في سياق “الدبلوماسية النشطة” التي انتهجتها الولايات المتحدة مؤخرًا، للتعامل مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إثر الحرب على قطاع غزة المحاصر، وصل وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن، يوم 25 مايو/ أيار الجاري، إلى الشرق الأوسط بهدف: “خلق ظروف ملائمة لوقف إطلاق النار وإعادة إعمار غزة”، وفق تصريح صحفي للناطقة باسم البيت الأبيض جين ساكي.
وتعد هذه الدبلوماسية النشطة التي يلعبها مسؤولون أميركيون رفيعو المستوى تطورًا لافتًا، خاصة أنها تأتي بعد الهجمة الشرسة التي شنتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ضد الفلسطينيين مقابل دعم غير مسبوق لـ”إسرائيل”، توّج بنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، الأمر الذي يعد خرقًا لـ”حل الدولتين”، وهي المرجعية التي تتبناها رسميًّا الولايات المتحدة لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
في المقابل، فرضت إدارة ترامب سلسلة قرارات مصيرية ضد الفلسطينيين، أبرزها عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على السلطة الفلسطينية، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وقطع التمويل عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “أونروا”.
كما قامت بتشجيع “إسرائيل” على ضم أراضٍ فلسطينية جديدة بالضفة الغربية المحتلة إلى “سيادتها”، على الرغم من أن ذلك يعد “انتهاكًا خطيرًا” لميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف، ويتعارض مع قواعد أساسية أكدها مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، وتجاوزًا فجًّا لحقوق أصيلة يعترف بها القانون الدولي كحق الشعوب في تقرير مصيرها.
تحت إدارة بايدن
رغم ما سبق، الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن الذي تسلم منصبه منذ ما يزيد عن 5 أشهر، متعهدًا بالعدول عن “سياسات ترامب”، لم يلغِ أيًّا من تلك القرارات المصيرية بحق الفلسطينيين حتى اللحظة، ولم يعد القضية الفلسطينية إلى مكانتها المعهودة ما قبل ترامب في الدبلوماسية الأميركية، وظلت القضية الفلسطينية تعاني إهمالًا ملحوظًا في السياسة الخارجية الأميركية منذ انتقال مقاليد الحكم إلى الرئيس بايدن ممثلًا عن الحزب الديمقراطي.
في ضوء ذلك، يرى المستشار الدبلوماسي في وزارة الخارجية الفلسطينية تيسير محيسن في حديث مع “نون بوست”، أن لا تحولًا جوهريًّا في سياسة البيت الأبيض الخارجية تجاه القضية الفلسطينية.
وأضاف: “يبدو ظاهريًّا فقط أن هناك تحولًا حين نقارن موقف إدارة بايدن مع إدارة ترامب السابقة”، معتبرًا أن ما يجري هو مجرد “إحياء للسياسية الأميركية التقليدية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي”.
الساحة الأميركية تشهد تغيرًا واضحًا تجاه المسألة الفلسطينية، بدا ذلك واضحًا منذ الحملة الانتخابية للرئيس بايدن.
وفي تطورٍ لافت، وبعد أن تجاهله طويلًا، اضطر بايدن، في 15 مايو/أيار الجاري، إلى الاتصال بالرئيس الفلسطيني محمود عباس حين اندلعت المعركة بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، تلك المعركة التي بدأت حراكًا شعبيًّا في القدس والضفة الغربية ومدن الداخل المحتلة عام 48 ضد الاعتداءات الإسرائيلية، قبل أن تنزلق إلى قصف إسرائيلي مكثف بالطائرات على قطاع غزة المحاصر، وصواريخ فلسطينية محلية الصنع على “إسرائيل”.
أوضح محيسن أن “إدارة ترامب اتخذت مواقف “صدامية” في سياستها الخارجية بما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وقطعت مسافات طويلة في وقت وجيز في الموقف الأميركي، فيما يتعلق بمكونات أساسية متعلقة بهذا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، خاصة بموضوعي القدس وحل الدولتين”، كما عملت على تقديم “إسرائيل” كـ”دولة طبيعية” في المنطقة من خلال التطبيع مع الدول العربية.
لافتًا إلى أن “”إسرائيل” حققت خلال فترة “ترامب” الذي ينطلق من دعمه لدولة الاحتلال الإسرائيلي إلى حد كبير على الرؤية “الإنجيلية”، مكاسب كثيرة تتعلق بشرعنة الأمر الواقع الذي فرضته على الأرض، وظهر بشكل “مبادرة سلام” عرفت بـ”صفقة القرن””.
من ناحيته، يصف الكاتب والإعلامي المتابع للشأن الأميركي هاني حبيب، في حديث مع “نون بوست”، الحديثَ عن عدم وجود تحول بـ”غير الدقيق”، ويعتقد أن “الساحة الأميركية تشهد تغيرًا واضحًا تجاه المسألة الفلسطينية، بدا ذلك واضحًا منذ الحملة الانتخابية للرئيس بايدن”.
وذلك رغم أن إدارة بايدن “لم تضع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على جدول اهتماماتها، ووضعتها في المرتبة السابعة تقريبًا في سلّم سياستها الخارجية”، بحسبه.
واستدرك: “إلا أن الحرب الأخيرة، جعلت من القضية الفلسطينية قضية أولى، وأجبرت إدارة بايدن على أن توليها اهتمامًا كبيرًا، ومن الواضح أن إدارة بايدن حاولت أن تمنح نتنياهو في بداية الحرب “فرصة للقضاء على حركة حماس والمقاومة في غزة”، لكن فشل نتنياهو في هذا المهمة خلال الأيام الأولى”.
واعتقد حبيب أن “ضغوط بايدن على نتنياهو تزايدت لإنهاء هذه الحرب على أساس أنه لم يتبقَّ بنك أهداف من ناحية، وعلى أساس إلى متى ستستمر هذه الحرب من ناحية أخرى؟”.
وأوضح: “على الرغم من أن الإدارة الحالية كما كل الإدارات السابقة تشير بشكل دائم إلى حق “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها، إلا أن هذه المرة تشير خطابات الرئيس الأميركي وكلمات وزير خارجيته إلى “حقوق متساوية للجانبين من أجل العيش بسلام””.
وأشار إلى أن “هذا الخطاب يمكن أن يكون ذا وقع مختلف مقارنة بوقع خطابات الإدارات السابقة بما فيها إدارة أوباما؛ التي لم تلعب دورًا نشطًا حتى أثناء الحروب السابقة على غزة، بل ظل دورها محدودًا، أما في الوقت الحالي، دخلت إدارة بايدن إلى الحرب بـ”دبلوماسية نشطة فعالة” وأوكلت جمهورية مصر العربية للعمل على خفض التصعيد”.
الضغط على الإدارة الأمريكية
خلال المعركة، منحت إدارة بايدن الوقت والسلاح الكافيين لـ”إسرائيل” من أجل تحقيق “إنجاز” ملموس، بعرقلة إصدار مجلس الأمن بيانًا يدعو لتخفيف التصعيد بين “إسرائيل” والفلسطينيين، وبالموافقة على بيع أسلحة دقيقة التوجيه بقيمة 735 مليون دولار أميركي لـ”إسرائيل”، الأمر الذي أثار انتقادات أعضاء مجلس النواب الديمقراطيين الرافضين لدعم حكومة الاحتلال في حربها على قطاع غزة المحاصر.
ومن أبرز النواب الديمقراطيين المنتقدين لسلوك “إسرائيل” علانية، هما النائبتان في الكونغرس رشيدة طليب وألكساندريا كورتيز، اللتان تمثلان الشباب و”التنوع” في الكونغرس الأميركي.
وطليب (44 عامًا) هي مسلمة من أصول فلسطينية، وكورتيز (31 عامًا) من أصل بورتوريكي، الخليط المولّد من الإسبان والأفارقة، والاثنتان عضوتان في منظمة “الاشتراكيون الديمقراطيون في أميركا”.
وأوضح حبيب أنه منذ “قبل هذه الحرب الأخيرة، ومنذ عهد ترامب، لاحظنا في انتخابات الكونغرس لمجلسي النواب والشيوخ ظهور متغير “ديمغرافي” على طبيعة الحزب الديمقراطي”.
ويضيف: “إن هذا المتغير تمثل في أن معظم النواب الديمقراطيين هم من الشباب، لافتًا إلى أن “هؤلاء الشباب لا يكترثون كثيرًا بالرواية التاريخية الإسرائيلية للصراع”.
وألفت إلى دخول جزء أكبر ممن يعرَف بـ”الأقليات” سواء مسلمين أو لاتينيين أو حتى أفارقة”، مشددًا على “أننا نشهد تغيرًا داخل الحزب الديمقراطي بالأساس حتى قبل بادين”، وأكد أن هؤلاء لعبوا دورًا أساسيًّا من خلال الحديث عن “العدل والعدالة”، بصرف النظر عن القضية الفلسطينية.
الفعل الفلسطيني يظل هو الفعل المحوري ويجب عليه أن ينتصر لنفسه دائمًا كي يتتصر إليه الآخرون.
لكن مع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المحاصر، أخذت قدرة هذا الجناح في ممارسة ضغط حقيقي على البيت الأبيض تتبلور بشكلٍ أوضح، وذلك يعود إلى حاجة بايدن لدعم لهذا التيار من أجل جملة من السياسات الداخلية والخارجية، معتبرًا أن “هذا كان عاملًا ضاغطًا على بايدن للقيام بدور ضاغط على نتنياهو”.
وشدد حبيب أنه على الرغم من أن هذا التيار يتنامى ويتصاعد، إلا أنه ما زال ليس قويًّا بالشكل الكافي ليتمكن من إجبار البيت الأبيض لوضع حد لتصرفات “إسرائيل” الهمجية.
كما أنه غير قادر بعد على “لعب دور حاسم”، مؤكدًا أن على الفلسطينيين “التعويل على هذا التيار، خاصة أن إمكاناتنا محدودة، وهذا يجعلنا بحاجة إلى تعظيم القوى والداعمين لحقوقنا”.
انتقادات الديمقراطيين، وبعد 11 يومًا من القصف المتبادل، أجبرت إدارة بايدن على أن تنشط دبلوماسيًّا، وتوّج هذا النشاط بطلب الرئيس الأميركي من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشكل صريح وقف التصعيد في قطاع غزة المحاصر، وبإفساح المجال أمام جهود قوى إقليمية من بينها قطر ومصر، أثمرت عن وقف لإطلاق النار صباح يوم الجمعة 21 مايو/ أيار الجاري.
ما اضطر المتحدثة باسم البيت الأبيض أن توضح قائلة: “لقد أجرينا الآن أكثر من 80 اتصالًا مع كبار القادة في “إسرائيل”، والسلطة الفلسطينية، وعبر المنطقة، إما شخصيًّا وإما عبر الهاتف، وكان رأينا ومنهجنا هو استخدام دور الولايات المتحدة في العلاقات مع الدول على الأرض لتسيير جهودنا بهدوء عبر القنوات الدبلوماسية”.
وفي سياق التحول في أميركا تجاه القضية الفلسطينية، لفت حبيب إلى أبرز سمات تيار الشباب والأقليات في الكونغرس، مثل أن هؤلاء النواب عمومًا لا يتلقون معلوماتهم من الفضائيات ووسائل الإعلام التقليدية، بل من وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا لا يجعلها رهينة الأفكار السابقة المتداولة، بل تتبنى أفكارًا جديدة.
وظهور هذا التيار جعل “قوى عديدة، أفرادًا ومجموعات، كانت لا تتجرأ على إشهار تأييدها للقضية الفلسطينية أن تتجرأ، مستثمرة الصورة المنقولة عبر قنوات الإعلام غير التقليدية”.
كما ربط هذا التيار بين العنصرية في الداخل الأميركي والعنصرية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، لافتًا إلى أن أبرز دليل على ذلك أن “إحدى أهم المظاهرات في نيويورك أثناء الحرب على غزة مؤخرًا انطلقت من مقر حملة Black Lives Matter”. وقد رُفع العلم الفلسطيني في فعاليات الذكرى السنوية لمقتل “جورج فلويد”.
حيث شدد حبيب على أن ذلك “يشكل رابطًا للكفاح الموحد ضد العنصرية أينما كانت، سواء في الولايات المتحدة أو في “إسرائيل””، معتبرًا أن “هذا تطور بالغ الأهمية”.
وعلى الرغم من أهمية الأصوات المناصرة للقضية الفلسطينية والداعية لوضع حد للانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، سواء في أميركا أو حول العالم، إلا أن الفعل الفلسطيني يظل هو الفعل المحوري ويجب عليه أن ينتصر لنفسه دائمًا كي ينتصر إليه الآخرون، إلى جانب سعيه إلى تشبيك المزيد من العلاقات مع الداعمين والأحرار حول العالم.