لم تمر ساعات قليلة على دخول مبادرة وقف إطلاق النار بين الفلسطينيين والإسرائيليين في غزة، حيز التنفيذ، فجر 21 مايو/ أيار الجاري، إلا وضربت قوات الاحتلال ببنودها عرض الحائط، ففي ظهر اليوم نفسه ومع أول صلاة جمعة يؤديها المصلون في المسجد الأقصى، اقتحم مستوطنون باحات المسجد بحراسة جيش الاحتلال الإسرائيلي.
أسفر الاقتحام عن سقوط جرحى ومصابين في صفوف الفلسطينيين، معظمهم من كبار السن والأطفال، نتيجة استخدام القنابل المسيلة للدموع والطلقات المطاطية، في تحدٍّ صارخ للجهود العربية والدولية المبذولة لفرض التهدئة، بينما لا تزال سلطات الاحتلال تفرض حصارها على حي الشيخ جرّاح لليوم الـ 15 على التوالي.
أثار الخرق الإسرائيلي لبنود المبادرة المصرية الكثير من التساؤلات حول قدرة الهدنة على الصمود، في ظل تلك الأجواء التصعيدية من جانب حكومة الاحتلال، بينما تتمسك فصائل المقاومة بسياسة ضبط النفس، التزامًا بتعهداتها للوفد المصري الذي زار قطاع غزة المحاصر في الساعات الماضية.
ورغم الخسائر الكبيرة التي أوقعها الجيش الإسرائيلي في صفوف الفلسطينيين، على المستوى البشري والمادي، مقارنة بما حققته المقاومة في المقابل، إلا أن النسبة الأكبر من الداخل الإسرائيلي ترى أن الفصائل الفلسطينية هي الرابح الأكبر في هذه الحرب، وأن دولة الاحتلال تعرضت لهزيمة كبيرة، بعيدًا عن القراءة المحدودة لدلالات الأرقام الرسمية، وهو ما مثّل ضغطًا كبيرًا على حكومة بنيامين نتنياهو، ما قد يدفعها إلى ردة فعل أقرب للانتقام.
وقد أسفر العدوان الإسرائيلي الأخير على الأراضي الفلسطينية عن سقوط 279 شهيدًا، بينهم 69 طفلًا، و40 سيدة، و17 مسنًّا، بينما أدى إلى أكثر من 8900 إصابة، في مقابل سقوط 12 قتيلًا إسرائيليًّا، وما يزيد عن 336 إصابة، هذا بخلاف هدم مئات المنازل والبنايات لدى الجانبين.
استمرار الانتهاكات
جدّد المستوطنون على مدار الأيام الثلاثة الماضية، منذ بدء سريان مبادرة التهدئة، اقتحامهم لباحات المسجد الأقصى، فيما نشبت مناوشات بين العشرات منهم وبعض المصلين، بجانب اعتداءات على كبار السن، في الوقت الذي شنت فيه، ولا تزال، قوات الاحتلال حملات اعتقالات موسعة.
كما واصلت سلطات الاحتلال صباح اليوم قيودها المفروضة على حي الشيخ جرّاح، واحتجاز بطاقات الهوية لعدد من سكان الحي، أبرزهم من الفتيات، بخلاف اعتقال عدد من النشطاء المقدسيين في مدينة القدس المحتلة وضواحيها، تجاوزت أكثر من 30 ناشطًا بحسب شهود عيان.
وبالتوازي مع ذلك أقامت شرطة الاحتلال الحواجز الأمنية والسواتر الترابية على جميع الطرق والمحاور المؤدية لمدينة القدس المحتلة، وعلى مداخل الأحياء المتاخمة لها، بينما حررت عشرات المخالفات المرورية لفلسطينيين في تحرك وُصف بأنه “رد فعل عقابي” على المسيرات التي خرجت للتنديد بجرائم الاحتلال.
وبلغ عدد المعتقلين في صفوف الفلسطينيين منذ اندلاع المواجهات مع جيش الاحتلال بداية رمضان الماضي أكثر من 2000 شخص، معظمهم من الشباب المقدسي، بحسب مدير نادي الأسير الفلسطيني في القدس ناصر قوس، الذي أشار إلى تعرض معظم المعتقلين للتعذيب والتنكيل خلال التحقيق معهم.
رد الفعل الانتقامي
“الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على باحات الأقصى تمثل رسالة سياسية موجهة للداخل بأن “إسرائيل” انتصرت وأنها صاحبة الكلمة الفصل في القدس”، هكذا علقت عضو التجمع الوطني الديمقراطي الفلسطيني بالكنيسيت، حنين زعبي، على الخرق الإسرائيلي لمبادرة التهدئة المصرية.
أشارت حنين إلى أن “المواطن الإسرائيلي فقد الشعور بالأمن في ظل سياسة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بعد حرب “سيف القدس” وأن الساسة الإسرائيليين شرعوا في إعادة النظر في حساباتهم السياسية والعسكرية”، وذلك خلال مداخلتها في النافذة المسائية على شاشة قناة الجزيرة مباشر، الأحد 23 مايو/ أيار الجاري.
كما توقعت البرلمانية العربية استمرار التصعيد الإسرائيلي في مواجهة الفلسطينيين، مرجعة ذلك إلى أن “الشعور بالضعف والهزيمة في “إسرائيل”، عادة ما يقود ساستها إلى تبني مخططات جديدة تقوم على الاستقواء والتحريض والاعتقالات وإصدار لوائح الاتهام ضد الفلسطينيين”.
الموقف الصعب الذي بات فيه نتنياهو، والذي تأزم أكثر بعد الحركات الاحتجاجية التي قام بها متظاهرون إسرائيليون في القدس المحتلة للتنديد بسياسته وتهديده لأمن “إسرائيل”، ربما يدفعه للتحرك من أجل تصدير صورة المنتصر في الحرب الأخيرة، رغم اتفاق معظم عناوين الصحف العبرية على أن حركة المقاومة الإسلامية “حماس” نجحت في “تقديم نفسها كمدافع عن القدس وعن غزة والفلسطينيين”.
ويمكن قراءة رد فعل حكومة نتنياهو وتصعيدها الأخير من خلال الإحصاءات الواردة بشأن موقف الإسرائيليين من الحرب الأخيرة، فبينما يعزف نتنياهو وحلفاؤه في المنطقة على وتر الخسائر الكبيرة التي كبدها للفصائل الفلسطينية، مستندًا إلى الفارق الكبير في أعداد الضحايا والمصابين هنا وهناك، أملًا في الخروج بمنظر المنتصر، يبدو أن الداخل الإسرائيلي غير مقتنع بتلك الأرقام.
ففي أحدث الإحصاءات حول هذا الشأن، كشفت أن 20% فقط من الإسرائيليين يقولون إن “إسرائيل” انتصرت في حرب غزة، بحسب عضو الكنيست، حنين زعبي، التي قالت إن “المجتمع الإسرائيلي يميل بطبعه نحو اليمين، وخطاب الشارع أكثر تطرفًا من خطاب جيش الاحتلال”، لأن الجيش يعرف حقيقة المقاومة الفلسطينية وخطورة التوغل البري في غزة، منوهة إلى فشل “إسرائيل” في تحويل “فلسطينيي الداخل إلى عرب “إسرائيل””، وهو ما اتضح في الدعم الكبير الذي قدموه للمقاومة.
هل تصمد الهدنة؟
حالة من القلق تخيم على الشارع العربي خشية العودة مجددًا للمربع صفر، فيما يتعلق باستئناف المواجهات بين المقاومة وجيش الاحتلال في ظل تصعيد الأخير المستمر حيال المقدسيين، وهو الأمر الذي دفع القاهرة لتكثيف جهودها الدبلوماسية لفرض التهدئة على أرض الواقع.
اتصالات مكثفة تجريها الخارجية المصرية بالفصائل الفلسطينية والسلطة على حد سواء، آخرها زيارة سامح شكري اليوم لرام الله، للحث على ضبط النفس في مواجهة الاستفزازات الإسرائيلية الأخيرة بباحة الأقصى، والتي يتم تفسيرها في إطار رد الفعل المتوقع حيال الهزيمة السياسية التي تلقتها حكومة الاحتلال، على أيدي الفصائل التي كانت خارج دائرة الاهتمام الرسمي، الإسرائيلي والدولي.
استدراج المقاومة للدخول في مواجهات جديدة، ربما تكون الهدف الذي يسعى إليه نتنياهو لكسب فرصة جديدة من أجل معركة أخرى يحاول الخروج منها منتصرًا، بعد الانتقادات التي تعرض لها بسبب النجاحات التي حققتها الفصائل الفلسطينية خلال الـ 11 يومًا من المواجهات.
رئيس الحكومة العبرية الذي كان يؤمل نفسه منذ الوهلة الأولى لاندلاع المواجهات الأخيرة، في توظيف هذا الحدث سياسيًّا وتعويض شعبيته المنقوصة بسبب جرائم الفساد التي يواجهها، والفشل في إدارة الكثير من الملفات؛ بات اليوم في موقف غاية في الصعوبة، الأمر الذي ربما يهدد مستقبله السياسي ويطيح به خارج التشكيل الحكومي القادم.
وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، يصف الوضع الإنساني في غزة بـ”الخطير”، مشددًا على ضرورة الشروع في التعامل معه بأقصى سرعة، في حين حذرت الخارجية المصرية من تجدد الصراع مرة أخرى بين الفلسطينيين والإسرائيليين في حال عدم الالتزام بمبادرات التهدئة المقدمة.
وفي الأخير.. تحمل الساعات القادمة اختبارًا حقيقيًّا لمدى قدرة المبادرة المصرية على الصمود في مواجهة الاستفزازت الإسرائيلية الأخيرة، يتخللها تحركات دبلوماسية مكثفة من العديد من الأطراف الإقليمية لإجبار “إسرائيل” على الرضوخ لها، فهل تنجح؟