بين الحين والآخر يعبّر مسلمو الهند عن حنينهم لأمجاد الإمبراطورية العثمانية، كونهم من أكثر شعوب العالم ارتباطًا بالدولة العثمانية، رمزيًّا ونفسيًّا، إذ كانوا يرون الخلافة حينها حائط الصد الأكبر أمام مخطط إسقاط الراية الإسلامية وتفتيت وحدة المسلمين هناك.
ولعل الفترة التي رافقت سقوط الدولة إبان الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، والتمهيد لذلك إبان الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، توثّق حالة الارتباط الروحي بين مسلمي الهند والعثمانيين، وهو الارتباط الذي يتجدد سنويًّا مع ذكرى تلك الحرب، التي يعتبرها كثير من مؤرّخي الهند بداية تمزق الوحدة الإسلامية بزوال الدولة العثمانية ومعها الخلافة.
السياسات التي اتخذتها الحكومة البريطانية التي كانت تحتل الهند في ذاك الوقت، أثارت الشكوك في نفوس مسلمي الدولة.
كان يتمتع المسلمون في الدولة الآسيوية وقتها بمستوى وعي عالٍ، حيال مخططات بريطانيا والدول الاستعمارية الأوروبية للقضاء على الإسلام، ووأد أي تشكيلات من شأنها أن توحد بين أبناء الدين الواحد، لذا كانت التحركات المكثفة لدعم الدولة العثمانية في مواجهة هذا المخطط بشتى السبل وعلى كافة المسارات.
ويأتي على رأس التحركات الهندية الداعمة للعثمانيين، حركة “الخلافة الإسلامية” التي ظهرت في الفترة ما بين عامَي 1919-1924، بدعم أعلام الدولة الهندية من الفلاسفة والمفكرين أمثال مهاتما غاندي وأبي الكلام آزاد وحسرت موهاني، وكانت تهدف لدعم الخلافة العثمانية، الآيلة إلى السقوط، في مواجهة قوى الاستعمار الغربي.
مسلمو الهند والدولة العثمانية
عاشت الشعوب الإسلامية، ومن بينها الهند، حالة من القلق حيال مستقبل الدولة العثمانية، خلال الفترة التي شهدت توسعة لرقعة الاستعمار الغربي لدول عربية وإسلامية، حيث فرضت إيطاليا قبضتها الكاملة على معظم الأراضي الليبية، ما أغرى دول البلقان على الدخول في حرب ضد العثمانيين.
استشعر المسلمون أن هناك حملة ممنهجة تستهدف مقر الخلافة الإسلامية في ذلك الوقت، لا سيما بعد الانتصارات التي حققتها خلال القرون الأخيرة، حيث نجحت في توسعة دائرة النفوذ الإسلامي شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، وهو ما مثّل قلقًا كبيرًا للعواصم الصليبية في أوروبا.
تبنت عدد من الصحف الهندية مهمة الترويج للتبرع لنصرة دولة الخلافة في مواجهة المخطط الاستعماري الغربي.
ورغم الجهود التي بذلها السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918) لوقف نزيف التمرد الذي شهدته الخلافة في ذلك الوقت، عبر سياسات متوازنة وإبرام العديد من الاتفاقيات على رأسها اتفاقية برلين (1878)، التي قطعت الطريق بشكل كبير على العديد من الدول بشأن الخروج من عباءة العثمانيين، إلا أن التحالف الذي دشنته دول البلقان المدعوم من بعض القوى الغربية كان صاحب الكلمة العليا في تلك المرحلة.
السياسات التي اتخذتها الحكومة البريطانية التي كانت تحتل الهند في ذاك الوقت، أثارت الشكوك في نفوس مسلمي الدولة، لا سيما المتعلقة بمنع أي مساعدات وقطع كافة طرق الدعم عن الدولة العثمانية، ما دفعهم للبحث عن طرق أخرى للمساعدة لإنقاذ الخلافة من براثن الاستعمار الجديد.
التضامن مع دولة الخلافة
لم يكن مسلمو الهند وحدهم المتابعين لمظاهر التفتت، التي بدأت تنخر في عظم الدولة العثمانية مع بدايات العقد الثاني من القرن العشرين، والتراجع الملحوظ في جبهتي التماسك، الداخلي والخارجي، بل خيّم الوضع في دولة الخلافة على أجواء المسلمين في مختلف دول العالم، إيمانًا منهم أن إسطنبول هي رمانة ميزان العالم الإسلامي، وإن سقطت سقط المسلمون وخارت قواهم وتشتت شملهم.
وعليه انتفض المسلمون في الدولة الهندية لإعلان التضامن مع العثمانيين، فخرجت عشرات التظاهرات والمسيرات التي جابت معظم المدن الهندية، للتوعية بخطورة ما تتعرض له الخلافة العثمانية على أيدي الاستعمار الأوروبي، مطالبة بتوحيد كافة القوى لنصرة الدولة العثمانية التي كانت تمثل في ذلك الوقت رمزًا للمسلمين.
حتى علماء الهند وساستها كان لهم دور محوري في تعزيز هذا التضامن، من خلال الاتفاق على أهمية العمل من أجل استمرار الدولة العثمانية كضرورة فقهية لحماية الإسلام مستقبلًا، فبدأت الفتاوى التي تحث على هذا الشأن في الانتشار، وكان لها صدى كبير لدى الشارع الهندي الذي انتفض لدعم إسطنبول.
من أعظم المظاهرات التي نظمها الهنود، مسلمون وهندوس، لنصرة العثمانيين تلك التي كانت في مومباي في ديسمبر/ كانون الأول 1912.
وتبنت عدد من الصحف الهندية مهمة الترويج للتبرع لنصرة دولة الخلافة في مواجهة المخطط الاستعماري الغربي، أبرزها جريدة “الكومراده” الصادرة في دلهي، وجريدة “زمين دار” الصادرة في لاهور، وجريدة “الوكيل” الصادرة في أمريتسار، هذا بخلاف عشرات الجمعيات الخيرية.
وتنوعت المساعدات المقدمة للعثمانيين من مسلمي الهند، ما بين مساعدات مالية (في صورة أوراق نقدية مباشرة أو شراء سندات الخزينة)، ومساعدات طبية (من خلال الهيئات الصحية وجمعيات الشبان المسلمين في الهند)، هذا بخلاف المساعدات الاجتماعية التي كانت تستهدف أبناء الشهداء والأرامل والأيتام وجرحى الحرب.
المسلمون والهندوس يد واحدة لدعم العثمانيين
نظم الهنود عام 1911 مسيرة حاشدة في مدينة كلكتا (شرقًا) تنديدًا بمخطط الجيش الإيطالي للسيطرة على الأراضي الليبية، والتنكيل بشعبها والزج به في السجون والمعتقلات، وقتل عشرات الآلاف منه دون مساءلة أو محاسبة سياسية أو حقوقية.
المسيرة كان يقودها الداعية غلام آصف حسين، الذي أعلن عن وقوف مسلمي الهند بجانب الدولة العثمانية، حيث طافت بالعديد من المناطق الرئيسية الواقعة تحت الاحتلال البريطاني، في محاولة لشحن الوعي المجتمعي بضرورة الزود عن دولة الخلافة والدفاع عنها بشتى السبل.
ومع فشل تلك المسيرات في إحداث التأثير المطلوب، توجهت إلى الحكومة البريطانية لتقديم طلب رسمي بدعم الحكومة العثمانية ومساعدتها للخروج من مأزقها، لكن البريطانيين رفضوا المساعدة، ما أثار غضب الهنود الذين فسروا هذا الرفض بأنه إعلان مباشر وصريح لدعم الاحتلال الإيطالي لليبيا.
رغم مرور عشرات السنين على هذا التضامن الهندي مع دولة الخلافة العثمانية التي سقطت بعد ذلك، إلا أن قطاع كبير من مسلمي الهند يميلون إلى استعادة هذا المجد مرة أخرى.
وأمام تلك الوضعية سقطت الأقنعة المزيفة التي طالما خدع بها البريطانيون الهنود، وعليه اتحد المسلمون والهندوس لأول مرة من أجل الدفاع عن الدولة العثمانية في مواجهة الاستعمار الجديد القادم من أوروبا.
فقد خرجوا في مسيرات حاشدة للتأكيد على أن الحرب بين العثمانيين والغرب ليست حربًا بين الإسلام والمسيحية كما يروَّج لها، لكنها حرب وجود بين الشرق المتمسك بهويته والغرب الطامع في توسيع دائرة نفوذه ومستعمراته في شرق العالم.
ومن أعظم المظاهرات التي نظمها الهنود، مسلمون وهندوس، لنصرة العثمانيين تلك التي كانت في مومباي في ديسمبر/ كانون الأول 1912، رفعت شعارات حماية التراب العثماني، والتأكيد على أن السلطان العثماني هو خليفة المسلمين، في تحدٍّ واضح وغير مسبوق لكافة الدول الغربية المستعمرة في ذلك الوقت.
حركة الخلافة الإسلامية
بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وانكشف مخطط الإطاحة بالخلافة العثمانية، خرجت بعض الحركات الداعمة لإسطنبول، المتضامنة معها شكلًا ومضمونًا، والداعية للوقوف بجانبها والزود عن مقدساتها والدفاع عن أمجادها في مواجهة الاستعمار الغاشم.
وعلى رأس تلك الحركات تلك التي حملت اسم “حركة الخلافة الإسلامية“، أسسها الشقيقان محمد وشوكت علي عام 1919 واستمرت قرابة 5 سنوات، قبل أن يتم إيقافها بسبب استهداف رموزها وأعضائها من قبل الشرطة البريطانية، التي مثلت لها تلك الحركة صداعًا مزمنًا على مدار سنوات.
حققت الحركة شعبية كبيرة بين أوساط مسلمي الهند، حيث دشنت عشرات المؤتمرات والفعاليات في شتى المدن، دعت خلالها إلى نصرة العثمانيين والتصدي لأطماع الإنجليز ومن خلفهم في المنطقة، رافعة شعار “حماية المقدسات الإسلامية من التدخلات العسكرية الأجنبية وتطهير التراب المسلم من دنس الصليبيين”.
ساند للحركة العديد من الرموز الفكرية الهندية، مثل أبي الكلام آزاد وحسرت موهاني، لكن يأتي على رأس الجميع مهاتما غاندي الذي كان يتمتع بشهرة ومكانة كبيرة في ذلك الوقت، حيث دعا إلى عصيان مدني ضد البريطانيين عام 1922، تجاوز حدوده السلمية إلى مناوشات ومواجهات عنيفة بين الشرطة وعناصر الحركة.
وكان نتاج حالة القلق التي تسببت فيها الحركة بالنسبة إلى البريطانيين، الحكم على غاندي بالسجن 6 سنوات أمام القضاء البريطاني، لكنه لم يكمل داخل محبسه أكثر من عامين فقط، حيث تم الإفراج عنه عام 1924، لكنه في المقابل أوقف الحركة خشية مزيد من التصعيد مع المستعمر البريطاني، يسقط على إثره الكثير من الضحايا من أبناء الهند.
الحنين إلى العثمانيين
تحت عنوان “هكذا تعشق الهند عودة المجد العثماني”، أشار الكاتب والشاعر الهندي صبغة الله الهدوي في مقاله المنشور على موقع “الجزيرة”، إلى حالة الميل التاريخي والعاطفي لدى مسلمي الهند حيال عصر الخلافة العثمانية التي كانت تضج بالأمجاد والإنجازات والانتصارات المتتالية.
استعاد الهدوي من الذاكرة التاريخية بعض المشاهد التي تؤكد مدى الارتباط بين مسلمي الهند والعثمانيين، مستشهدًا بعشرات التظاهرات التي خرجت في شوارع الهند “تضامنًا مع الخليفة العثماني”، لتصدح بقصائد شاعر الشرق محمد إقبال، وتهتف لوحدة الأمة.
ورغم مرور عشرات السنين على هذا التضامن الهندي مع دولة الخلافة العثمانية التي سقطت بعد ذلك، إلا أن قطاعًا كبيرًا من مسلمي الهند يميلون إلى استعادة هذا المجد مرة أخرى، خاصة في ظل توفر القيادة السياسية القادرة على تكرار النموذج مرة أخرى.
وبعد أكثر من 75 عامًا على سقوط دولة الخلافة العثمانية، لا يزال البعض يرى أن “تركيا الحديثة نسخة من ماضيها الفاخر”، وأن مقومات النهوض متوفرة بصورة أو بأخرى، رغم التحديات والعراقيل التي تواجه استعادتها لدورها الريادي.