يقتحم المستوطنون بطريقة ممنهجة حي الشيخ جراح للاستيلاء على بيوت السكان هناك، وذلك عبر جهات متنفذة يحطون رحالهم ويبررون استيلاءهم بالقول: “إذا لم أسرق بيتك سيسرقه شخص آخر”، وهذا اعتراف كافٍ بسرقتهم للأرض الفلسطينية ومحاولة تهويدها وتوسيع مشروعهم الاستيطاني، لا سيما في محيط البلدة القديمة بالقدس المحتلة.
لا تزال قضية حي الشيخ جراح تتصدر المشهد الفلسطيني، رغم مرور عدة أسابيع على الحراك التضامني الدولي مع السكان بسبب حكم قضائي إسرائيلي بإخلائهم عدة بيوت، فهذا بالنسبة إلى الفلسطينيين محاولة تهويد للمدينة وترحيلهم عنها، بينما يرى الإسرائيليون أن قرار المحكمة الإسرائيلية يأتي ضمن خطوات طبيعية.
ولم يأتِ الصراع داخل حي الشيخ جراح عبثًا، بل هناك يد خفية تساهم في جلب المستوطنين وطرد السكان من بيوتهم، وهي جمعية نحلات شمعون الإسرائيلية التي تقود سلسلة من الدعاوى القضائية، لإخلاء منازل الفلسطينيين في هذه المنطقة.
جمعية استيطانية
وقبل الحديث عن طبيعة عمل نحلات شمعون في حي الشيخ جراح، لا بد من توضيح المعنى حرفيًّا، وهو لفظ يحمل معنيين: نحلات التي تعني التراث أو الإرث والملك، فيقال مثلًا نحلات بنيامين أي إرث أو ملك بنيامين، وهو اسم شارع في تل أبيب، أو نحلات إسحق وهو حي في المدينة ذاتها.
أما سبب تسمية نحلات شمعون، يقول المؤرخ خليل التفكجي، وهو خبير في شؤون القدس، فإنه نسبة إلى “شمعون الصديق”، وهو مقام يهودي بحد زعمهم يأتون إليه لأداء شعائرهم وطقوسهم التلمودية، لكنهم غالبًا ما يعتدون على السكان ويغلقون المنطقة بمساعدة الشرطة الإسرائيلية.
ويوضح التفكجي لـ”نون بوست” أن قبر شمعون الصديق بالأساس مقام إسلامي يعرَف باسم “الولي” المدفون فيه منذ 400 سنة، وهو سعد الدين حجازي، وذلك موثق في خريطة عثمانية.
وبحسب الخبير فإن نحلات شمعون هي جمعية استيطانية تسعى لاستصدار حكم محكمة وإخلاء عائلات فلسطينية من منازلها في حي الشيخ جراح، موضحًا أن نحلات شمعون هو الاسم الذي يطلقه الإسرائيليون على الحي ذاته، ويدّعون أنه تأسس عام 1891 على يد مدارس تلمودية اشترت الأرض وبنت عليها سكنًا لليهود اليمنيين الفقراء.
ويؤكد التفكجي على أن جمعية نحلات شمعون لديها مشروع بناء 200 وحدة سكنية في حي الشيخ جراح ومحيطه، وذلك لاستقطاب اليهود من كل دول العالم دون استثناء، لافتًا إلى أن الجمعية تعتبر الذراع التنفيذي للحكومة الإسرائيلية في حي الشيخ جراح.
وعن خطورة جمعية نحلات شمعون، لا سيما أنها تقود سلسلة من الدعاوى القضائية لإخلاء أهالي الشيخ جراح من بيوتهم، يقول التفكجي: “هذه الجمعية تتصرف وكأنها وريثة حارس أملاك أراضي الشيخ جراح بعدما سيطرت “إسرائيل” على المدينة حين خسرت الأردن سيادتها على القدس المحتلة عام 1967، فاستغلت الجمعية ذلك واستصدرت أحكامًا قضائية إسرائيلية بملكية قسيمة الأرض بدعوى أن يهودًا اشتروها قبل 130 عامًا”.
وأكد أن هدف الجمعية هو تهويد الحي بأكمله، فهي تتلقى تمويلًا من الداخل والخارج لتحقيق المشروع الاستيطاني في البلدة القديمة.
وتجدر الإشارة إلى أن حي الشيخ جراح له جذور تاريخية عميقة تعود للقرن الثاني عشر، ونشأته الحديثة تعود إلى عام 1956 بموجب اتفاقية بين الحكومة الأردنية ووكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”.
وكان الهدف من الاتفاقية هو توطين 28 عائلة فلسطينية في وحدات سكنية بالحي، مقابل استغناء تلك العوائل عن بطاقات اللاجئين والإعانات الخاصة بهم من المنظمة الأممية، لكن الحكومة الأردنية لم تمنح وثائق ملكية أراضي تلك الوحدات السكنية للعوائل المستفيدة إلى أن خسرت سيادتها على القدس المحتلة في حرب 1967، فاستغلت “إسرائيل” هذه الثغرة في رفع قضايا الإخلاء على سكان الحي.
مشروع الحوض المقدس
وفي السياق ذاته يقول نبيل الكرد، وهو أحد سكان حي الشيخ جراح المهددين بالإخلاء: “جمعية نحلات شمعون تحصل على الدعم المالي من أميركا من أجل المستوطنين ودعمهم (…) هذه الأموال تأتي على شكل تبرعات لكن في حقيقة الأمر تستخدم لبناء المستوطنات، فالجمعية تتهرب من الضرائب وتدّعي دعمها لما يحتاجه المستوطنين من مساعدات”.
ويوضح الكرد لـ”نون بوست” أن المستوطنين الذين تدعمهم جمعية نحلات شمعون يأتون من دول أوروبية وأميركا، بحيث كل من يحمل الديانة اليهودية في العالم يتم استقطابه إلى “إسرائيل”، مبينًا أن من مخططات الجمعية هو ترحيل السكان ليكون حي الشيخ جراح حجر الأساس لبناء مستوطنة يتبعها سلسلة مستوطنات، حتى تحقيق مشروع الحوض المقدس حول مدينة القدس القديمة.
وما يجعل حي الشيخ جراح مطمعًا للاحتلال أنه يقع على منحدرات جبل المشارف شمال البلدة القديمة، ويقطنه أكثر من 5 آلاف فلسطيني، وجميعهم لاجئين تعرضوا للتطهير العرقي من منازلهم في أجزاء أخرى من فلسطين التاريخية خلال نكبة عام 1948.
كما أن جمعية نحلات شمعون التي تقاضي سكان حي الشيخ جراح هي ذاتها التي تعمل في باب الخليل عبر اتجاه واحد، لربط المستعمرات ببعضها في القدس المحتلة، كما تستهدف مجموعة معينة لاعتبارات جغرافية، حيث ترغب بربط المستعمرات في القدس المحتلة، إضافة إلى ربط حارة اليهود بالقدس الغربية في منطقة باب الخليل.
وكانت جمعية نحلات شمعون الاستيطانية قد عرضت على المحكمة “صفقة” لأصحاب المنازل المهددة بالإخلاء في الشيخ جراح، تقضي بأن توافق على تسجيل البيوت لأصحابها كـ”مستأجر محمي” لكن شريطة أن يعترف أهالي الشيخ جراح بملكية الأرض للمستوطنين، وهو ما ترفضه العائلات المقدسية.
ورغم القوانين التي تحاصر بها “إسرائيل” أهالي الشيخ جراح، وما تمارسه نحلات شمعون ضدهم في المحاكم، إلا أن السكان باتوا غير مكترثين لما يدور في أروقة القانون الإسرائيلي، فهم لا يريدون أن يكونوا ضحايا سياسات التهجير الممنهجة ضد الفلسطينيين، وما جعلهم متمسكين بثوابتهم أكثر هو حجم التضامن العالمي مع قضيتهم.