تتوالى نكسات فرنسا في القارة الإفريقية الواحدة تلوى الأخرى، ففي الوقت الذي تسعى فيه للملمة الصفوف وإيجاد حلفاء جدد لمساعدتها في أداء مهامها المشبوهة في منطقة الساحل والصحراء الإفريقية، تُفاجأ بانقلاب جديد في مالي لم يكن في الحسبان.
انقلاب يُضاف إلى الانقلاب السابق في البلاد الذي حدث قبل أقل من سنة دون أن يكون لفرنسا علم به، وأيضًا لمقتل حليفها في تشاد إدريس ديبي وأحداث إفريقيا الوسطى وفشلها في ليبيا والصفعات المتتالية في الجزائر.
انقلابات مالي
لم تستفق باريس بعد من صدمة انقلاب أغسطس/آب الماضي في مالي، حتى صُدمت بانقلاب جديد في نفس الدولة الإفريقية التي ينتشر فيها آلاف الجنود الفرنسيين منذ نحو 8 سنوات لحفظ الأمن والاستقرار كما يدّعي قصر الإليزيه.
فبينما كانت فرنسا تبحث عن حلفاء جدد، أعيد سيناريو أحداث 18 من أغسطس/آب 2020 مجددًا، فقد اعتقل الجيش، الرئيس باه نداو ورئيس الوزراء مختار وان ووزير الدفاع سليمان دوكوريه، بعد ساعات من إعلان تشكيل حكومة جديدة استُبعد منها وزيرا الدفاع والأمن، وهما شخصيتان رمزيتان في انقلاب أغسطس/آب 2020.
إثر ذلك أعلن رئيس المجلس العسكري في مالي، العقيد أسيمي غويتا، تجريد الرئيس الانتقالي باه نداو ورئيس الوزراء مختار وان، من صلاحياتهما وإجراء انتخابات العام المقبل، ويتّهم غويتا الرئيس الانتقالي ورئيس الحكومة بما أسماه “محاولة التخريب”.
أمام هذه التحركات السريعة في باماكو، لم تجد باريس غير التلويح بالعقوبات، فقد قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن ما قام به العسكريون في مالي انقلاب وبلاده مستعدة لفرض عقوبات تستهدف الأطراف المعنية.
أما وزير الخارجية جون إيف لودريان فقال: “إذا لم تكن هناك عودة فورية للمسار الانتقالي، فإن باريس ستتخذ خطوات ضد العسكريين الذين يعيقون ذلك”، وطالب لودريان بالإفراج الفوري عن وان ونداو، والعودة إلى عملية الانتقال للسلطة المدنية، مؤكدًا أن باريس طلبت عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي بعد الانقلاب في مالي.
نفس التهديدات الفرنسية والوعيد الذي رافق الانقلاب السابق، لكن حينها لم يتم الاستجابة لهم ولا الإصغاء لتهديداتهم على عكس ما جرت عليه العادة في هذا البلد الذي تعتبره فرنسا امتدادًا تاريخيًا لها، حتى هذه المرة يبدو أن قادة الانقلاب لم يستمعوا لكلام الفرنسيين، ذلك أن باريس لم تعد تتحكم في المشهد العام في البلاد، وفق مؤشرات عديدة.
مقتل إدريس ديبي
هذه النكسات المتتالية في مالي، تضاف إلى نكسة أخرى حصلت قريبًا في دولة تشاد المحاذية لها، إذ فقدت فرنسا، منتصف شهر أبريل/نيسان الماضي، أحد أبرز حلفائها في القارة الإفريقية رئيس جمهورية تشاد إدريس ديبي الذي مات متأثرًا بجروح أصيب بها في أثناء وجوده في ساحة المعارك مع متمردين شمال البلاد حسب الرواية الرسمية.
دعمت فرنسا ديبي منذ وصوله إلى السلطة عام 1990 على رأس حركة تمرد، إلا أنها فقدته دون أن يكون لمخابراتها علم بتحركات المسلحين القادمين من جنوب ليبيا، مسلحون كانوا إلى وقت قريب يحاربون مع حليفها في ليبيا الانقلابي خليفة حفتر ويتلقون السلاح منه والتدريب من مرتزقة فاغنر.
ما يعني أن هزيمتها مضاعفة، فلا يكفي أنها فقدت أبرز حليف لها في المنطقة، بل وفقدته على يد مسلحين كانوا يعملون بطريقة غير مباشرة تحت إمرتها، فقوات حفتر كانت تعمل تحت إمرة المستشارين العسكريين الفرنسيين المتمركزين في ليبيا.
صحيح أن فرنسا سارعت لتدارك الأمر في تشاد، حيث تحرّكت بسرعة ودعمت نجل ديبي لتولي الحكم رغم يقينها أن الأمر يتعارض مع الدستور التشادي، إلا أن العواقب ستكون وخيمة عليها فقد تزايد الغضب الشعبي ضدها، ذلك أنها فرضت الاستبداد مجددًا هناك ومنعت التشاديين من فرصة تاريخية لانتقال ديمقراطي بعد أن عانى من ويلات حكم ديبي لثلاثة عقود من الديكتاتورية.
أحداث إفريقيا الوسطى
النكسات الفرنسية لا تتوقف هنا، فجمهورية إفريقيا الوسطى أيضًا شاهدة على إحدى خيبات فرنسا المتعدّدة في القارة السمراء، حيث افتكت منها روسيا زمام الأمور هناك، ما جعلها تدعم الجماعات المسلحة الموالية للرئيس السابق فرانسوا بوزيزيه، وإن كانت لا تعلن ذلك صراحة.
دعمت فرنسا تلك الجماعات في حربها ضد حكومة الرئيس فوستان أرشانج تواديرا، الذي أعيد انتخابه في 5 من يناير/ كانون الثاني الماضي، رئيسًا للبلاد لولاية ثانية إثر فوزه بانتخابات الرئاسة التي أجريت في 27 من ديسمبر/كانون الأول الماضي.
تُتهم فرنسا التي أعلنت في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 انتهاء العمليات العسكرية “سانغاريس” بإفريقيا الوسطى، بالسعي لزعزعة استقرار هذا البلد الإفريقي بهدف تعيين القادة الذين سيحافظون على مصالحها هناك، خاصة بعد سيطرة روسيا على الوضع هناك.
سياسات فرنسا هناك، أدخلت البلاد في حالة حرب تبدو في ظاهرها اشتباكًا داخليًا بين الفصائل المحلية على السلطة، لكنها تخفي وراءها صراع نفوذ بين روسيا وفرنسا، فكلتاهما تسعى للسيطرة على البلاد وتصدير حلفائها لقيادة هذا البلد الإفريقي الغني بالموارد الطبيعية.
خسرت فرنسا الكثير من امتيازاتها في الجزائر وبدأت تفقد سيطرتها الكلية على البلاد لفائدة قوى إقليمية أخرى
تعمل فرنسا جاهدة على استعادة نفوذها في هذا البلد الفرنكوفوني من خلال استبدال الرئيس الحاليّ الموالي لموسكو بآخر موالٍ لها، حتى تحافظ على امتيازاتها المهددة هناك، ويعود الحضور الفرنسي في هذا البلد الإفريقي إلى عهود الاستعمار المباشر، حين كانت منطقة أوبانغي-شاري، الواقعة في دولة إفريقيا الوسطى حاليًّا، جزءًا من إفريقيا الاستوائية الفرنسية مع تشاد والغابون ومملكة الكونغو (الكونغو الفرنسية حينها)، بين عامَيْ 1910-1934.
وتعتبر إفريقيا الوسطى واحدة من 14 دولة إفريقية لا تزال تحتفظ بالعملة الاستعمارية الفرنسية “الفرنك الإفريقي”، وتمتلك احتياطات وطنية في البنك المركزي الفرنسي، وتُورد نسبة كبيرة من حصيلتها من العملات الأجنبية إلى الخزانة الفرنسية، لذلك فإن خسارتها لصالح موسكو تعد كارثة كبرى لباريس.
فشلها في ليبيا
الفشل الفرنسي يمتد إلى شمال القارة الإفريقية أيضًا، ففي ليبيا عرفت فرنسا أكبر نكساتها، فلسنوات طويلة بقيت داعمة للانقلابي خليفة حفتر إلا أنها لم تحقق أي أهدافها هناك، فحفتر رجع خالي الوفاض من على مشارف العاصمة طرابلس.
تبنت باريس أجندة الثورة المضادة في ليبيا، فاختارت الوقوف بجانب اللواء المتقاعد والمتمرد على الشرعية الدولية خليفة حفتر، بغية فرض نظام عسكري ديكتاتوري في البلاد، يساعده في القضاء على الإسلام السياسي، وأيضًا في السيطرة على ثروات ليبيا الكثيرة.
دعمته دبلوماسيًا من خلال فرض اسمه في المؤتمرات الإقليمية والدولية المتعلقة بليبيا، ودعمته عسكريًا أيضًا من خلال تزويده ببعض الجنود والمستشارين العسكريين فضلًا عن تزويد قواته بالأسلحة المتطورة لاستخدامها في حربها ضد حكومة الوفاق.
وترى فرنسا في ليبيا مدخلًا لإعادة إحياء دورها التاريخي الاستعماري في إفريقيا، فباريس منحت نفسها – دون الرجوع إلى أحد – حق التدخل في أغلب الدول الإفريقية التي تمتلك ثروات باطنية مهمة لحماية مصالحها هناك، لكن فشلت خططها وأجبرت على بدء البحث عن حلفاء جدد هناك، علها تتدارك خسارتها الكبيرة.
صفعات متتالية في الجزائر
نمر إلى الجارة الغربية لليبيا، الجزائر أين تلقت فرنسا صفعات متتالية هناك منذ بداية الحراك الشعبي في فبراير/شباط 2019، الذي أطاح بالرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة ووجوه عديدة كانت تدعم الوجود الفرنسي في الجزائر.
خسرت باريس أبرز رجالاتها في الجزائر، حيث اقتيد البعض منهم للسجون فيما ركن آخرون للبطالة الإلزامية نتيجة ملاحقتهم بقضايا تتعلق بالفساد والمسّ بأمن البلاد في أثناء حكم الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة، فيما صعد آخرون للواجهة مناوئين لفرنسا ورافضين لوجودها في بلادهم.
اتّخذ حكام البلاد الجدد – أو لنقل الوجوه الجديدة من الحكام – من معاداة فرنسا نهجًا فلهم، فلا تكاد تمر مناسبة إلا ويتم فيها الهجوم على باريس وسياساتها في الجزائر والمنطقة، حتى إن بعض الوزراء وصفوا فرنسا بـ”العدوة الدائمة والتقليدية”.
كما عرفت الجزائر منذ تنحي بوتفليقة، مساعٍ حثيثة لتعزيز شراكتها الإستراتيجية مع دول أخرى بعيدًا عن فرنسا في ظل رغبة النخب العسكرية والسياسية الصاعدة في إنهاء نفوذ باريس في بلادهم والخروج من دوائر التبعية للسياسة الفرنسية التي ارتبطت بإرث الاستعمار وتغلغل الثقافة الفرانكفونية.
نتيجة ذلك، خسرت فرنسا الكثير من امتيازاتها في الجزائر (عرقلة نشاط شركاتها وفكّ الارتباط مع بعضها)، وبدأت تفقد سيطرتها الكلية على البلاد لفائدة قوى إقليمية أخرى على غرار روسيا والصين وتركيا، إذ وقعت الجزائر اتفاقيات اقتصادية عديدة مع هذه الدول.
كثيرة هي انتكاسات فرنسا في دول القارة الإفريقية خلال السنوات الأخيرة، فالوضع في إفريقيا لم يعد كما كان عليه سنوات الخمسينيات والستينيات، فالأفارقة أكثر وعيًا والقوى الإقليمية ازداد اهتمامها بالقارة السمراء لما تحمله من ثروات باطنية كبرى وسوق استهلاكية مهمة.