دفع العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة المحاصر قرابة 90 ألف فلسطيني للنزوح إلى المدارس التي تديرها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، في محاولة للهرب من نيران الاحتلال التي هددت حياتهم. وبمجرد الإعلان عن وقف إطلاق النار، عاد غالبية النازحين إلى منازلهم في المناطق الحدودية، فيما بقي أصحاب المنازل المهدمة كليًّا بلا مأوى والبالغ عددهم 350 أسرة في مدارس وكالة الغوث، وفق إحصاءات لجان الأحياء المشرفة على تلك المدارس، فيما يمكث العدد الباقي في منازل أقربائهم.
ويشتكي النازحون الذين هدمت بيوتهم من عدم صلاحية مراكز الإيواء داخل المدارس للإقامة المؤقتة، في ظل غياب أي مقومات للحياة، لا سيما مع تأكيدهم على أنهم لم يحصلوا على أي مساعدات أو خدمات من وكالة “أونروا” حتى اللحظة.
تفاصيل صعبة
شهدت مدرسة “غزة الجديدة” الواقعة في مدينة غزة ولادة إحدى السيدات أثناء النزوح خلال أيام العدوان. وضعت السيدة مولودها في إحدى مستشفيات شمال غزة، واضطرت للعودة إلى مدرسة النزوح مرة أخرى بسبب استمرار العدوان على غزة.
وعمت الفرحة أرجاء المكان الذي كان محاطًا بأصوات الصواريخ التي تطلقها طائرات الاحتلال من وقت لآخر، لشعورهم بأن الحياة ما زالت تقدم لهم الهدايا في إشارة لتحدي الاحتلال.
أطلقت عائلة الصفدي الفلسطينية على طفلها المولود اسم “محمد الضيف” تيمنًا بالقائد العام لكتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، الذي يعتبره الفلسطينيون رمزًا للمقاومة.
ونزحت العائلة إلى مدرسة الإيواء في قلب مدينة غزة، كغيرها من العائلات، نتيجة القصف الإسرائيلي العنيف الذي استهدف المناطق الحدودية.
كما تناقلت وسائل الإعلام صورًا للطفل وهو يغتسل للمرة الأولى بعد الولادة في أحد صفوف المدرسة، في يوم لن تنسى العائلة تفاصيله، حيث قالت جدة الطفل في تصريحات صحفية إن زوجة ابنها جاءها المخاض خلال تواجدها في مركز الإيواء.
وأوضحت أن العائلة لم تعد لمنزلها بعد ميلاد الطفل، واستقرت في مركز الإيواء، حيث كان الخطر يحدق بمحيط بيتهم، بسبب العدوان الإسرائيلي الذي استمر لـ 11 يومًا.
وبينما غادر الطفل المولود (محمد الضيف) مع ذويه مدارس الإيواء بمجرد إعلان وقف إطلاق النار، بقي آخرون هدمَ الاحتلال منازلهم داخل مراكز الإيواء.
ويتوزع ما تبقى من نازحين في جميع محافظات غزة على مدرستين فقط، واحدة منهما داخل مدينة غزة، زارتها مراسلة “نون بوست”.
في مدرسة أبو عاصي الواقعة غرب مدينة غزة، تجلس هديل السلطان إحدى النازحات وعائلتها المكونة من 4 أفراد، بعد تعرض منزلها في منطقة السلاطين أقصى شمال غزة للهدم الكلي، واشتكت من عدم توفر معظم الأساسيات في مركز الإيواء.
ليس الماء فقط هو ما تفتقده هديل البالغة من العمر 25 عامًا وعائلتها، بل لا يوجد لديهم أغطية كافية ولا فراش للنوم.
تقول السيدة المتواجدة مع 190 نازحًا إن أوضاعهم غاية في الصعوبة، حيث تغيب الخصوصية داخل غرفة الصف التي تضم 20 فردًا، كما تخشى انتشار الأمراض في ظل استمرار وجود حالات مصابة بفيروس كورونا.
وفي أثناء حديثها، تتحسس السلطان ابنها البالغ عامًا ونصفًا لتطمئن على درجة حرارته التي ارتفعت، حيث اضطرت لتحميمه بالماء البارد المتوفر في المدرسة، بعد أن غابت البدائل خلال 8 أيام من نزوحها إلى مركز الإيواء.
ليس الماء فقط هو ما تفتقده هديل البالغة من العمر 25 عامًا وعائلتها، بل لا يوجد لديهم أغطية كافية ولا فراش للنوم، فيما يقتصر الطعام على وجبتين تصل لهم من الجمعيات الخيرية على حد وصفها.
الحال ذاته اشتكت منه عائلة المواطن محمود الدبس من سكان منطقة العطاطرة -شمال قطاع غزة المحاصر-، حيث قالت زوجته إنها وأفراد أسرتها الـ 7 لا يملكون أدنى مقومات للحياة، بعد أن بقيت جميع أغراضهم تحت ركام منزلهم الذي دمرته طائرات الاحتلال.
تشير الأم إلى بناتها قائلة: “حالنا هو ذات حال المهجرين عام 1948، هل يرضى العالم بحال بناتي وشكل ملابسهن؟ حمّامات صغيرة غير صالحة للاستحمام، حالة من الخجل تنتابنا عند الذهاب إليها وننتظر أمام الرجال”. وتتابع: “لا نطلب سوى توفير مساكن بديلة لنا تحفظ كرامتنا وأبناءنا بعد معاناة أيام من القصف والرعب، خاصة أن زوجي لا يملك عملًا كي يستأجر لنا مكانًا بديلًا”.
وتشير إلى أن الحالة النفسية لأبنائها سيئة، لذا عاد عدد منهم للتبول اللاإرادي أثناء الليل، ما يزيد من المعاناة في ظل عدم توفر ملابس بديلة وأماكن للغسيل ومواد تنظيف.
وتؤكد لـ”نون بوست” أن أيًّا من الجهات لم تعترف بهم ولم تقدم على مساعدتهم، بما فيها وكالة غوث المسؤولة عن المدارس التي يقطنون بها.
دون رعاية كافية
المعلومات السابقة أكدها رامي الصعيدي، مسؤول اللجنة الاجتماعية في حي الرمال والنصر، والمشرف على تقديم المساعدات للنازحين المتبقين في مدرسة أبو عاصي والبالغ عددهم 190 فردًا، مشيرًا إلى أن وكالة غوث لم تقدم أي دعم للنازحين رغم أن إيوائهم يقع على عاتقها.
وبحسب حديثه لـ”نون بوست” فإنهم يوزعون الطعام الذي تتكفل به عدد من المؤسسات الخيرية ولجان الزكاة، موضحًا أن الدعم الواصل لا يكفي احتياجات الموجودين في المدرسة والذين ينقصهم الفراش والملابس والغذاء.
ولفت الصعيدي إلى أن الموجودين في المدارس هم العائلات التي لا يملك أربابها مصدر دخل، كما لا يوجد أقرباء لها يمكنها اللجوء إليهم. وحتى كتابة سطور التقرير لم تتكفل أي جهة رسمية باحتياجات العائلات النازحة في المدارس، ليقتصر العمل على بعض المبادرات والمؤسسات الخيرية.
حاول “نون بوست” التواصل مع عدنان أبو حسنة الناطق باسم وكالة غوث على مدار يومين، لكنه رفض الحديث بحجة عدم جهوزية أرقام النازحين لديهم.
لجنة زكاة الشاطئ الشمالي والنصر كانت إحدى الجهات التي قدمت مساعدات لـ 4 مدارس لجأ اليها ألفا نازح أثناء العدوان. حيث يقول رئيس مجلس إدارة اللجنة الدكتور عبد المنعم لبد لـ”نون بوست”، إنهم قدموا ما استطاعوا من مساعدات للنازحين في مدارس وكالة غوث، بعد تقاعس الوكالة عن تقديم أي خدمة لهم، مشيرًا إلى أنهم وفروا وجبات غداء وأدوية وماء بمبلغ 7 آلاف دولار يوميًّا.
ولفت لبد إلى أنهم قدموا مساعدات للنازحين في منازل أقربائهم، موضحًا أن ما قدموه هو فقط الحد الأدنى من الاحتياج، حيث ما زال الكثير من قاطني المدارس يفترشون الأرض ولا يوجد لديهم ملابس ولا أي احتياجات.
وحاولت “نون بوست” التواصل مع عدنان أبو حسنة، الناطق باسم وكالة غوث، على مدار يومين، لكنه رفض الحديث بدعوى عدم جهوزية أرقام النازحين لديهم، وأنه في انتظار معلومات دقيقة عن الخدمات المقدمة لهم.
جهود للإعمار
حول جهود التعويض للعائلات النازحة وإيجاد منازل بديلة، تواصل “نون بوست” مع عزيزة الكحلوت، الناطقة باسم وزارة الشؤون الاجتماعية في غزة، التي أكدت أن مسؤولية النازحين في المدارس تقع على عاتق وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، موضحة أن الوزارة تقدم لهم خدمات حسب مقدرتها.
وأكدت أن الوزارة تسعى مع المؤسسات المعنية بتوفير بدل إيجار لتلك العائلات، حيث بدأت بدفع تعويضات لأصحاب المنازل المدمرة لاستئجار منازل بديلة وفق الإمكانات المتوفرة. وإذا ما كانت المبالغ ستشمل الجميع والسقف الزمني لها، نوهت أن ذلك بحاجة إلى وقت ودعم، خاصة أن الوزارة خرجت حديثًا من العدوان، إلا في حال تشكيل مجلس لإعادة الإعمار والبدء بإدخال الأموال.
ووفق إحصاءات وزارة الأشغال العامة والإسكان، فقد تعرضت 1447 وحدة سكنية في غزة للهدم الكلي بفعل القصف الإسرائيلي، إلى جانب 13 ألفًا أخرى تضررت بشكل جزئي وبدرجات متفاوتة. وهدم الجيش الإسرائيلي بشكل كلي 205 منازل وشقق وأبراج سكنية، ومقرات لـ 33 مؤسسة إعلامية، فضلًا عن أضرار بمؤسسات ومكاتب وجمعيات أخرى.
وقال المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إن 75 مقرًّا حكوميًّا ومنشأة عامة تعرضت للقصف الإسرائيلي، تنوعت ما بين مرافق خدماتية ومقار أمنية وشرطية.
كما تضررت 68 مدرسة، ومرفقًا صحيًّا، وعيادة رعاية أولية، بشكل بليغ وجزئي بفعل القصف الشديد في محيطها، بينما تضررت 490 منشأة زراعية من مزارع حيوانية وحمامات زراعية وآبار وشبكات ري.
في حين أعلن رئيس المكتب الإعلامي الحكومي بغزة سلامة معروف، عن وجود توافق وطني على تشكيل مجلس وطني لإعادة إعمار غزة.
يعدّ النازحون الأيام الصعبة وهم ينتظرون خدمة أفضل تقدمها المؤسسات المعنية لتيسير أمور حياتهم اليومية، خاصة أن جهود إعادة الإعمار لم تبدأ بعد وما زالت ضمن المجهول.
وقال معروف خلال مؤتمر صحفي عقده وسط مدينة غزة: “تم خلال الأيام الماضية التواصل مع العديد من مكونات مجتمعنا والتوافق على تشكيل مجلس وطني لإعادة الإعمار”.
وأكد أن المجلس يتكون من الحكومة والقطاع الأهلي والخاص وبعض الشخصيات الوطنية، بحيث يتولى الإشراف على عملية إعادة الإعمار بالتنسيق مع كافة الجهات ذات العلاقة داخل وخارج قطاع غزة المحاصر.
ودعا معروف إلى تكثيف جهود تقديم العون والمساعدة وتوفير متطلبات إعادة الإعمار وتعويض الأضرار، وضرورة توفير المبالغ اللازمة ضمن خطة الإنعاش المبكّر والاستجابة السريعة، بشكل عاجل.
يعدّ النازحون الأيام الصعبة وهم ينتظرون خدمة أفضل تقدمها المؤسسات المعنية لتيسير أمور حياتهم اليومية، خاصة أن جهود إعادة الإعمار لم تبدأ بعد وما زالت ضمن المجهول، لارتباطها ببنود الاتفاق على التهدئة ومزاجية الاحتلال الذي يتحكم بالمعابر التي ستدخل من خلالها مواد البناء.