرجة الأولى”.
كما يقول الشيخ الإبراهيمي: “اللغة العربية في الجزائر ليست غريبة ولا دخيلة، بل هي في دارها وبين حماتها، وأنصارها، وهي ممتدة الجذور مع الماضي، مشتدة الأواخي مع الحاضر، طويلة الأفنان في المستقبل، ممتدة مع الماضي لأنها دخلت هذا الوطن مع الإسلام، على ألسنة الفاتحين، ترحل برحالهم، وتقيم بإقامتهم، فلما أقام الإسلام بهذا الشمال الإفريقي إقامة الأبد وضرب بجرانه فيه أقامت معه العربية، لا تريم ولا تبرح، ما دام الإسلام مقيمًا لا يتزحزح. ومن ذلك الحين بدأت تتغلغل في النفوس، وتنساغ في الألسنة واللهوات، وتناسب بين الشفاه والأفواه، يزيدها طيبًا، وعذوبة أن القرآن بها يتلى، وأن الصلوات بها تبدأ وتختم”.
نداء الثورة
وجّه الإبراهيمي عام 1962 نداءً للشعب الجزائري لدعم الثورة المسلحة، وقال في تحريضه على الثورة: “إن شريعة فرنسا أنها… تنظر إليكم مسالمين أو ثائرين نظرة واحدة… ووالله لو سألتموها ألف سنة، لما تغيرت نظريتها العدائية لكم، وهي بذلك مصممة على محوكم، ومحو دينكم وعروبتكم، وجميع مقوماتكم، إنكم مع فرنسا في موقف لا خيار فيه، ونهايته الموت، فاختاروا ميتة الشرف على حياة العبودية التي هي شر من الموت”.
النفي
اضطر الإبراهيمي بعد الاستقلال للتخفيف من نشاطاته وكانت صحته قد بدأت بالتدهور، إضافة إلى أن الحكومة حينها ضيّقت على الشخصيات الإسلامية.
وفي عام 1964 أصدر بيانًا انتقد حكومة الرئيس أحمد بن بلة لتخليها عن المبادئ الإسلامية، وعلى إثر ذلك تم وضعه في الإقامة الإجبارية حتى وافته المنية في 20 مايو/ أيار 1965.
وجاء في الرسالة التي وُضع تحت الإقامة الجبرية من أجلها: “ولكن المسؤولين -في ما يبدو- لا يدركون أن شعبنا يطمح قبل كل شيء إلى الوحدة والسلام والرفاهية، وأن الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم، يجب أن تنبعث من صميم جذورنا العربية الإسلامية، لا من مذاهب أجنبية. لا لقد آن للمسؤولين أن يضربوا المثل في النزاهة وألا يقيموا وزنًا إلا للتضحية والكفاءة، وأن تكون المصلحة العامة هي أساس الاعتبار عندهم، وقد آن أن يرجع لكلمة الإخوة -التي ابتذلت- معناها الحق، وأن نعود إلى الشورى التي حرص عليها النبي صلى الله عليه وسلم. وقد آن أن يحتشد أبناء الجزائر كي يشيدوا جميعًا مدنية تسودها العدالة والحرية، مدنية تقوم على تقوى من الله ورضوان”.
مؤلفات وصفات
رحل الإبراهيمي ووراؤه إرث علمي كبير من المؤلفات، أهمها كتاب “شعب الإيمان”، وكتاب “حكمة مشروعية الزكاة في الإسلام”، و”الاطّراد والشذوذ في العربية”، و”أسرار الضمائر العربية” و”كاهنة الأوراس”، و”الأخلاق والفضائل”، وجمعت مقالاته بمجلة “البصائر” في كتاب “عيون البصائر”. وله “ملحمة شعرية” في تاريخ الإسلام، تضم نحو 36 ألف بيت.
من صفات الإبراهيمي أنه كان مفكرًا متميزًا من الطراز الأول كما يقول الشيخ علي الصلابي، مضيفًا أنه كان “مفكراً يحترم نفسه وعقله وفكرته ودعوته… فيتجنب التناقض والزلل، ويمضي في آثاره الكتابية ضمن قواعد جعلته كاتبًا له قضاياه الفكرية الأصلية التي توقف عندها يدعو إليها ويبشر بها”.
كما يعدّ الإبراهيمي من علماء الإصلاح، وضد الجمود والخمود، ووفقًا للصلابي فإن الإبراهيمي كان “ثائرًا بمعنى الكلمة، ودعا إلى إعمال العقل والاجتهاد، والبحث عن وسائل نهضة الأمة، وشنّ حربًا لا هوادة فيها على دعاة الجمود”.
بالإضافة إلى أنه كان “مطلعًا على الفقه وأصوله اطلاعًا واسعًا، ثائرًا على العصبيات المذهبية، مستوعبًا لمقاصد الشريعة وحكمها، ويرى أن في الفقه فقهًا لا تصل إليه المدارك القاصرة وهو لب الدين، وروح القرآن، وعصارة سنة محمد (ص)”.
من أجل فلسطين
ارتبط الإبراهيمي بالقضية الفلسطينية ارتباطًا وثيقًا، فإلى جانب أعماله الكثيرة لطالما عمل من أجل فلسطين وسخّر قلمه للدفاع عنها والدعوة لنصرتها، وهو ما ينعكس اليوم على العلاقة الوثيقة بين الشعبين الجزائري والفلسطيني.
ومما قاله: “يا فلسطين! إن في قلب كل مسلم جزائري من قضيتك جروحًا دامية، وفي جفن كل مسلم جزائري من محنتك عبرات هامية، وعلى لسان كل مسلم جزائري في حقك كلمة مترددة هي: فلسطين قطعة من وطني الإسلامي الكبير قبل أن تكون قطعة من وطني العربي الصغير؛ وفي عنق كل مسلم جزائري لك -يا فلسطين- حق واجب الأداء، وذمام متأكد الرعاية، فإن فرط في جنبك، أو أضاع بعض حقك، فما الذنب ذنبه، وإنما هو ذنب الاستعمار الذي يحول بين المرء وأخيه، والمرء وداره، والمسلم وقبلته”.
يضيف الإبراهيمي: “أيها العرب! إن قضية فلسطين محنة امتحن الله بها ضمائركم وهممكم وأموالكم ووحدتكم، وليست فلسطين لعرب فلسطين وحدهم، وإنما هي للعرب كلهم، وليست حقوق العرب فيها تُنال بأنها حق في نفسها، وليست تنال بالهوينا والضعف، وليست تنال بالشعريات والخطابيات، وإنما تنال بالتصميم والحزم والاتحاد والقوة. إن الصهيونية وأنصارها مصممون، فقابلوا التصميم بتصميم أقوى منه وقابلوا الاتحاد باتحاد أمتن منه. وكونوا حائطًا لا صدع فيه… وصفًّا لا يرقّع بالكسالى”.
ولعل أهم ما نطق به الإبراهيمي من أجل فلسطين، هو “إن فلسطين وديعة محمد عندنا، وأمانة عمر في ذمتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منا ونحن عصبة؛ إنا إذًا لخاسرون”.