كأي مدينة في العالم لديها ذراعان لا تفوق أهمية إحداهما الأخرى، نقول إن حي الشيخ جراح هو الذراع اليمنى الذي يشهد منذ بداية سنوات طوال تهديدًا بالتهجير القسري، لينتهي به الحال إلى حصار مشدد بدأ منذ 15 يومًا.
كما أنه أمام مصير مجهول بالحكم على أهاليه الذين لطالما طالبوا بحقوقهم المسلوبة، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.
ولم يكتفِ الاحتلال الإسرائيلي بمحاولة القضاء على إحدى الذراعين، ليطال بدوره حي البستان في بلدة سلوان، الذي هو الذراع اليسرى لمدينة القدس المحتلة، وأحد أعمدتها الأساسية.
عمود القدس الأول.. كيف سيسلم من التهويد؟
باعتباره الحي الأكثر التصاقًا بأسوار وأبواب البلدة القديمة، من الناحية الجنوبية الشرقية المحاذية للمسجد الأقصى وحائطه الخارجي، كان حي البستان الهدف الأول والأساسي لعملية التهجير التي يسعى لها الاحتلال منذ سنوات طوال.
فموقعه الذي يربطه ارتباطًا وثيقًا بالبيت المقدس لم يجعله يسلم من الخطط الاستيطانية، ابتداء من مصادرة أراضي كثير من فلاحي تلك البلدة في عامي 1948 و1967، وادعاء ملكية المستوطنين لبعض المنازل القديمة.
فضلًا عن محاولة الاستيلاء على بعض البيوت التي غاب أصحابها منذ فترة، بهدف تحويله إلى مستوطنة يهودية خاصة بهم وطريق إلى الهيكل المزعوم، وبناء حديقة كبيرة على أنقاض تهجير أكثر من 7300 فلسطيني مقدسي من بيته.
قرارات إخلاء وهدم لإقامة حديقة توراتية
لم يكتفِ الاحتلال بسرقة الأرض الفلسطينية، ولم تغنه اعتداءاته المتواصلة بحق المدينة المقدسة، ولم تردعه كل القوانين الدولية منذ نكبة تهجير الفلسطينيين عام 1948. فيواصل اليوم، وعلى مرأى من عدسات الإعلام عملية تهجير لسكان بلدة سلوان، بذريعة التطوير والتنمية التهويدية.
وقيامه بذلك يأتي بسبب طموحه ببناء حديقة توراتية في الحي، ضمن خطة لبناء 7 حدائق يهودية تحيط بالبلدة القديمة والمسجد الأقصى، من أجل حكم الخناق عليهما ومحاصرتهما.
في عام 1974، أصدرت حكومة الاحتلال قانون الحدائق الوطنية، كواحد من القوانين التنظيمية التي يراد بها تسهيل تطبيق سياستها الاستعمارية في مدينة القدس المحتلة بالتحديد.
وقد استغل الاحتلال القانون ليحدد أراضي ومساحات كبيرة من بلدة سلوان كـ”حدائق توراتية”، معرضًا أهلها لخطر التهجير والهدم منذ صدور القرار إلى يومنا هذا.
وفي بلدة سلوان، حيّان وقعا ضمن مخطط الحدائق، أحدهما حي البستان الذي يهدده الهدم منذ عام 2005، معرضًا 124 عائلة مقدسية، أي 1500 مقدسي، لخطر هدم بيوتهم، إضافة إلى حي بطن الهوى بعائلاته الـ 86، أي 700 فلسطيني.
وبالعودة للوراء لـ 139 عامًا، إلى أيام حكم الدولة العثمانية في الأراضي الفلسطينية، بدأت جمعية عطيرت كوهنيم الاستيطانية حربها في الحصول على قرارات إخلاء حي بطن الهوى في بلدة سلوان، بادعاء ملكيتها لأراضي الحي.
وما زال المصير مجهولًا أمام عائلات الحي الفلسطينية التي تنتظر قاضيًا إسرائيليًّا للبتّ بقضية ملكيتها لبيتها الحقيقي، بالتزامن مع إجراءات قمع ومضايقات يومية تتعرض لها في محاولة التضييق عليها ودفعها للإخلاء قبل صدور الحكم.
“العنصرية بقانون”
كما قالت مريم الغاوي، سيدة فلسطينية هجّرها الاحتلال من بيتها في حي الشيخ جراح في القدس المحتلة، جملتها الشهيرة: “لمين تشكي والقاضي غريمك”، تتوالى قرارات التهجير والإخلاء لأهالي مدينة القدس المحتلة في حي الشيخ جراح وبلدة سلوان، من المحاكم الإسرائيلية لصالح الطرف الإسرائيلي، بالتزامن مع مماطلة بإصدار قرارت تمتد لسنوات طويلة كنوع من الحرب النفسية على هؤلاء الأهالي، والحكم دائمًا يكون للطرف الأقوى.
لكن هذا التواطؤ بين محاكم الاحتلال ومستوطنيه، لا يردع المقدسيين من مواصلة الصمود في هذه المدينة، على الرغم من جميع المضايقات والعنصرية التي يتعرضون لها، ومحاولة طمس الهوية العربية بشتى الطرق والوسائل.
ليس لهم حليف آخر سوى هم أنفسهم، حتى القانون الذي من المفترض أن يكون ذراعهم الحامي هو عنصر آخر يستل سيفًا أمام وجوههم.
نتضامن مع القدس لتبقى!
شهدت مدينة القدس المحتلة بجميع أحيائها بالفترة الأخير تضامنًا شعبيًّا وعالميًّا، لم يكن له مثيل منذ بداية القضية الفلسطينية، بدأت شعلتها من أهالي حي الشيخ جراح والتوثيق اليومي للأحداث التي يتعرضون لها أهاليه كل يوم.
وتصاعدت وتيرة الأحداث حتى أصبحت قضية بلدة سلوان وحي الشيخ جراح تتصدر صفحات التواصل الاجتماعي، من تغريدات على تويتر ومنشورات على فيسبوك و”ستوري” على إنستغرام، بدعم من مؤثري ومشاهير العالم.
وفي واقع تتغلغل فيه “إسرائيل” في المؤسسات العالمية، لم يسلم التضامن أيضًا من محاولة الاحتلال لحجب الحقائق عن العالم أجمع، فبدأ تطبيقا فيسبوك وإنستغرام بحجب منشورات وصور وحسابات عملت على توثيق حقائق العنصرية الإسرائيلية.
إلا أنه ولأول مرة عالميًّا، ظهرت “إسرائيل” جانيًا لا مجنيًّا عليه، ولم تفلح بكاءاتها أمام مسيرات عواصم المدن الأوروبية والولايات الأميركية.
حقيقة سعت دولة الاحتلال طيلة 73 عامًا لإخفائها، واليوم المقدسيون يظهرون بكل جوارحهم، والتضامن العالمي ومواقع التواصل الاجتماعي كانت هي طوق النجاة الوحيد والأخير أمامهم، ولأنهم أصحاب الحق تمسكوا فيه بقوة.
تخيل أنت اليوم جالس في بيتك الذي هو لك ولكنك مهدد بالخروج منه فقط لأنك ابن هذا البلد، ترى بيتك يذهب لمستوطن جاء من الخارج بقرار محكمة كل قضاتها معادين لك، وأنت لا تمتلك سوى المقاومة والدعاء، وسط تخاذل عربي وانتكاسة في الموقف الفلسطيني الرسمي تجاهك، وتواطؤ بين خصمك وسجانك، والحل هو صمودك وتضامن العالم معك.