ترجمة وتحرير نون بوست
أتذكر كما لو كان بالأمس في ظُهر ذلك اليوم الذي شممت فيه رائحة العود لأول مرة. كنت في منزل جدتي في دلهي، وكنت أبلغ من العمر 13 سنة، وربما 14 سنة. كان لدينا صانع عطور عائلي، أو كما ندعوه عطار والله، وهو رجل راق، جاء إلينا من لكناو، وهي المدينة التي تمثل رمزا للثقافة الهندية الإسلامية العالية.
لم نكن نعرف اسم عطار والله، أو كيفية تمكنّه من اللحاق بنا على الرغم من تغيّر عنوان منزلنا، فقد استطاع القدوم إلى منزلنا مرتين أو ثلاث مرات في السنة. كان عطار والله، ذو الجسم النحيف والفم المحمر من التنباك، أو أوراق التنبول وجوز الأريكا، يصنع تركيبات عطوره من زجاجات منقوشة من الزجاج الملون التي كان يحملها في حقيبة طبية جلدية سوداء. وكان يعرض علينا الروائح وفقا للفصل الذي كنّا فيه.
بعبارة أخرى، كان يُعرض علينا في فصل الشتاء المسك والباتشولي، بينما كان يعرض علينا في فصل الصيف أزهار الياسمين البيضاء المزهرة، التي يوجد منها حوالي 40 صنفا غريبا في الهند، بالإضافة إلى الورد ونجيل الهند.
أما في موسم الرياح الموسمية، كان يحضر إلينا عطر ميتي، الذي يحاكي رائحة تنفس الأرض القاحلة بعد المطر الأول (“ميتي” تعني “الطين” باللغة الهندية). في الواقع، جاءت العطور من مدينة قنوج الهندية التي تعود للقرون الوسطى والتي تقع على بعد 75 ميلا بالسيارة غرب لكناو والتي تتميز، مثل مدينة غراس الفرنسية، بتقليد في صناعة العطور منذ عدة قرون.
بمجرد أن يصب عطوره على أطرف الأعواد القطنية البيضاء الرفيعة والطويلة، يبقى عطار ولله أكثر وقت مع زبائنه، ليروي لهم قصصا عن مختلف الروائح ويردد بيتين رومانسيين من الشعر الفريد من الشعر الأردي. ذات يوم، أقبل إلى منزلنا ابن عطار والله ليُعلمنا بوفاة والده، وعن العود. واتضح على الفور أن ابن عطار والله كان يختلف عن أبيه.
كانت أعينه مُكحّلة ويرتدي سروال بيج باهت. وعلى الرغم من أن والده كان مليئا بسحر العالم القديم، كان عطار والله الشاب متملقا وانتهازيا ومخادعا بعض الشيء. وبمجرد أن تعاملت معه سيدات المنزل، والدتي وجدتي وخالاتي، من أجل والده، شعرن بنفور منه على الفور. آنذاك، كان الطقس باردا، وكانت المدافئ ذات القضبان البرتقالية تتوهّج في الغرفة التي كان يجلس فيها عطار والله والنساء. لقد كنت أستمع إليهم وهم يتحدثون عن الجودة والموسمية عندما قال صانع العطور الشاب والمبتدئ، “لدي بعض العود”.
فجأة، خيّم الصمت على الغرفة. بعد ذلك، همست أمي قائلة: “كم ثمنه؟”، وكأن عطار والله الشاب كان يحاول بيعها الحشيش وليس العطر. في هذا السياق، قلت: “ما هو العود؟” طبعا ردا على التأثير السحري لهذه الكلمة على الغرفة. كان العطار والله الشاب، الذي ربما شعر بالارتياح لرؤية وجه ودود في هذا الحشد القاسي، واقفا أمامي مثل العفريت. كنت أشرب شاي الكرك، وقبل أن أنطق بأي كلمة أخرى، سكب قطرة واحدة من العود في الكوب. وقال مبتسما: “اشربه الآن”.
أخذت رشفة وقلت: يا إلهي! كانت حواسي مشوشة. لقد غمرني الحس المواكب بشكل نقي وساحر كما عرفه أي بودلير. وكانت رائحتها، أو طعمها، مثل عفن خشبي عميق ونوع من الظل المعطر وبرودة مثيرة للسوق المغطى. وكان مألوفا، مثل رائحة أكياس الحبوب والتوابل في بلدة قديمة. في المقابل، كانت رائحته أيضا ساحرة إلى حد ما، حسيّة ومخمليّة. وعلى الرغم من أنه كان كثيفا وساحرا ومتناغما مع يوم الشتاء المغيّم بالخارج، إلا أنه لم يكن مزعجا.
لقد جذبتني الرائحة، فالقليل من تلك الرائحة جعلني أرغب في شم المزيد، على الرغم من أنه لم يُفصح مطلقا عن سره. لقد خلق لدي وهما من الراحة، مثل شال الشاتوش القديم، لكنه كان يثير لدي أيضا حنينا لأماكن لم أزرها من قبل، وأحاسيس لم أختبرها سابقا. وبمجرد أن بدت تلك الرائحة في الاندثار، حاولت امتلاكها، مثل أحلام اليقظة التي يحاول فيها الشخص الإمساك بالهواء.
يتعلّق جزء مما كنت أشعر به بطبيعة الرائحة نفسها. ومن ضمن جميع الحواس، تعدّ حاسة الشم وحدها على اتصال مباشر بنظامنا الحافي، وهو الجزء من عقولنا الذي يتعامل مع العواطف والذاكرة. ويمكن تفسير الإلحاح الذي نشعر به في خضم تجربة عميقة مرتبطة بالرائحة، واندفاع الذاكرة قبل الكلمات والعقل، من الناحية الفسيولوجية: يرسل العصب الشمي إشارات مباشرة إلى الجزء الخاص بذاكرة العاطفة من دماغنا دون المرور عبر تقاطع المِهاد الظهري بالطريقة التي تعمل بها الحواس الأخرى.
استيقظت من تخيّلاتي على رؤية قطرة خاملة من الزيت تتصادم عشوائيا بحافة فنجان الشاي الخزفي الخاص بي. كنت مدمنا على تلك الرائحة، وأرغب في الحصول على بعض العود، لأشتمّه بين الحين والآخر. حينها، هزت والدتي رأسها، حيث كانت قارورة العود، حتى في أوائل التسعينات، في الهند الخارجة من ربقة الاشتراكية، تكلّف عدة مئات من الدولارات.
بطبيعة الحال، جعلني ثمنها الباهظ أرغب بها أكثر. ويُذكر أن العود يأتي من نبات الأوليوريسين، التي تكونت جراء هجوم الفطريات على قلب شجرة عادية رفيعة الأطراف، موطنها جنوب وجنوب شرق آسيا، تُعرف باسم العود الهندي.
تكون الشجرة السليمة دائمة الخضرة. وبمجرد أن تهاجمها الفطريات، يتغيّر وزنها تدريجيا بحيث لا يمكن أن تطفو على الماء. من جانبه، كتب إدوين تي موريس في سنة 1984 أن “الاسم الصيني للمادة هو “العطر الغارق. العطر: قصة العطر من كليوباترا إلى شانيل”. ويظهر المحلول الثمين، إكسير المرض والتعفّن، ليحوّل الأجزاء الداخلية الخشبية للشجرة إلى ذهب سائل.
لا تصيب الفطريات سوى بعض الأشجار. وينبغي على المرء أن ينتظر ما يصل إلى نصف قرن للحصول على أعلى جودة. ويعدّ ذلك السبب في كون العود باهظ الثمن، حيث مرت سنوات عديدة لأتمكن بفضل كرم صديق العائلة من الحصول على بضعة أوقية من الراتنج الثمين. كان الترعرع في الهند في أعقاب الاستعمار، كطفل في فترة الثمانينات، يعني أن تتعلم تحقيق التوازن بين مجتمعات متعددة في ذهن الفرد، دون التوصل إلى حل أو تداخل على الإطلاق.
من جهته، أخبرني فرانسيس كوركدجيان، البالغ من العمر 52 سنة، وهو صانع عطور فرنسي من أصول أرمينية ومبتكر عطور مثيرة مثل عطر “لومال” من “جون بول جوتييه” (1995)، أنه “عندما يكون لديك ثقافة مزدوجة، تصبح أكثر انفتاحا، لأنك تواجه باعتبارك طفلا شيئا خفيا، مما يتيح لك نافذة أخرى على العالم”.
ما يعنيه العطر بالنسبة لي هو أنني احتللت عالمين بقيا منفصلين، لا يمكن استيعابهما. كانت هناك الهند التقليدية، عالم العطار والله، بكل روائحها: من حصائر نجيل الهند الرطبة في البيوت القديمة في الصيف وصمغ خشب الصندل البارد أو شاندان في المعبد، الذي يُلطخ على جبهة أحدهم بعد الطقوس، أو إناء البخور النحاسي المُدخَّن الذي يُنقل عبر المنزل في المساء لتنقية الهواء.
في المقابل، ما لم أكن على دراية به، باعتباري صبيا “شرقيا” نشأ وسط الروائح الشرقية، هو حقيقة أنه من أواخر السبعينات وحتى منتصف الثمانينات، كانت هناك حركة جارية في صناعة العطور الغربية، حيث أعيد تعديل الروائح التي نشأت عليها منذ الطفولة والمعروفة باسم العطور “الشرقية”، الكهرمان والأخشاب العطرية ونجيل الهند والبتشول والمسك وخشب الصندل. لقد جسّد صعودها، الذي بلغ ذروته في نهاية المطاف بتعميم العود في قرننا، التغيرات المجتمعية العميقة التي طرأت على المجتمع الغربي على غرار تحرير المرأة والحرية الجنسية والهيمنة العالمية للولايات المتحدة.
من بين هذه الروائح القوية الجديدة التي مثّلت بروز المرأة المستقلة، على عكس والدتي التي كانت من أولى الصحفيات في الهند لتغطية النزاعات، ربما لم تكن أي من الروائح مميّزة مثل العطر الذي يوجد في إحدى الزجاجة التي كانت على طاولتها. عموما، كانت الزجاجة ذات غلاف برتقالي محترق غريب، على شكل الإنرو (التي أصبحت أعرفها الآن)، وهي إحدى الصناديق اليابانية الصغيرة ذات الحجرات الصغيرة التي تحتوي على الأعشاب الطبية والأختام والتوابل والأفيون، التي كان الساموراي يرتدونها على أحزمتهم.
يوجد على الوجه المنحني للزجاجة، مثل قارورة الورك، عين زجاجية يمكن من خلالها رؤية سائل غني بلون العنبر. وكتب على الزجاجة بحروف ذهبية باهتة على المقدمة “Opium Parfum Yves Saint Laurent”. أذكر رائحته الثقيلة المستحوذة وجميع التوابل والباتشولي والشوح البلسمي. ولإضفاء لمسة من الفخامة، أضافت الساري المزركش الحريري والمزيّن باللون الذهبي في الأطراف الذي كانت أمي ترتديه خلال أمسيات الشتاء في دلهي.
في عام 1978، بعد عام من إطلاق عطر أوبيوم لأول مرة، نشر أكاديمي أمريكي من أصل فلسطيني اسمه إدوارد سعيد عمله بعنوان، “الاستشراق” ، الذي يطرح فكرة الغرب الحديث الجشع والمنبثق من الاستعمار، الذي يستحوذ على الملكية الثقافية والتاريخ الخاص بالشرقيين كوسيلة للسيطرة عليها والتحدث باسمها والتحكم فيها بشكل أفضل نتيجة لذلك.
كتب سعيد قائلا: “في الواقع، تتمثل حجتي الحقيقية في الاستشراق الذي يعدّ بُعدا مهما للثقافة السياسية والفكرية الحديثة، وبالتالي لا علاقة له بالشرق بقدر ما له علاقة “بعالمنا”. في الحقيقة، تسلّط دراسة سعيد الضوء على الفن والأدب والتاريخ في الغالب. في المقابل، تنطبق الحقيقة التي تنطبق أيضا على الجوانب الأخرى للثقافة، على العطور: كان بروز الشرق في أواخر السبعينات، الذي يرمز له عطر أوبيوم، يمثل إحدى المرات العديدة التي استغلّ الغرب من خلالها الشرق للتعبير عن أشياء لها علاقة بالغرب أكثر من الشرق.
تدهشني فكرة وجود ثقافة أخرى أكثر قوة وقادرة على التعبير عن نفسها من خلال ثقافتك، إذ يكتب سعيد أنها “إحدى أعمق تصوّراتنا للآخر وأكثرها تكرارا”. وبهذه الطريقة، لا يعدّ ظهور ما يسمى بالشرقيات مجرد موضة رائجة ضمن صناعة العطور، بل هي قصة تشمل الإغواء والقوة والتاريخ والإرث. وفي المقام الأول، يرتبط هذا المصطلح ارتباطا وثيقا بميلاد الحداثة في أوروبا.
بروز قوّة المواد الخام
لا يمثّل مرور عقد في صناعة العطور، كما في مجال الفن، مجرد انتهاء عقد تقويمي. وبشرت الثمانينات بعصر من العطور الجريئة والمثيرة للحواس، التي ظهرت بشكل حاسم قبل بضع سنوات مع إطلاق عطر أوبيوم. انتهى عقد الاختلاط الجنسي فجأة في منتصف الثمانينات عندما سيطر الرعب بسبب انتشار وباء الإيدز. قال صانع العطور كيليان هينيسي، البالغ من العمر 49 سنة، “لقد أدرك الناس أن الجنس يمكن أن يكون قاتلا”. وأصبح الجنس والموت مرتبطين ارتباطا وثيقا ومأساويا، وكان هناك تأثير عميق على العطور، من خلال استخدام أكبر قدر من المواد المتعفّنة وبراعم الربيع الجديدة، ليعبّر عن دورة الخلق والتحلل.
تابع هينيسي قائلا إن “العطر اجتماعي للغاية حيث دائما ما يمثّل انبثاقا وانعكاسا ومرآة للمجتمع”. يعدّ هينيسي، الذي يتمتع بالقوة والثقة بالنفس والجدية المدروسة بالنسبة لشخص لديه جانب أكثر شقاوة، في الواقع صانع عطور رائع، وأعتقد أنه كان مصدر إلهام لحاسة الأنف، أو صانع العطور الذي ظهر في سلسلة “إيميلي في باريس” التي تعرض على نيتفليكس. (وعندما سألته قال لي: “لا تعليق”، على الرغم من أنه لم يكن لينكر ذلك بشكل صريح). فبالنسبة له، تُعرّف فترة الثمانينات بحشوات الكتف والبدلات النسائية والنساء الطموحات، على غرار سيغورني ويفر في فيلم “الفتاة العاملة” (1988) التي يَعتقد هينيسي أنها كانت تحتاج إلى “عطور قوية حتى تشعر بالقوة في بيئة ذكورية”.
قال هينيسي: “قدّمنا عطر أوبيوم من إيف سان لوران”، وقد جعلني ذلك أتساءل من يقصد بقوله “نحن”. وذكر هينيسي قائلا: “قدّمنا عطر كوكو من شانيل [1984]. وقدّمنا عطر بويزن من ديور [1985]” مضيفا إلى هذه القائمة تشارلي من ريفلون (1973) وعطر أوسكار من أوسكار دي لا رينتا (1977) وعطر أوبسيشن من كالفن كلاين (1985)، قائلا: “إذا سألك الناس ما هي الثمانينيات؟ فهي شبيهة برائحة بويزن في فرنسا ورائحة أوبسيشن في الولايات المتّحدة”.
كان العطر الأخير، الذي ظهر في زجاجة ذات قالب ناعم، مزيجا من المسك النقي والجانب الحيواني، وهو أساسي كالحمض النووي المتحجر لجنسنا المحفوظ في العنبر. بينما كان العطر الأول قويا لدرجة أنه كانت هناك لافتات في المطاعم الحائزة على نجمة ميشلان في فرنسا تحظر على النساء وضع عطر ديور. وكانت هذه هي النقطة التي أراد هينيسي توضيحها، وهي أن هذه الحقبة تميّزت بقوة المواد الخام التي تمثل القوة الحقيقية.
وافقت شانتال روس، التي كانت مسؤولة عن تسويق عطر أوبيوم في السبعينات، على هذا التقييم. من جانبها، تمكّنت روس من البروز في عالم مستحضرات التجميل الفرنسية في وقت لم يكن من السهل على النساء تحقيق ذلك، إذ قالت خلال محادثة على تطبيق فيس تايم من شقتها في باريس: “لقد كان إطلاق أوبيوم ضربة ناجحة، لكنه كان فضيحة”. من وجهة نظر مالية، حقق العطر نجاحا هائلا، إذ ذكرت روس أن “العطر جذب على الفور النساء من جميع الأجيال، فقد كان ذو طابع شرقي للغاية ومنشّطا للحواس ومثيرا للغاية”، مما دفع الفتيات الصغيرات للاصطفاف أمام المتاجر لدفع ثمنه مقدما.
في الوقت الراهن، لا تستطيع أيّة علامة تجارية تسويق عطر مثل أوبيوم بالطريقة التي استطاعت بها روس فعل ذلك. وبقدر ما عبّر عطر أوبيوم عن الحرية الجنسية وتمكين المرأة والجرأة الأمريكية الجديدة، فلم يكن لديه ما يعبّر عنه على الإطلاق عندما يتعلّق الأمر بثقافة الصين، التي كان العطر متجذّرا فيها، وهو أمر مهين للغاية، مما دفع بجمهورية الصين الشعبية لحظر استعمال العطر.
في الولايات المتحدة، احتجّ الأمريكيون الصينيون على تسويق هذه الرائحة، معترضين على الاستغلال التجاري للمخدرات التي سبّبت ألما كبيرا للصين خلال القرن التاسع عشر عندما حَوَّلَت بريطانيا، خلال حروب الأفيون، الأمة الصينيّة القوية إلى مدمنة على هذا المخدّر. فضلا عن ذلك، تحدّثت روس بحنين عن ماضي بلد لم يكن بلدها، قائلة: “لقد كان أوبيوم حلم إمبراطورة الصين”.
على الرغم من أن إيف سان لوران كان معجبا بالشرق على الأغلب، إلا أنه كان يعمل في واحد من أثرى التقاليد في فرنسا، ويستلهم من اللوحات الاستشراقية في القرن التاسع عشر لجان- ليون جيروم وهوراس فيرنيه ومآثر غوستاف فلوبير بعنوان “رحلة إلى الشرق” (1849-51). في إجابته عن السؤال لماذا احتاجت أوروبا لإرساء هذه الفكرة عن الشرق “الفاسق”، كتب سعيد قائلا: “قد ندرك أيضا أنه وقع إضفاء الطابع المؤسسي على الجنس بدرجة كبيرة في أوروبا خلال القرن التاسع عشر مع نموها البرجوازي المتزايد”.
من جهة، لم يكن هناك مفهوم للجنس “الحر”. ومن جهة أخرى، استلزم الجنس في المجتمع مجموعة من الالتزامات القانونية والأخلاقية وحتى السياسية والاقتصادية من نوع مفصل ومرهق بالتأكيد”. وكلما شعر الغرب بأنه مقيّد أكثر، عمل على تحويل الشرق إلى “مكان يمكن للمرء أن يبحث فيه عن تجربة جنسية لا يمكن إيجادها في أوروبا”.
مع ذلك، يتمثل الضرر الناجم عن جعل مجتمع آخر مسرحا للرغبات المحرمة، في انتهاء الأمر بسرقة هذا المكان. من جهته، رسّخ فلوبير صورة نمطية عن “المرأة الشرقية” تصوّرها على أنها مثيرة وخاضعة وتمثّل الغرض الذي يرتبط برغبة الرجل الأبيض وهيمنته. وفي إشارة إلى جاذبية مثل هذه الشخصية بالنسبة لفلوبير، شدّد سعيد على فقدان حق التعبير قائلا: “ما أَحَبّه فيها بشكل خاص هو أنها لم تطالبه بأي مطالب، في حين أن الرائحة المزعجة لبق الفراش اختلطت بشكل ساحر مع “رائحة جلدها التي كانت تقطر بخشب الصندل”. ولكي نكون واضحين، هذا ليس تشاندان المقدس الذي لطخ جبهتي أثناء الطقوس الهندوسية، وإنما شيئا أكثر تدنيسا تماما.
ويوضح سعيد نقطة مهمة: “لا يوجد سوى قدر ضئيل من الموافقة، على سبيل المثال، في حقيقة مفادها أن لقاء فلوبير مع مومس مصرية أنتج نموذجا مؤثرا على نطاق واسع واسع للمرأة الشرقية، لم تتحدث أبدا عن نفسها، ولم تعبر أبدا عن مشاعرها أو تبرز حضورها أو تتحدث عن تاريخها، لقد تحدث نيابة عنها ومثلها”. في الوقت نفسه، على النقيض من سعيد، يجب على المرء أن يكون حريصا على عدم المبالغة في تقدير قوة الغرب على الشرق.
بعد كل شيء، لا يزال الشرق يتمتع بعلاقة مستقلة مع روائحه الخاصة، حيث لا أحد يشم رائحة خشب الصندل في حرم معبد في فاراناسي يفكر في “المرأة الشرقية” التي تحدث عنها فلوبير في كتاباته، ولا عندما تنبعث من الغسيل في الصيف رائحة نجيل الهند، يشعر بالطابع الشرقي الذي تكتسيه. يتفاعل الأشخاص في الهند والمملكة العربية السعودية وأجزاء أخرى من آسيا مع روائحهم الخاصة التي تناسبهم، حسب مواسمهم وتقاليدهم، الخالية من أي طابع غربي.
لست متأكدًا تمامًا حتى من أن مفهوم الحيوانية أو الوحشية، مع كل ارتباطاته بالسلوك الجنسي، هي من المفاهيم التي فرضها علينا الغرب. لنأخذ على سبيل المثال شاعر البلاط السنسكريتي كاليداسا، الذي ذكر في شعره نهرا معطرا برائحة الأفيال البرية. في “ولادة كومارا”، تحفة كاليداسا التي يعود تاريخها إلى القرنين الرابع والخامس (وترجمها ديفيد سميث في 2005)، والتي تجسد حب شيفا، الإله العظيم، المدمر للعوالم، وبارفاتي، آلهة الخصوبة والقوة الإلهية، يتجول شيفا بين تلال الأرز “التي ترشها شلالات الغانج، وتعبق من مياهها رائحة المسك المنبعثة من سرّة الأيل المسكي”.
في الجزء الأخير، الذي كان بمثابة ملحمة ممتعة بعنوان “إكمال الزواج”، يتنفس شيفا رائحة جسد بارفاتي المليء بالعرق، ويواصلان ممارسة الجنس طوال الليل، تاركين “غطاء الفراش غير مرتب، وملطخا بصبغة حمراء من أقدامهم”. على بعد قرون من النظرة الاستعمارية، يلخص أحد الأبيات ما يمكن أن يجمع بين الجنس والروائح والعطور قائلا: ” إنه الفرق بين ما هو نقي وما هو قذر؟”
الوردة هي الوردة
مع ذلك، كيف كان شكل الأزهار في ذلك التاريخ؟ في أوائل أوروبا الحديثة، كما هو الحال في الهند اليوم، كان للعطور العديد من الوظائف، من الطبية إلى الدينية، وتجاوزت استخدامها كتعبير عن ذوق الفرد وشخصيته. لكن مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، جدّت بعض التغييرات في المجتمع الأوروبي غيّرت إلى الأبد مكانة روائح الأزهار، على غرار البنفسج وزهر البرتقال ومسك الروم والأكاسيا والياسمين والورد، مقارنة بنظرائها من العطور الشرقية.
لفهم المكانة المميزة التي ستكتسبها الأزهار في القرن التاسع عشر، فضلاً عن ارتباطها بالنقاء والنظافة والأنوثة (أو كما يصفه المؤرخ آلان كوربين في كتابه “الكريهة والعطرة: الرائحة والخيال الاجتماعي الفرنسي” [1982] باعتباره “التواطؤ الغامض بين المرأة والزهرة”)، يحتاج المرء إلى إدراك مدى ارتباط التغيير ارتباطًا وثيقًا بانهيار المجتمع نفسه في فترة ما قبل العصر الحديث.
حسب كوربين، أدى ظهور “الطبقة البرجوازية الخالية من الروائح الكريهة” في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، جنبًا إلى جنب مع اكتشاف الكيمياء الهوائية، التي قللت من الدور العلاجي للأبخرة ( حيث كان طبيب الطاعون يرتدي قناعا واقيا مليئا بالمركبات العطرية)، إلى تأسيس عالم جديد، حيث باتت الرائحة الطيبة تتركز في أن لا تكون لك أي رائحة، أو في أحسن الأحوال أن ينبعث منك عطر زهري خفيف.
في هذا السياق، كتب كوربين: “بين النخبة، أدت التغييرات في الأذواق والموضة إلى تشويه سمعة الروائح الثقيلة. أصبحت روائح الفضاءات الخاصة أقل قوة وتم إثراؤها وتنويعها من خلال روائح أكثر رقة ودقة. في أوروبا التي كانت قد تخطت لتوها وباء الطاعون الدبلي، وتتميز بالمدن المزدحمة المعرضة للأوبئة والحرائق، كان هناك انجذاب متزايد نحو الفضاءات المفتوحة والهواء المتجدد”. وحسب ما جاء في كتاب دانيال ديفو “مجلة عام الطاعون”(1722)، كانت لندن تمتلئ بالأبخرة والروائح القاتلة.
وفق ديفو، كان الناس يسيرون في منتصف الشارع، حتى لا “يختلطوا مع أي شخص خارج من المنازل، أو يشمون الروائح المنبعثة من البيوت التي قد تكون عائلاتها مصابة بالطاعون”. كما عجت هذه الشوارع المبلطة بالطين، التي دُفن تحتها الموتى، بـ”جيل شرير من المتظاهرين بفن السحر الأسود، كما أطلقوا عليه”.
في الحقيقة، تجسد كل هذه المعطيات تاريخ ما قبل العصر الحديث الذي تجاهلته أوروبا بحلول القرن التاسع عشر. في ذلك العالم الجديد، أصبحت الأزهار رمزًا للمرافق الصحية العامة، وجسدت الفرق بين العام والخاص؛ وصعود قيمة الفرد والعلم والعقل وفقدان الإيمان بالله، وهو ما كانت ترمز إليه روائح البخور والأخشاب الثقيلة والراتنجات التي تنتشر من خلال سحابة من الدخان الأزرق -وترتبط بها مفاهيمنا الأولى عن العطور نفسها.
حسب كوربين، أصبحت روائح مروج الربيع البلسمية “هوسًا” في العالم الجديد، الذي أصبح خاليًا من الطقوس الكنسية والسحر. في لوحات جيوفاني باتيستا تيبولو، التي تركز على التصميمات الداخلية، يرى كوربين “تعبيرًا عن حساسية جديدة للرائحة”، والرغبة في استبعاد عالم العطور.
بالنسبة لي، فإن مشاهدة تغيير مماثل في الهند اليوم، مثل تفشي النزعة الفردية وظهور عائلات صغيرة تعيش في أماكن مغلقة تشبه الشقق، ومحاولة إزاحة التقاليد للحاق بركب الحداثة، من خلال الانتقال من الريف إلى المناطق الحضرية – يُصور ما شعرت به أوروبا في القرن التاسع عشر بعد ظهور مجتمع جديد يعتبر الرائحة الشخصية أحد جوانب حسن السلوك، على حد تعبير كوربين.
كانت رائحة الأزهار هي أنفاس أوروبا الجديدة الخالية من الأمراض. كما حدث كثيرًا في الماضي، أصبح مفهوم النظافة الجسدية مرادفًا للنظافة الأخلاقية. ارتبطت العطور الخفيفة بالعفة والنقاء، بينما تم ربط الروائح الثقيلة مثل البلسم والمسك والعنبر والأخشاب الثقيلة والجلود – ببيوت الدعارة.
يقول كوركدجيان: “عندما تضع الكثير من العطر”، فإنك تبدو مثل العاهرة. ارتبط العطر القوي للقرن التاسع عشر بالسلوك غير الأخلاقي”. وقد انتشرت هذه النظرة في القرن العشرين، لدرجة أنه عندما كانت كوكو شانيل بصدد إطلاق شانيل 5 (1921) كتب تيلار ج مازيو في كتابه “سر شانيل رقم 5 “ (2010): “سيكون ذلك مثيرًا واستفزازيًا ونظيفًا تمامًا”.
كان العطر – الذي يُعرف في الصناعة ببساطة باسم العطر الوحش، نظرًا لنجاحه غير المسبوق-، معروفًا باستخدامه للألدهيدات ذات الرائحة المنعشة التي تلبي احتياجات للحداثة في القرن العشرين. (هل كان من قبيل المصادفة أن إرنست بو، الأنف الفرنسي الذي اخترع شانيل 5، ولد في روسيا في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وهو جزء من نفس جيل الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي والرسام كازيمير ماليفيتش، اللذين كانا يعيدان صياغة الأدب والفن من الألف إلى الياء؟). أوضح مازيو أن رائحة المسك كانت تهيمن على عطر كوكو شانيل، وهو ما يُذكّر بالأجسام غير المغسولة والقذرة. لقد فهمت على الفور أنها كانت تجسد رائحة الدعارة”.
عطر الجنس
في كل مرة يحدث تغيير جذري مثل ذلك الذي طرأ على الأزهار والشرقيين، لدينا ميل للاعتقاد بأن أذواقنا وأزياءنا وأخلاقنا ستكون جديدة ولم يسبق لها مثيل، ولا نهاية لها. في الواقع، تعد حركة المد والجزر التي تتسم بها العلاقة بين الأزهار والشرقيات جزءا من جدلية يزيد عمرها عن 400 عام. تم الاحتفاء بالشرقيين ذات مرة لتسخيرهم نوعًا من الحيوانية الحسية الخام.
أخبرني كوركدجيان كيف كتب هنري الرابع ملك فرنسا، في القرن السادس عشر، إلى عشيقته غابرييل ديستري، يأمرها ألا تستحم عند عودته من الحرب لأن رائحة جسدها بلا استحمام كانت مثيرة. (حسب كوركدجيان، فإن ذلك أمر مجنون تمامًا عندما تفكر في الأمر حاليا”). سواء كانت مدام دو باري، العشيقة الرسمية للملك لويس الخامس عشر، التي ترددت شائعات أنها كانت تستخدم عطر العنبر، أو الإمبراطورة جوزفين، التي وُصفت بأنها مجنونة بالمسك، فقد كان الطابع الحيواني الذي تتسم به النظرة إلى الجسد العاري وغير المغسول في ذلك القرن مركز كل الرغبات.
في بعض الأحيان، تولد القوة الغاشمة لتلك الرائحة الإثارة، وفي أحيان أخرى النفور. كتب كازانوفا في القرن الثامن عشر عن دوقة روف المسنة، التي طلبت من عشيقها أن يجلس بجانبها: “لقد أطعت باحترام، لكن رائحة المسك الكريهة، التي بدت لي أشبه برائحة الجثة، كادت تزعجني”. كتب كوربين، الذي أعاد صياغة كلام هافلوك إليس (1859-1939)، الكاتب والطبيب الإنجليزي: “لم تستخدم النساء العطور لإخفاء رائحتهن ولكن لإبرازها. كان للمسك نفس وظيفة الكورسيهات التي تبرز ملامح الجسم”.
يقول فريدريك مال، 58 سنة، مؤسس دار عطور إيديشن دو بارفان فريدريك مال: “من وجهة نظر صانع العطور، فإن العطور الأكثر حداثة تدور حول النظافة”. شارك جدّه في تأسيس شركة كريستيان ديور للعطور سنة 1947، وأصبحت والدته فيما بعد رئيسة قسم تصميم المنتجات في الشركة. يضيف مال قائلا: “عندما تضعين ماء الكولونيا، فهذا امتداد لروتين العناية بنفسك. ستقولين ‘أنا نظيفة’. كلما تعمقت أكثر أصبحت أكثر غموضا، كلما اقتربت من الجلد اقتربت من السمات الحيوانية، من خلال وضع أحد هذه العطور، سواء كنت ترتدين فستان سهرة أو شيئا رسميا للغاية، فأنت تصرخين في الغرفة ‘هكذا هي رائحتي وأنا عارية!’ ليس عليك حتى أن تقولي ذلك”.
كانت “السمات الحيوانية” التي تحدث عنها مال مشتقة تاريخيا من ثلاثة مصادر رئيسية: العنبر، الذي جاء من إفراز في أمعاء حوت العنبر والذي يستخدمه لتغطية مناقير رأسيات القدم، مثل الحبار والكلمار، لجعلها قابلة للهضم؛ والزباد، وهو إفراز غدي لقط الزباد الموجود في إفريقيا وآسيا، والذي ينتج “رائحة برازية مقززة تصبح طيبة للغاية ومثبتة بقوة عند مزجها مع الروائح الأخرى”، كما كتب موريس؛ والمسك – كلمة “مشكا” باللغة السنسكريتية تعني حرفيا “كيس الصفن” – والذي تأتي من كيس على بطن أيل المسك، وهو حيوان منتشر في سيبيريا وجبال الهيمالايا.
من المهم معرفة أن هذه الروائح، جاءت في معظمها من الشرق، تماما مثل الفلفل والحرير. ومع ذلك، فإن تاريخ روابطنا لا يتوافق تماما مع تاريخ التجارة. كمجتمعات، يمكننا في أي لحظة، واعتمادا على إحساسنا بالثقة الثقافية، توسيع أو تقليص أصل سلعة معينة.
الجنس والرائحة. إنه شعور أساسي وبدائي. من لم يعرف الدور الذي يمكن أن تلعبه رائحة الإبط المغرية في جعل الجوانب الأكثر إيلاما من الجنس مقبولة أكثر؟ من الذي لم يسترجع اللحظات الجنسية فقط لأنه لا يزال قادرا على شم رائحة أحدهم؟ يضيف العطار في مسلسل “إيميلي في باريس” الإندول، وهو مركب عطري، إلى المكونات الأساسية “لخلق جو من العمق والإثارة” في ابتكاره العطري الجديد، واصفًا إياه بأنه يمتلك نفس الشكل الجزيئي لـ”البراز”.
ومثلما لاحظ رودريغيز فلوريس رو، صانع العطور في جيفودان، وهي شركة سويسرية للعطور ومستحضرات التجميل، أن نفس الجزيء، الموجود بالفعل في رائحة المادة البرازية، موجود أيضا في حليب الأم. ويقول رو عن الإندول: “إذن أنت تتحدث عن الاضمحلال والحياة الجديدة في نفس الوقت. أنا أستخدمه دائما، حتى بكميات صغيرة جدا، لأنه من المهم تذكيرنا بدورة الحياة والموت”.
البحث عن رائحة جديدة في الخارج
لقد كان العود هو الذي أعطاني تذوقي الأول لثراء العطور الشرقية. ومنذ وقت ليس ببعيد، في متجر مال في شارع ماديسون في مانهاتن، وجدت نفسي أعيش تجربة الطفولة تلك من خلال عطر العود – يطلق عليه “الفجر”، وبتكلفة 1600 دولار للمئة ملليلتر – وقد ابتكره مؤخرا كارلوس بينايم، المسؤول عن عطور مثل بولو رالف لورين، لفائدة شركة مال. يقول بينايم، الذي نشأ في طنجة، حيث كان والده صيدلانيا: “لم أكن أعلم بوجود العود. ليس لأنه كان من الصعب العثور عليه، ولكن لأنه كان موجودا في كل مكان”. ويضيف: “جميع الأماكن رائحتها مثل العود. الأسواق تفوح منها رائحة مثل العود. وهذا جزء من تكوينك”.
هنا، مرة أخرى – وأعتقد أن هذا هو سبب قوله ذلك- نرى علاقة مباشرة بين صانع العطور مثل بينايم، الذي نشأ في العالم الإسلامي، وعطر مثل العود. بعيدا عن أي دلالة على الطابع الجنسي، أو حتى الغرابة، فإن العطر يوحي برائحة يومية، رائحة السوق، والتي يتم تعزيزها من خلال الفهم العبقري للعطور كشيء نادر ومميز. إنه يتحدث عن الثروة والنجاح بالطبع (يظل العود شيئا قد يمنحه رجل سعودي ناجح لزوجته كهدية)، لكن له جذور عضوية عميقة، ومثل الرفاهية الحقيقية، فإنه يأخذ ما هو مألوف وشبه عادي – الرائحة من الأرض الجافة بعد المطر، على سبيل المثال – ويرتقي بها إلى شيء عزيز ومطلوب.
تقول ماتيلد لوران، صانعة العطور في كارتييه، إن شهرة العود في الغرب “مرتبطة بحقيقة أننا نعيش في مجتمع يتمتع بقدر أكبر من الحرية فيما يتعلق بالنوع الاجتماعي”. كانت لوران، التي تحدثت إليّ من باريس، تجسد الأناقة الفرنسية بشعرها الأشقر البلاتيني ووشاح العنق الجانبي المعقود. وأضافت: “أعتقد أننا ذهبنا بحثا عن رائحة جديدة في الخارج، وهذه الرائحة ليس لها نوع اجتماعي لأنها تأتي من الشرق”.
شعرت لوران أن الشرق لم يكن لديه هذا “الموقف المجنون” تجاه تصنيف العطور حسب النوع الاجتماعي ـ وكانت محقة في ذلك. في الهند وأجزاء من الشرق الأوسط، كان الرجال يضعون عطر الورد بينما تضع النساء العود (على الرغم من أنه ينبغي القول أن هذا النهج غير محدد الجنس للرائحة لم يُترجم إلى مجتمعات أقل اهتماما بالنوع الاجتماعي). تشعر لوران أن “إعادة الاستحواذ على التوجهات الشرقية” مثال على استماع الغرب بشكل أفضل للشرق، وليس مجرد استخدامه كأداة للتحدث عن نفسه.
المال جعل الناس يستمعون أيضا. بحلول التسعينات، أصبح عرب الخليج، الذين يسافرون الآن أكثر فأكثر، حاضرين بقوة في محلات هارودز وسيلفريدجز وبيرغدورف غودمان. يقول بينايم: “أتعلم أنك إذا وضعت عطر عود في محلات هارودز، فإنه سيباع بأسعار مجنونة. لقد بدأ الجميع في تطوير عطور العود الخاصة بهم”. لهذا السبب، فإن نجاح العود في الغرب هو شيء بعيد عن الاستشراق في الثمانينات. الآن، بعد قرون من الهيمنة الحضارية الغربية، بدأت القوة الثقافية بالتدفق في الاتجاه الآخر، من الشرق إلى الغرب.
لكن طوال هذه الرحلة العطرية، التي انفتح فيها لي عالم جديد من الحساسية والتاريخ، ظل سؤال واحد مهم في ذهني: ما هي استجابة العطور للوباء، خاصة وأن فيروس كوفيدـ19 يهدد قدرتنا على التمتع بحاسة الشم نفسها؟
على متن رحلة تابعة لشركة الخطوط الجوية الفرنسية في بداية السنة، دخل هينيسي إلى درجة رجال الأعمال، كما يفعل العطارون الناجحون، ولاحظ زجاجة كبيرة من عطر “كلارينس أو ديناميزونت” في الحمام. تعتبر الكولونيا مطهرا بشكل أساسي، وتحتوي على 96 إلى 98 بالمئة من الكحول. بعد أن استخدم العطر واستمتع بجودته العالية، عاد صانع العطور بذاكرته إلى أيام الطفولة عندما كانت والدته تقوم برشه بالكولونيا لحمايته من الجراثيم. أدت هذا الشعور إلى تفكير هينيسي في مشروع كان قد وضعه جانبا قبل أشهر، وقد تم الانتهاء منه في اليوم الذي تحدثنا فيه.
يقول هينيسي: “عطري القادم سيكون الكولونيا. وبصراحة، بدون فيروس كوفيد، لم أكن لأدرج الكولونيا في علامتي التجارية”. ويضيف هينيسي إلى أن “التعطير” يرتبط في الأصل بالتبخير: “تاريخيا، كانت الكولونيا وسيلة للحماية من الميازما”. ثم يتوقف، ربما خوفا من أنني لم أفهم كلامه جيدا، ويوضح قائلا: “المرض”.
المصدر: نيويورك تايمز