إلى الآن لا يُعرف ما يجري بالضبط في العاصمة المالية باماكو، لكن كل المؤشرات تقول إن مالي تشهد انقلابًا خامسًا منذ استقلالها، الأمر الذي يؤكد فشل السياسات الفرنسية في هذا البلد الإفريقي، فهذه السياسات تدفع مالي إلى طريق مسدود عواقبه ستكون وخيمة على المنطقة ككل.
ماذا يحدث في مالي؟
ما زال الوضع غامضًا في مالي، لكن المؤكد أن الجيش اعتقل الرئيس باه نداو ورئيس الوزراء مختار وان ووزير الدفاع سليمان دوكوريه، وذلك بعد ساعات من إعلان تشكيل حكومة جديدة استُبعد منها وزيرا الدفاع والأمن، وهما شخصيتان رمزيتان في انقلاب أغسطس/آب 2020.
إثر اعتقالهم وإخراجهم بالقوة من منازلهم، تم اقتياد نداو ووان إلى ثكنة “كاتي” العسكرية الواقعة على بعد 17 كيلومترًا شمال العاصمة باماكو، وهو نفس المعسكر الذي اعتقل فيه الرئيس الأسبق إبراهيم بوبكر كيتا، قبل إجباره على الاستقالة.
إلى الآن، لم يتحدث الجيش وما زالت نوايا منفذي الانقلاب غير واضحة، كما أنه من غير المعلوم حتى كتابة هذه الكلمات ما إذا كان الرئيس الانتقالي باه نداو ورئيس وزرائه مختار أواني ما زالا في ثكنة كاتي العسكرية أم لا.
ما يحدث في مالي هو نسخة مصورة من أحداث 18 من أغسطس/آب 2020، فالجيش يريد إبقاء قبضته على الحكومة، وأن يُظهر مرة أخرى للسلطات المدنية أنه من يتولى قيادة البلاد، بعد أن تم استبعاد عضوين من المجلس العسكري الذي أطاح بالرئيس إبراهيم بوبكر كيتا، وهما وزير الدفاع السابق ساديو كامارا (سبق أن شغل منصب مدير الأكاديمية العسكرية في كاتي يناير/كانون الثاني 2020، عندما غادر إلى روسيا للتدريب العسكري) ووزير الأمن السابق موديبو كوني.
اختارت باريس منذ سنوات دعم الفساد وقد تجسد ذلك في دعم الرئيس السابق إبراهيم بوبكر كيتا الذي عُرف عنه رعاية الفساد في البلاد والتغطية على الفاسدين.
كان الهدف من التعديلات الأخيرة في الحكومة الحد من النفوذ المتزايد للمجلس العسكري مع إظهار انفتاحهم السياسي لتهدئة الانتقادات الموجهة إليهم لسوء إدارتهم للشؤون العامة، لكن يبدو أن بعض قيادات الجيش لم يستسغ ذلك وقررت إعادة الوضع لما كان عليه ومواصلة عسكرة الدولة.
عقب انقلاب أغسطس/آب الماضي، شكلت قيادات الجيش المالي هيئات انتقالية هيمنوا عليها (رئاسة وحكومة ورئيس وزراء وهيئة تشريعية)، لكنهم في الوقت ذاته تعهدوا بإعادة السلطة إلى مدنيين منتخبين في غضون 18 شهرًا، لكن تم التشكيك في نواياهم.
وعرفت مالي منذ سنة 1968 إلى يومنا هذا – دون احتساب ما يحصل اليوم هناك – أربعة انقلابات غيرت مسار تاريخها السياسي، جميعها تم إعدادها في ثكنة كاتي، أين تم تدريب عدة أجيال من الجنود وتم تشكيل روابط قوية بينهم على مدى عدة عقود.
دعم للفساد ونهب للخيرات
لا يُعرف بعد أهداف منفذي التحرك الأخير في باماكو لكن ما يُعرف جليًا أن الوضع في مالي ليس على ما يرام نتيجة فشل السياسات الفرنسية في هذا البلد الإفريقي، فباريس اختارت الجانب الأمني والعسكري على الجانب التنموي، وهو ما يجني الماليون نتيجته حاليًّا.
رُصدت أموال طائلة لدعم مالي، لكن سياسات فرنسا المتحكمة بزمام الأمور هناك أدت إلى تدهور الوضع أكثر، وضعف مؤسسات الدولة، ففي أي وقت يمكن أن يحدث انقلاب في مالي ذلك أن الجميع يطمع في الحكم.
اختارت باريس منذ سنوات دعم الفساد وقد تجسد ذلك في دعم الرئيس السابق إبراهيم بوبكر كيتا الذي عُرف عنه رعاية الفساد في البلاد والتغطية على الفاسدين، ما أدى لانتشار الفساد في جميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية: الجمارك والضرائب والمشتريات العامة والشرطة والعدالة والمستشفيات وغيرها.
مالي انقلاب عسكري ثان في أقل من سنة يطيح بالرئيس الانتقالي،تعد مالي التي تقع غرب أفريقيا جنوب الصحراء من أكثر دول القارة تخلفا في إدارة الموارد وفساد النظام السياسي،حيث تذهب جل مواردها الطبيعية إلى قصر الإليزيه،بينما يعيش نصف سكانها البالغ نحو ١٩مليون نسمة تحت خط الفقر والبطالة pic.twitter.com/5w1PZszQBy
— موسى تيهوساي Mussa Tehusai (@ALTEHOSAI122) May 25, 2021
هذا الفساد أدى إلى تحكم الفاعلين الاقتصاديين على حساب باقي الشعب، وهو ما أدى إلى ظهور الجماعات المسلحة في البلاد وتراجع رموز الدولة في مناطق عدة من مالي، وهي الذريعة التي اتخذتها فرنسا للتدخل العسكري هناك سنة 2013، وإرسال الآلاف من جنودها بحجة مقاومة الإرهاب، لكن الواقع أثبت عكس ذلك.
ففي بداية يناير/كانون الثاني 2013، بدأت فرنسا أكبر عملية عسكرية لها في الخارج منذ عقود عدة، مباشرة إثر سقوط شمال مالي في قبضة مجموعات مسلحة مرتبطة بتنظيم القاعدة (حركتا التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا) وأخرى منشقة عنها (الملثمون بقيادة مختار بلمختار) وأخرى تابعة للطوارق (حركة أنصار الدين والحركة الوطنية لتحرير أزواد).
وشرعنت فرنسا تدخلها، بطلب الحكومة المالية استعادة سلطتها في منطقة شبه صحراوية مترامية، كما اتكأت على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2085 الصادر في 20 من ديسمبر/كانون الأول 2012، الذي يسمح بإنشاء قوة دولية لدعم مالي في حربها لاستعادة الشمال، هذا فضلًا عن مبررات أخرى من قبيل منع قيام كيان إرهابي في المنطقة يشكل تهديدًا للمنطقة والعالم بأسره.
طوت منطقة الساحل عام 2020، بحصيلة دامية للعنف والإرهاب، فقد سجلت سقوط آلاف القتلى من المدنيين والعسكريين والمسلحين أغلبهم في مالي
هذا الأمر سهل على فرنسا نهب خيرات البلاد واستنزاف ثرواتها والتحكم في اقتصادها الهش، خاصة أن باطن مالي يحمل ثروات نفطية وغازية ومعدنية كبيرة (الذهب والبوكسيت واليورانيوم والحديد والنحاس والليثيوم والمنغنيز والفوسفات والملح)، ويعتبر الذهب أهم المصادر المعدنية للاقتصاد المالي، إذ تعد ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا بعد جنوب إفريقيا وغانا.
واستغلت فرنسا ذلك لحماية استثماراتها الاقتصادية الكبرى في السنغال وبوركينافاسو وعموم دول المنطقة، فضلًا عن السيطرة على مواردها، فهذه الدولة تقع على مقربة من حقول النفط الجزائرية، وعلى مسافة قريبة أيضًا من أماكن التنقيب ذات المؤشرات الإيجابية في موريتانيا، وتجاور النيجر التي تحتل المرتبة الثالثة عالميًا في إنتاج اليورانيوم.
الدفع بمالي إلى طريق مسدود
هذه السياسات الفرنسية، تدفع مالي إلى طريق مسدود عواقبه ستكون وخيمة على المنطقة ككل، فباريس مسؤولة عن ارتفاع منسوب الفساد في هذا البلد الإفريقي وأيضًا مسؤولة عن ارتفاع منسوب العنف هناك، فرغم مرور أكثر من 8 سنوات على بداية تدخلها العسكري في مالي ما زال الاقتتال متواصلًا.
ليس هذا فحسب، إذ أدى دفع الفدية للتنظيمات الإرهابية، إلى تعزيز مكاسب هذه التنظيمات بينها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، كما أعاد ضبط خريطة توزيع الحركات الإرهابية في إفريقيا بداية من مصر مرورًا بتشاد والسودان وصولًا إلى مالي والنيجر، ورفع معنوياتهم وعزز قدراتهم، وبدل أن تطرد الإرهابيين والانفصاليين من شمال مالي، انتشرت التنظيمات الإرهابية في بلدان الساحل حتى وصلت إلى حدود كوت ديفوار، المطلة على المحيط الأطلسي.
إنقلاب عسكري في #مالي
يبدو أن الفرنسي يريد الساحل الافريقي لتحقيق مآرب لها علاقة باستراتيجيات عابرة للقارات خاصة في البلد الذي تعتبره باريس “محمية فرنسية” ..
إنها لعبة الأُمم يا عزيزي ?
— AHMAD ? (@ahmadh_9) May 24, 2021
طوت منطقة الساحل، عام 2020، بحصيلة دامية للعنف والإرهاب، فقد سجلت سقوط آلاف القتلى من المدنيين والعسكريين والمسلحين أغلبهم في مالي، كما تضاعفت العمليات الإرهابية وجرى تشريد ملايين السكان من مواطنهم الفقيرة إلى فضاءات جديدة من اللجوء البائس.
نتيجة ذلك خرجت جمعيات المجتمع المدني والأحزاب السياسية ومجموعات من الأهالي للشوارع، للتعبير عن استنكارهم من سوء الحكم في البلاد، ودعوا إلى قيام جمهورية جديدة، الأمر الذي يتطلب استقالة جميع مؤسسات الدولة: التنفيذية والتشريعية والقضائية.
يرى العديد من الماليين أن فرنسا دخلت بلادهم بحجة دعم الدولة في محاربة الإرهاب، لكنها في الواقع دعمت الانقلابات ورعت الفساد وأججت العنف والاقتتال حتى تعطي لنفسها الحجة لنهب ثروات البلاد، ما جعل مالي تتخبط في الأزمات الواحدة تلوى الأخرى دون أن يكون هناك أمل للخروج من هذا الوضع المتأزم في القريب العاجل.