لم يذق الشعب الفلسطيني حلاوة الوحدة الوطنية والروح الثورية التي عمت جميع المناطق الجغرافية من جنوب فلسطين المحتلة إلى شمالها، ومن بحرها إلى نهرها، كما ذاقها خلال شهر مايو/ أيار الحالي، حينما اجتمع الداخل المحتل والضفة الغربية والقدس المحتلتين وقطاع غزة المحاصر، على كلمة واحدة باختلاف الفصائل والأطياف السياسية، نصرة للمسجد الأقصى ودعمًا للمقاومة الفلسطينية في القطاع.
ومع إعلان اتفاق وقف إطلاق النار بين فصائل المقاومة في قطاع غزة المحاصر وجيش الاحتلال، وما سبقها من دعوة القوى السياسية والعسكرية في القطاع إلى تفعيل النضال الثوري في الضفة الغربية والداخل المحتلَّين، اتجهت الأنظار إلى ماهية الحالة الثورية التي ستشهدها الضفة التي تعيش وسط تنسيق أمني وعسكري ومدني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي.
في الأثناء، وفي ظل ما تشهده الأراضي الفلسطينية من تأجج الروح النضالية والثورية، تطفو تساؤلات إلى الواجهة: هل ستلتقط الضفة الغربية المحتلة جذوة المقاومة من جديد؟ وهل ستشهد الضفة مقاومة شعبية واسعة، ترقى لحالة اشتباك دائم مع المحتل؟ خاصة في ظل استراتيجية “كيّ الوعي” التي انتهجتها قوات الاحتلال والسلطة الفلسطينية لـ”تطويع” الضفة الغربية المحتلة.
انتفاضة الضفة: مواجهة التنسيق الأمني أولًا
منذ عام 1993، بدأت مرحلة من السلام طويل الأمد أعلنته منظمة التحرير الفلسطينية مع الجانب الإسرائيلي بتوقيع اتفاقية أوسلو، وعلى إثره تشكلت السلطة الوطنية الفلسطينية، مشرعة راية السلام وحل الدولتين على حدود 1967.
وبموجب اتفاقية أوسلو وما أعقبها من تغيير بند الكفاح المسلح ضد الاحتلال في رؤية منظمة التحرير، بدأت السلطة الفلسطينية بتنسيق عسكري مع الاحتلال، أعلنت عنه قيادات السلطة صراحة أكثر من مرة بـ”أنها لن تسمح بقيام العمليات الفدائية في الضفة الغربية”.
وفي أعقاب الأحداث الأخيرة، خرج الفلسطينيون في الضفة الغربية المحتلة في مسيرات بالمئات نحو نقاط التماس مع قوات الاحتلال، إلا أن عددًا من المسيرات، خاصة الكبيرة منها، واجهت حاجزًا بشريًّا من أفراد أجهزة الأمن الفلسطينية تحول دون وصولهم إلى تلك النقاط، وفي بعض المواضع اعترضت الأجهزة الفلسطينيين بقنابل الغاز المسيل للدموع.
عاجل| الأجهزة الأمنية تغلق الطريق أمام مسيرة رام الله المتجهة نحو المواجهات قرب مستوطنة “بيت إيل”. pic.twitter.com/2Wn9fxSnSV
— شبكة قدس الإخبارية (@qudsn) May 12, 2021
يقول الكاتب والمحلل السياسي ساري عرابي في حديث مع “نون بوست”: “يحكم الضفة الغربية السلطة الفلسطينية بتوجهات سياسية غير متعاطفة مع المقاومة، وتتبنى نهج التنسيق الأمني المتعارض جوهريًّا مع أي فعل مقاوم سواء كان عسكريًّا أم غير عسكري”.
وبحسب عرابي، فإنه يضاف إلى ذلك تفكيك فصائل المقاومة وتجريف الحركة الوطنية في الضفة تحديدًا، بشكل متدرج، وقيام جيش الاحتلال بعملية “السور الواقي” عام 2002، وتذرّع السلطة الفلسطينية بالانقسام الفلسطيني من أجل تفكيك حركة المقاومة، والتضييق على العمل الوطني في ساحة الضفة.
ومع بدء تصاعد هبة باب العامود وقضية تهجير سكان حي الشيخ جراح، وهي الأسباب الرئيسة لاشتعال الساحة الفلسطينية مؤخرًا، ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بفيديو زوجة منفذ عملية إطلاق النار على حاجز زعترة قرب مدينة نابلس مطلع شهر مايو/ أيار الجاري، وهي توضح اقتحام أجهزة السلطة لبيتها في محاولة للبحث عن زوجها، قبل يومين من إعلان جيش الاحتلال اعتقال زوجها منتصر الشلبي.
وفي مجريات العملية ذاتها، انتشرت صور عثور الأمن الفلسطيني على السيارة التي استخدمها الشلبي في عمليته، في سياق التعاون الاستخباراتي المشترك بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي.
بالرجوع إلى الزمن قليلًا، في أعقاب هبة القدس (2015-2016)، قال رئيس المخابرات العامة للسلطة الفلسطينية ماجد فرج في مقابلة إعلامية، إن الأجهزة الأمنية الفلسطينية قد أحبطت أكثر من 200 خطة لعمليات فدائية، إضافة إلى مصادرتها العديد من الأسلحة واعتقال نحو 100 فلسطيني في محاولة لمنع وقوع العمليات.
وفي كل الهبات النضالية التي مرت بها الساحة الفلسطينية بعد توقيع اتفاقية أوسلو، يتردد سؤال في الأوساط الفلسطينية: هل اقتنعت السلطة بعدم جدوى سياساتها المتمثلة في الحوار الناعم مع الاحتلال، خاصة التجارب الأخيرة مثل تصعيد سيف القدس الذي أثبت أن المقاومة هي الحل الوحيد؟
عمل الاحتلال على تعزيز شبكة أمنية في الضفة الغربية المحتلة، في سبيل الحد من إمكانية أي عمل فدائي محتمل، فنشر كاميرات المراقبة على امتداد الطرق بين المدن.
وفقًا لعرابي فإن السلطة الفلسطينية لا تمتلك الرغبة والإرادة الحقيقة في تغيير سياساتها، وأن “السلطة محكومة بالكامل بقدرة الاحتلال الإسرائيلي، ودورها ووظيفتها محكومة بمؤسِّسها ومنشئها الغربي، وهي لها ارتباطات عضوية بالإقليم وبالعالم”.
وأضاف: “الأنظمة السياسية لا تتغير بهذه السهولة، لا سيما مع طبيعة النخبة الحاكمة الآن التي لا تؤمن بمواجهة الاحتلال الإسرائيلي”.
الاشتباك مع الموجود الغائب!
بعد توقيع اتفاقية أوسلو انسحب الاحتلال شكليًّا من مناطق الضفة الغربية المحتلة، واقتصر احتكاك الفلسطينيين اليومي به بشكل مباشر عند الحواجز التي يقيمها بين المدن، مع وجود حالة استباحة كاملة لمناطق الضفة الفلسطينية، حتى تلك الخاضعة بموجب أوسلو للإدارة الكاملة للسلطة الوطنية الفلسطينية، بما يشمل الاعتقالات شبه اليومية، والاقتحامات.
ويعتبر الكاتب الفلسطيني عرابي أن هذا الواقع المفروض في الضفة يحول دون استمرار حالة مقاومة مستمرة ومتّقدة بشكل مجدٍ فيها، موضحًا: “طالما أن الاحتلال الإسرائيلي ليس موجودًا داخل مناطق الكثافة السكانية، فيضطر الشباب الزحف إلى نقاط الاشتباك عبر الحواجز، وهذا أمر غير قابل للاستمرار وغير مجدٍ، وإن يكن مفيدًا لفترة مؤقتة”.
في الوقت نفسه، عمل الاحتلال على تعزيز شبكة أمنية في الضفة الغربية المحتلة، في سبيل الحد من إمكانية أي عمل فدائي محتمل، فنشر كاميرات المراقبة على امتداد الطرق بين المدن، فضلًا عن الاستعانة بالجهود الاستخباراتية للسلطة الوطنية للوصول إلى أي معلومة يحتاجونها.
ويرى عرابي في هذه الإجراءات حدًّا لإمكانية مراكمة عمل مقاوم قابل للديمومة والاستمرار كما كان عليه الحال في تسعينيات القرن الماضي، أي قبل انتفاضة الأقصى عام 2000.
ويعقب عرابي: “بالتالي الفدائي الذي سيخرج لتنفيذ عملية يدرك أنه سينفذها لمرة واحدة، ومن ثم لا توجد إمكانية لمراكمة العمل وهذا قد يدفع العديد من الشبان إلى الإحجام عن هذا النوع من الأعمال؛ لأنهم يدركون أن إمكانية المراكمة مستحيلة”.
الانتفاضة على كيّ الوعي أيضًا!
خلال العقدين الأخيرين، مرت القضية الفلسطينية بمحاولة تغريب الفلسطيني عن قضيته، وهو ما أشار إليه الجنرال كيث دايتون، المنسق الأمني الأميركي بين “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية، بحديثه عن سعيه لصناعة “الفلسطيني الجديد”، الذي لا يشكل أي تهديد لكيان الاحتلال، وساعد في ذلك الخطاب الذي انتهجه الرئيس الفلسطيني محمود عباس حول التعايش بسلام بين الفلسطينيين والمستوطنين.
الإرهاصات والتحولات التي تمر بها السلطة ممثلة بحركة فتح، ومنها الخلافات بين رئيس الحركة محمود عباس ومروان البرغوثي وناصر القدوة، سيكون لها أثر في تغيير بعض السياسات.
وتعرض الفلسطيني في الضفة لـ”هندسة اجتماعية” وكيّ وعي، في محاولة عزله عن همومه الوطنية والثورية بالالتفات إلى لقمة العيش، وتقديم امتيازات كتصاريح السياحة والعمل، وامتيازات رجال الأعمال، وتسهيل السفر نسبيًّا من خلال المعابر مع الأردن، وربط هذه الامتيازات جميعًا بـ”حسن السلوك” وعدم القيام بأي فعل لا يرضي المحتل أو السلطة على حد سواء.
وفي محاولة كيّ الوعي أيضًا، ينتهج الاحتلال سياسة العقاب الجماعي تجاه ذوي المقاومين والأسرى ومحيطهم، من هدم البيوت، ومنع تصاريح العمل في الداخل المحتل الذي يشكل عصبًا أساسيًّا في دخل الفلسطينيين، إضافة إلى سياسة إغلاق المدن والأماكن التي يعتقد وجود مقاومين فيها.
إضافة إلى ذلك، حاولت السلطة الوطنية خلق حالة من الهدوء النسبي في الضفة الغربية المحتلة، ففي حديث مع “نون بوست” يرى أستاذ علم الاجتماع في جامعة بيرزيت د. بدر الأعرج أن السلطة حاولت بكل جهدها إبعاد الشعب الفلسطيني عن حالته النضالية والثورية، فواجهت المقاومة العسكرية من خلال التنسيق الأمني، وربطوا الفلسطينيين برواتب السلطة، وفي الوقت ذاته تشهد الأراضي الفلسطينية معدلات فقر وبطالة غير مسبوقة منذ عام 1967.
واستكمالًا لفرض حالة الهدوء، وتغييب العمل الثوري من الوعي الجمعي الفلسطيني، يشير الأعرج إلى إقصاء النهج الثوري من حركة فتح، التي حضرت بأعمالها النضالية في باكورة نشأتها، وذلك منذ تولي أبو مازن رئاسة الحركة، وما قام به من استبعاد الجناح الآخر الممثل للرئيس الراحل ياسر عرفات، والجناح الثالث الممثل لكتائب شهداء الأقصى.
حتى لو استمرت حالة الهدوء النسبي فترة طويلة، فلن تستمر للأبد.
الانتفاضة قادمة..
وعلى الرغم من أن اشتعال جذوة المقاومة في الضفة الغربية المحتلة تعني مواجهة حتمية لثلاثية الاحتلال والتنسيق الأمني وكيّ الوعي، إلا أن اشتعال الانتفاضة الفلسطينية في ساحة الضفة مسألة وقت لا أكثر.
فحول إمكانية تغيير سياسات السلطة الفلسطينية، يشير الأعرج إلى أن الإرهاصات والتحولات التي تمر بها السلطة ممثلة بحركة فتح، ومنها الخلافات بين رئيس الحركة محمود عباس ومروان البرغوثي وناصر القدوة، سيكون لها أثر في تغيير بعض السياسات، وإلا ستواجه الحركة خسارة كبيرة في شعبيتها في الساحة الفلسطينية.
ويرى أستاذ علم الاجتماع أن الحالة النضالية الثورية العظيمة التي خلقتها المواجهة الأخيرة، ستسهم في تغذية جذوة المقاومة في الضفة، خاصة في ظل حالة احتقان واستفزاز يعيشها الفلسطينيون مع اشتعال أحداث القدس المحتلة، واعتداءات المستوطنين، إضافة إلى سياسة الإعدام على الحواجز التي انتهجتها قوات الاحتلال في السنوات القليلة الأخيرة.
“حتى لو استمرت حالة الهدوء النسبي فترة طويلة، فلن تستمر للأبد، ونحن شهدنا مؤخرًا هبة القدس المحتلة عام 2015 والآن نشهد هبة 2021، وكنا قد تعودنا أن الانتفاضات لا تأتي فجأة، ويسبقها هبات، فالانتفاضة الأولى سبقها إضراب أسرى، والانتفاضة الثانية سبقتها هبة أبو غنيم، أما ما تمارسه السلطة يؤخر العملية ويهدئه لكن في الأخير الانتفاضة قادمة”، يقول الدكتور الأعرج.