الطاهر بن عاشور ليس اسمًا عاديًّا في محيط الثقافة الإسلامية، بل إن تاريخه وجهاده العلمي والمعرفي قد ارتبطا ارتباطًا وثيقًا بواحدة من أهم مؤسساتها وصروحها، وبرمز من أبرز رموزها في النصف الأول من القرن العشرين، ألا وهي جامعة الزيتونة.
كما أنه من دون شك عالم تونسي من أبرز مفسري القرآن الكريم في العصر الحديث، ساهم في إصلاح مناهج التعليم الشرعي في البلاد، كما عرف بدفاعه عن الخلافة ووقوفه في وجه السلطة، وهو أيضًا الذي أثر عنه قوله الشهير: “صدق الله وكذب بورقيبة”.
النشأة والتكوين
ولد العلامة المفسر محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور في سبتمبر/ أيلول 1879 في ضاحية المرسى بالعاصمة تونس، أي قبل عامين من دخول المستعمر الفرنسي تحت دعاية الحماية عام 1881، ونشأ في أسرة علمية وسياسية عريقة تمتد أصولها إلى الأندلس، تقلد أبناؤها مناصب هامة في القضاء والإفتاء والتدريس.
حفظ القرآن في السادسة وأخذ العلم من أعيان علماء تونس وشيوخ جامع الزيتونة، الذي التحق به عام 1893 ودرس فيه علوم القرآن والقراءات والحديث والفقه المالكي وأصوله والفرائض والسيرة والتاريخ والنحو واللغة والأدب والبلاغة وعلم المنطق. كما تعلم الفرنسية على يد أستاذه الخاص أحمد بن وناس المحمودي.
تعلم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور على يد أشهر العلماء، منهم الشيخ محمد النجار وسالم بوحاجب والشيخ محمد النخلي والشيخ محمد بن يوسف وعمر بن عاشور وصالح الشريف.
بعدها بـ 6 سنوات أي عام 1899، نال بن عاشور شهادة التطويع قبل أن يباشر في العام التالي التدريس بالمدرسة الصادقية، وفي عام 1904 سمّي نائبًا عن الدولة لدى نظارة جامع الزيتونة، ثم عضوًا بلجنة تنقيح برامج التعليم عام 1908. وفي عام 1913 عيّن قاضيًا لقضاة المالكية، وعضوًا بالمجلس المختلط العقاري، وعضوًا بهيئة النظارة العلمية المديرة لشؤون جامع الزيتونة، قبل أن يعود عام 1923 ليصبح مفتيًا مالكيًّا، فكبير المفتين عام 1924.
وفي عام 1932 عُيّن شيخ الإسلام المالكي، ثم شيخًا لجامع الزيتونة وفروعه عام 1944، ليتم اختياره عام 1950 عضوًا مراسلًا لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، وفي العام التالي، 1951، اعتزل منصب شياخة جامع الزيتونة، وشارك في مؤتمر المستشرقين بإسطنبول.
عُيّن العالم التونسي بعد الاستقلال عام 1956 شيخًا عميدًا للكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين حتى عام 1960، حيث أحيل على التقاعد بسبب موقفه الرافض تجاه الحملة التي شنها بورقيبة يومئذ ضد فريضة الصيام في رمضان.
الفكر الإصلاحي
ما من شك أن البيئة وظروف التنشئة التي أحاطت بمحمد الطاهر بن عاشور، كانت دافعًا أساسيًّا في تشكل ملامح المشروع الإصلاحي للشيخ التونسي، الذي انتبه مبكرًا إلى أن تقدم المسلمين اجتماعيًّا وفكريًّا لا يكون إلا عبر إصلاح العقول وتوفير مقومات التعلم العصرية، لفهم روح الدين ومقاصده.
انبرى الفقيه التونسي باحثًا عن سبل للنظر في إمكانية إصلاح منهجي للتعليم الديني، وكيفية تطويعه لخدمة الوعي المتجدد والمتماهي مع العصر، من خلال الربط المنطقي بين الفكر والعمل، فكلاهما شرط أساسي لتحرر الفرد من قيود التكلس الفكري، لذلك يرى ابن عاشور “أنهما كجناحي الطائر لا يمكن تجديد ما رثّ في أحدهما وترك الجانب الآخر”.
وتؤكد كتابات الشيخ الطاهر بن عاشور أن غلق باب الاجتهاد يحط من قيمة علم الأصول ويسبب ركونًا إلى التقاعس والتقليد، فينتج عقولًا متحجرة عاجزة عن تصور واستنباط حلول للقضايا المستجدة، ويقول في ذلك: “إن غلق باب الاجتهاد وتحجير النظر، حطّ من قيمة علم الأصول عند طالبيه فأودع في زوايا الإهمال وأصبح كلمات تقال، وبذلك قلّ تدريسه”.
انتبه العالم التونسي أيضًا إلى أن التأخر في علم أصول الفقه سبب رئيسي في تأخر حركة الاجتهاد لدى عامة المغاربة والمصريين، ودعا إلى إحياء الاجتهاد والتجديد وتثوير العقول وإنارتها من أجل تحرير الأوطان العربية والإسلامية من مختلف مثبطات النهضة والتحرر من الاستعمار والتخلف والجهل، وذلك بإصلاح مؤسسات التعليم كالزيتونة والقرويين.
الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور:
“الضعفُ في أصول الفقه هي المصيبة التي عمَّت متأخري المغاربة والمصريين”.[نقله الأخ الشيخ نزار حمادي التونسي في حسابه على فايسبوك] pic.twitter.com/v5sre52skw
— Faruk Tokat (@omerfarukt) November 8, 2020
في هذا الإطار، يقول الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه “أليس الصبح بقريب”، منتقدًا انعدام ملكة النقد لدى فقهاء عصره واكتفاءهم بالتقليد والرواية عن الأقدمين، دون توضيح أو تجديد: “متى اقتصرنا في تعليماتنا على ما أسس لنا سلفنا ووقفنا عند ما حددوا، رجعنا القهقرى في التعليم والعلم، لأن اقتصارنا على ذلك لا يؤهلنا إلا للحصول على ما أسسوه وحفظ ما استنبطوه، فنحن قد غُلبنا بما فاتنا من علومهم ولو قليلًا”.
يخلص جمال الدين دراويل إلى أنه يحسَب للشيخ محمد الطاهر بن عاشور حمل أعباء التنوير في الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة، من داخل مؤسساتها العتيقة، وأنه لولا القيمة العلمية الكبيرة للرجل وحماية عائلة من أعرق البيوتات العلمية ومن أشهر عائلات الأرستقراطية البلدية القريبة من دوائر السلطة السياسية، لتعرض إلى أخطر مما تعرض له الشيخان عبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد.
اختبار السلطة
من المعلوم أن الاستعمار الإنجليزي والفرنسي لدول العالم العربي حاول فرض نمط التغريب على هذه البلدان، فكان الغزو الثقافي الغربي أداة من أدواته لفرض النظام الجديد المتمثل في العلمانية بمفهوم فصل الدين عن الحياة، مستعينًا بشخصيات محلية تبنت المشروع للوصول إلى السلطة.
مع صعود الأنظمة التي تتبنى العلمانية في العالم الإسلامي بقيادة مصطفى كمال أتاتورك في تركيا والحبيب بورقيبة في تونس، وظهور سياق سياسي وتاريخي وحضاري متحمس للقوانين الوضعية إثر سقوط الخلافة العثمانية نهاية الربع الأول من القرن العشرين، تشبث الشيخ ابن عاشور بطرحه الفكري المنطقي والعلمي المدافع عن مؤسسة الخلافة.
كما رد العالم التونسي كرفيقه محمد الخضر حسين على مؤلف المصري علي عبد الرازق، والذي أثار جدلًا واسعًا، مبرزًا أن وجوب الخلافة لا يقتصر على القرآن والسنّة، وأن وصول بعضهم إليها باعتماد السيف لا يبطل أصلها.
استدل ابن عاشور في رده على الرافضين للدولة الثيوقراطية، القائلين بأن الخليفة يستمد قوته من الله، بأن الحاكم في الإسلام يستمد سلطته من بيعة الأمة أو من عهد من بايعه (الأمة أو الشعب)، فـ”الخليفة لا يستمد سلطته من الله لا بوحي ولا باتصال روحاني ولا بعصمة”.
يرى الشيخ أيضًا أن الدين تشريع يقتضي تنفيذ قوانينه، والمؤسسة التي يعهد لها هذا الدور هي الدولة، باعتبارها من يمتلك السلطة التنفيذية، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان ينصّب الأمراء والقضاة لرعاية شؤون العامة، ما يعني أن الإسلام هو منظومة متكاملة لا يتعارض فيها الدين مع الدولة.
مواقف الشيخ التونسي وآراؤه في أكثر من شأن، سواء كان ديني أو سياسي، تسببت له بعدة محن من المستعمر الفرنسي أو من السلطة عقب الاستقلال، ففي عام 1961 دعا الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة العمال إلى الإفطار في رمضان بدعوى زيادة الإنتاج، وطلب من ابن عاشور أن يفتي في الإذاعة بما يوافق ذلك.
هذا الامتحان لم يكن عسيرًا على الشيخ ابن عاشور الذي يُعرف بأنه منفتح في مسائل العلم والتجديد ومحافظ في الأوامر والحدود، ليكسر ترقب الناس بتصريحه الذي وافق شرع الله في هذه القضية، مذكرًا أن كل مفطر من دون عذر شرعي، كالمرض والسفر وما إلى ذلك من الأعذار التي حددها الشرع، يجب عليه فيها القضاء، وذكر شهود أنه قرأ آية الصيام: “يا أيها الذين آمنوا كُتِب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”، ثمّ قال بعدها: “صدق الله، وكذب بورقيبة”.
وفاته وأثره
توفي العالم محمد الطاهر بن عاشور في 12 أغسطس/ آب 1973 عن سن تناهز 94 عامًا في مدينة المرسى في العاصمة تونس، وترك إرثًا معرفيًّا عظيمًا أثّث المكتبة الإسلامية، فكانت كتاباته بمثابة ثورة على التقليد الأعمى والجمود والتكلس العقلي.
ويعتبر كتاب “تفسير التحرير والتنوير” من أهم التفاسير في العصر الحديث، وهو محصلة 50 سنة من العمل والاجتهاد، مقدمًا بذلك إضافة علمية نوعية في مجال التفسير، وذلك بالإضافة إلى ما يقرب من 40 مؤلفًا في العلوم الشرعية واللغة والآداب، نذكر من بينها:
- “تحرير المعنى السديد، وتنوير العقل الجديد، من تفسير الكتاب المجيد” المعروف بـ”التحرير والتنوير من تفسير القرآن الكريم” (30 جزءًا).
- “مقاصد الشريعة الإسلامية”.
- “التوضيح والتصحيح حاشية على التنقيح للقرافي في أصول الفقه”.
- “أليس الصبح بقريب؟ التعليم العربي الإسلامي: دراسة تاريخية وآراء إصلاحية”.
- “كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ”.
- “نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق”.
- “النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح”.
#كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية.
?تأليف محمد الطاهر بن عاشور
-رحمه الله- عالم وفقيه تونسي أسرته منحدرة من الأندلس ترجع أصولها إلى أشراف المغرب الأدارسة تعلم بجامع الزيتونة ثم أصبح من كبار أساتذته. سمي حاكماً بالمجلس المختلط سنة 1909 ثم قاضيا مالكياً في سنة1911
الوفاة 12 أغسطس1973 pic.twitter.com/GZ9B3Ras1u— خــالـد #قانون⚖ (@kkmz_f) November 13, 2018
قال عنه الخضر حسين: “وللأستاذ فصاحة منطق، وبراعة بيان، ويضيف إلى غزارة العلم وقوة النظر صفاء الذوق وسعة الاطلاع في آداب اللغة (…) وبالإجمال: ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه وسماحة آدابه بأقل من إعجابي بعبقريته في العلم”.
التاريخ النضالي والمعرفي لابن عاشور وجهوده الإصلاحية على المستوى الديني والتربوي والاجتماعي لم يشفع له بأن يتجاوز صيته حدود بلاده كغيره من علماء الأمة في تلك الفترة.
ويبدو أن يد السياسة العليا في تونس كرهت أن يتصدر رجال دين المشهد فينافسونها في التأثير، كما كره حكام الحجاز آنذاك أي دعوة مخالفة للوهابية، فصنفت الشيخ الجليل بالأشعري وأعلت من شأن من هم دونه في العلم والإنجاز.