ترجمة وتحرير: نون بوست
من غير المرجح أن يكون انتهاء الاعتماد على النفط والفحم الحجري بسبب دعاة حماية البيئة أو حتى بسبب نمو قطاع الطاقة المتجددة، بل سيحدث ذلك عندما تقرر البنوك الكبرى التوقف عن تمويل هذا القطاع مما يجعل الشركات التي تنشط فيه غير مؤهلة للتعامل مع البنوك.
قبل سنتين، دخلت مؤسسة “غولدمان ساكس” المصرفية – أحد أكبر ممولي الوقود الأحفوري – التاريخ بعد أن أصبحت أول بنك أمريكي يستبعد تمويل عمليات الحفر أو التنقيب عن النفط الجديدة في القطب الشمالي فضلا عن مناجم الفحم الحرارية الجديدة في أي مكان من العالم.
أعلنت السياسة البيئية لمؤسسة “غولدمان ساكس” أن تغير المناخ يعدّ أحد “أهم التحديات البيئية في القرن الحادي والعشرين” وتعهدت بمساعدة عملائها على إدارة التأثيرات المناخية بشكل أكثر فعالية، بما في ذلك عن طريق بيع سندات الكوارث المتعلقة بالطقس. كما التزمت هذه المؤسسة المصرفية ذات المكانة المرموقة في وول ستريت باستثمار 750 مليار دولار على امتداد العقد المقبل في المجالات التي تركز على التحول المناخي.
بعد أشهر، أعلنت شركة “بلاك روك” (المدرجة في بورصة نيويورك تحت الرمز إن يو أس إي: بي أل ك)، وهي أكبر شركة لإدارة الأصول في العالم، عزمها زيادة استثماراتها في الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات بأكثر من عشرة أضعاف، من 90 مليار دولار إلى تريليون دولار في غضون عقد من الزمن.
واصلت شركة “بلاك روك” العمل على تحقيق هذا الهدف السنة الماضية، حيث أصدرت تحديثًا جذريًا لنهجها في التعامل مع الشركات، قائلة إنها ستتخلى عن أسلوب عملها التقليدي المتمثل في التحاور مع مجالس الإدارة في الشركات وستبدأ بدلا من ذلك في تفضيل قرارات المساهمين.
إذا اعتقد المستثمرون أن هذه الشركات ستكتفي مثل المعتاد بالسياسات الشكلية في مجال الطاقة المتجددة فهم مخطئون، ذلك أن هناك الآن دليلا قويًا على أنها تسعى حقًا لترجمة ذلك إلى أعمال تجارية. ولأول مرة على الإطلاق، تدعم أكبر البنوك الاستثمارية في العالم استثمارات الطاقة المتجددة أكثر من استثمارات الوقود الأحفوري.
وفقًا لبيانات “بلومبرغ” التي تغطي ما يقرب من 140 مؤسسة للخدمات المالية في جميع أنحاء العالم، وقع حتى 14 أيار/ مايو تخصيص 203 مليارات دولار على الأقل من السندات والقروض لمشاريع الطاقة المتجددة، مقارنة بمبلغ 189 مليار دولار للشركات التي تركز على الهيدروكربونات. وهذه المرة الأولى في تاريخ الوقود الأحفوري الحديث التي يحدث فيها مثل هذا التحول، وهو ما يمثل نقطة تحول حقيقية.
ما مدى أهمية هذا التطور؟
في سنة 2019، استثمرت البنوك 737 مليار دولار في الوقود الأحفوري و238 مليار دولار فقط في قطاع الطاقة النظيفة. وظل هذا الاتجاه ثابتا في سنة 2020 في ذروة تفشي الوباء، حيث استثمرت البنوك 688 مليار دولار في الوقود الأحفوري، مقابل 323 مليار دولار فقط في مصادر الطاقة المتجددة.
حصلت البنوك الاستثمارية على 16.6 مليار دولار تقريبًا من السندات والقروض لشركات الطاقة منذ إبرام اتفاقية باريس
منذ سنة 2015، عندما صادقت أغلب دول العالم على اتفاقية باريس للمناخ للحد من ارتفاع درجات حرارة الكوكب، استثمرت البنوك أكثر من 3.6 تريليون دولار في الوقود الأحفوري، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف إجمالي السندات والقروض التي وقع استثمارها في مشاريع الطاقة المتجددة، وذلك وفقا لبيانات “بلومبرغ”.
إجمالا، حصلت البنوك الاستثمارية على 16.6 مليار دولار تقريبًا من السندات والقروض لشركات الطاقة منذ إبرام اتفاقية باريس، مقارنة بالعائدات التي جمعتها بقيمة 7.4 مليار دولار فقط من السندات والقروض المخصصة لمشاريع الطاقة المتجددة.
قد يكون التطور الأخير توجهًا جديدًا في طور الإعداد، وقد أعلن بعض هواة الطاقة النظيفة أن العالم وصل إلى “نقطة تحول حقيقية” في جهود الانتقال للطاقة المتجددة.
إكسون تحت المجهر
في مطلع السنة القائمة، استُهدفت شركة النفط الأمريكية العملاقة “إكسون موبيل” من قبل المستثمرين النشطاء الغاضبين وصندوق “كالسترز” (نظام تقاعد المعلمين في ولاية كاليفورنيا)، وهو أحد أكبر صناديق التقاعد في الولايات المتحدة. لكن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد. مؤخرا، أعلن صندوق المعاشات التقاعدية بولاية نيويورك – الذي تبلغ قيمته 226 مليار دولار – عن خططه للتخلص من أسهم النفط والغاز في السنوات المقبلة.
تعرضت إكسون لانتقادات شديدة بسبب التزاماتها الفاترة بخفض انبعاثات الكربون والغازات المسببة للاحتباس الحراري. انضمت إكسون إلى العدد المتزايد من منتجي النفط والغاز الأمريكيين الذين تعهدوا بخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. مع الأسف، انتقد النشطاء والمحللون إعلان إكسون وأشاروا إلى أنه “مخيب للآمال” و”غير كافي” ومجرد “خطوات صغيرة”.
قال المحلل في شركة “ريموند جيمس” بافيل مولتشانوف “إن خفض كثافة انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة تتراوح ما بين 15 بالمئة وحتى 20 بالمئة على مدار تسع سنوات ليس هدفًا طموحًا، بل يكاد يعادل النسبة التي يمكن تحقيقها خلال سير الأمور على النحو المعتاد”.
من جهته، يعتقد أندرو لوغان، مدير النفط والغاز في منظمة الاستدامة غير الربحية “سيريس” التي تعمل مع المستثمرين في مجال المناخ، أن “ما يفتقر له إعلان [إكسون] حقًا هو التطرق لأي جانب يتعلق بالنفقات الرأسمالية أو الاستراتيجية أو الاستثمار. إن نقاطه سطحية”.
أيّدت شركة “إنجين نمبر 1″، وهي عضو من مجموعات المساهمين المنخرطة في حملة ناشطة لإحداث ثورة في الشركة، رأي لوغان قائلة إن “… تقليل كثافة الانبعاثات أمر مهم، إلا أن نقاط خطة “إكسون موبيل” المعلنة لا تعكس الرغبة في العمل على تحسين موقف الشركة وإنجاحها على المدى الطويل في عالم يسعى إلى تقليل إجمالي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري”.
داء تدفقات الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات الوافدة كان جيدا للغاية هذه السنة، وقد تسارعت بشكل كبير بفضل جائحة كوفيد-19
كما أعلنت “سيريس” عن تكوين ائتلاف من المستثمرين يديرون أصولاً بقيمة 9 تريليونات دولار قد التزم بشكل كامل بالاستثمار في مشاريع تحقق أهداف الوصول لصفر كربون.
زخم الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات
لا يمكن إنكار حقيقة أن الاستثمار بالحوكمة البيئية والاجتماعية يكتسب زخمًا متسارعًا، حيث يطالب المستثمرون بطرح خيارات مسؤولة بيئيًا واجتماعيًا بنحو كبير. وعلى مدى نصف العقد الماضي، برز استثمار الحوكمة البيئية والاجتماعية المعروف باختصار “إي سي جي” باعتباره أكبر توجه عالمي على الإطلاق. وحتى البنوك الكبرى باتت تشعر بضغوط المعايير الأخلاقية أكثر من أي وقت مضى.
إن أداء تدفقات الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات الوافدة كان جيدا للغاية هذه السنة، وقد تسارعت بشكل كبير بفضل جائحة كوفيد-19، ولم تظهر علامات التباطؤ حتى بعد إيجاد اللقاح. لن تعود الحياة إلى طبيعتها في عالم المال، وما يحدث الآن قد يتطوّر ليصبح أكبر انتقال في الثروات نشهده على الإطلاق.
حاليًا، يبلغ إجمالي أصول الاستثمار المستدام حوالي 17.1 تريليون دولار، بتحقيق زيادة بنسبة 50 بالمئة منذ سنة 2018 فحسب. وفي غضون سنة، ستتوقف 77 بالمئة من المؤسسات الاستثمارية عن شراء المنتجات غير المستدامة كليا، وذلك وفقا لشركة “برايس ووتر هاوس كوبرز”.
تقول شركة “بلاك روك” إن عملاءها سيضاعفون أسهمهم في الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات في غضون خمس سنوات فقط. ويقرّ مديرو الأموال أن تغير المناخ هو مصدر قلقهم الأول و”المعيار الرئيسي” الذي يحدد أين يستثمرون أموالهم. ولا تتعلق هذه المسألة بالأخلاقيات، بل بالسوق الحرة.
المصدر: أويل برايس