انتخابات في سوريا: أيدي السوريين على قلوبهم

234

في هذه الساعات، التي تسبق إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية في سوريا، تشتد خفقات قلوب السوريين تسارعًا وتضج مجالسهم بأحاديث الانتصار تارة واتهامات التزوير المحتملة تارة أخرى، جل الشعب لم ينم ليلته الليلاء هذه قلقًا يترقب، لقد تسمرنا جميعًا أمام الشاشات نتابع عملية فتح الصناديق المستمرة حتى كتابة هذه الكلمات على الهواء مباشرة عبر مختلف القنوات الإخبارية، المحلية والإقليمية والدولية.

المنافسة حامية الوطيس كالعادة في هذا البلد، النتائج الأولية التي تبثها وسائل الإعلام مباشرة نقلًا عن اللجان الانتخابية تصعد وتنزل، تتباعد وتتقارب، لكن الأرقام تظهر تقاربًا كبيرًا بين المتنافسَين الرئيسيَّين، فيما تتجه الأنظار صوب المحافظات المتأرجحة، ويبدو مستحيلًا تخمين من سيفوز بكرسي رئاسة سوريا: بشار الأسد أم الأسد بشار!

حسنًا، كانت تلك إعادة صياغة لعبارة تهكمية قصيرة ملأت شبكات التواصل الاجتماعي السوري.

لكن ما يمكن أن يكون أكثر تهكمًا وتراجيديا، ليس إعلانًا جرى نشره قبل أسبوع من الانتخابات يدعو لحضور “مهرجان النصر”، وهو حفل غنائي مقام “بمناسبة فوز السيد الرئيس الدكتور بشار الأسد في الانتخابات الرئاسية”، ليست تلك البداهة والبلاهة، بل الانتخابات نفسها.

تنتاب السوريين حالة حيرة واكتئاب بمجرد التفكير بأن “انتخابات” ستجرى في بلادهم في ظل حكم آل الأسد، فمنذ عهد حافظ أب بشار الذي ورّثه حكم الجمهورية بقوة السلاح والشبيحة، لا يعرف هذا الشعب كيف يتعامل مع الأمر، لا هو قادر على أخذ الأمر على محمل الجد، وهو بكل هذه الهزلية والبؤس، ولا هو قادر على تجاهله تمامًا إذ يُجرى سوقه إلى مراكز “الاقتراع” بالتي هي أحسن أو أسوأ.

لم تشهد سوريا انتخابات منذ 50 عامًا، في عهد حافظ الأسد الذي وصل الحكم بانقلاب عسكري، ولا في أول فترتَي حكم لبشار الوريث. يفرض الأسديون أنفسهم بالحديد والنار، لكن من أجل البرستيج أمام الرأي العام يُقيمون ما يسمونه بالـ”استفتاء”، وتمتلأ الساحات والشوارع والشاشات الرسمية والصحف حينها بحث المواطنين على “بيعة القائد” و”الوفاء للقائد” المتفضل عليهم والمستحق لكل وفاء وولاء.

ولا يهم، ما سيختاره السوريون في ورقة الاستفتاء، نعم أم لا، فكل “لا” ستصبح “نعم” تلقائيًّا، ولا معنى حتى لعدّ أو إحصاء الأصوات.

الانتخابات السورية

بعد الثورة التي اندلعت عام 2011، وجد بشار نفسه مجبرًا على الرضوخ لفكرة التخلي عن الاستفتاء والمضي بفكرة الـ”انتخابات”، أي بوجود أكثر من متنافس، لكنه لم يتقبل بالمرة فكرة وجود منافسين حقيقيين وانتخابات نزيهة، كيف يكون ذلك في مزرعة “سوريا الأسد”؟

لذا؛ عمد في انتخابات 2014 وانتخابات 2021 إلى تقديم أراجوزات غير معروفة لأحد، كمرشحين يعلنون على الملأ تأييدهم له ولحكمه القهري حتى خلال حملاتهم الانتخابية لـ”منافسته”، وهو ما يعني أن كل “انتخابات” جرت في سوريا، منذ عام 1970 حين وصل حافظ الأسد إلى الحكم وحتى اليوم، كانت عبارة عن استفتاءات محسومة مسبقًا، يعرف السوريون نتائجها ويستعدون مرغمين على الاحتفال بها قبل أن تُجرى.

يصف سوريون الانتخابات التي يجريها آل الأسد بالمسرحية، فيما يسخر سوريون آخرون حتى من هذا الوصف، إن وصفها بالمسرحية برأيهم تعظيم لشأن هذه المهزلة المهينة.

لكن ألم يخرج السوريون بالآلاف للاحتفاء بـ”العرس الديمقراطي” السوري والانتخابات؟

بلى، كما في كل “استفتاء”، أمكن لنظام الأسد إخراج السوريين إلى الشوارع لإعلان ولائهم ووفائهم للقائد الذي قتّلهم ودمر مدنهم وقراهم وممتلكاتهم، وهجّر أحباءهم إلى شتات العالم.

كل شيء تريد أن تعرفه عن القهر الذي يلأم تلك الحشود التي ترفع صور بشار وأعلام النظام في مناطقه، يحكيها فيديو قصير جرى تصويره لواحدة من تلك “الاحتفاليات” في مقر نقابة الصيادلة بدمشق.

فبعض الذين يرقصون هن سيدات محجبات، وفي دمشق مجتمع محافظ لا ترقص النساء المحجبات أمام الرجال عادة، لكن يمكن أن تعرف حقيقة الأمر بعد أن تلاحظ المسدس على خاصرة أحد رجال الأمن الذين يشاركون بالرقص في تلك الفعالية.

لكن حتى لو لم يكن هناك رجال أمن يسيّرون تلك الاحتفالات ويجبرون النساء والرجال على الرقص والدبك وإظهار الفرحة والبهجة، هل يمكن لأعضاء النقابة أو لموظفي أي مؤسسة أو دائرة حكومية أو طلاب أي مرحلة التغيب عن حضور “فعالية وطنية”، بالطبع لا، لأن التغيب يعني قلة الانتماء والولاء لـ”قائد الوطن”، وعلى أية حال هناك تفقد ومن يتغيب يسجل اسمه لفعل اللازم.

كما في السابق، منذ أن كنا أطفالًا، مُلئت شوارع العاصمة دمشق والمدن التي يسيطر عليها النظام بصور بشار الأسد، وأُجبر التجار وأصحاب الفعاليات على تقديم تلك الصور ودفع تكاليفها كتعبير عن ولائهم، فيما تكلفت أجهزة الدولة بالباقي، حتى إن أجهزة الأمن ذاتها شاركت بتلك المسخرة، كما تظهر هذه الصورة.

ومن الطريف، المضحك حقًا، أن السوريين وثّقوا بعض المشاهد عن تزوير انتخابات الأسد، كما لو أنها تحتمل أن تكون نزيهة.

 

الوجه الآخر لسوريا

الوجه الآخر لسوريا، سوريا التي لا يمكنه بعد اليوم احتلال حيزها العام مهما حاول، أعلنت رفضه ورفض انتخاباته.

على شبكات التواصل الاجتماعي، عبّر ألوف من السوريين في الداخل والمهجر عن رفضهم للانتخابات ضمن حملات مثل #لاشرعية_للاسد_وانتخاباته و#للمحكمة_لا_للحكم.

أما ميدانيًّا، فقد شهدت عشرات المدن السورية مظاهرات رافضة لمهزلة الانتخابات، لعل أضخمها ما نظمه السوريون يوم أمس في مدينة إدلب، وفي إعزاز والباب وعفرين وغيرها.

كذلك، خرجت مظاهرات في عدد من العواصم والمدن الغربية التي تضم لاجئين سوريين، أعلنوا بدورهم رفضهم لمسرحية انتخابات الأسد.

 

درعا: مستقبلنا بدون الأسد!

لكن ألا يمكن أن تكون “المجموعات المسلحة” قد أجبرت الناس على التظاهر في مناطق سيطرتها، لتخريب “العرس الديمقراطي” للأسد؟

درعا تجيب عن هذا السؤال!

درعا المبهرة والعظيمة، مهد الثورة السورية، عادت سيرتها الأولى وغنت مجددًا للحرية، وقالت بالخط العريض: “لا مستقبل للسوريين مع القاتل.. مكملين ضدك”، على الرغم من أنها تقع تحت سلطة الروس، حلفاء الأسد، وليست تحت حكم الفصائل المعارضة.

عملت درعا على 3 فعاليات للإعلان عن رفض مهزلة انتخابات الأسد: الجداريات والكتابة على الحيطان، على خطى أطفال درعا الذين أشعلوا فتيل الثورة عام 2011، ثم بالإضراب وإغلاق البلد في وجه أي نشاط وعدم فتح أي دائرة انتخابية، ثم بالمظاهرات الحاشدة في أكثر من 10 مدن وبلدات من كبرى مدن المحافظة الجنوبية.

وفي جارتها السويداء، كان الأمر شبيهًا، فلم تشهد المحافظة حضورًا لدوائر الاقتراع إلا من قبل الموظفين الحكوميين المرغمين، وأعضاء حزب البعث، كما أشار إلى ذلك نشطاء.

ويقدم هذا دليلًا دامغًا على أن السوريين يرفضون حكم الأسد، وسلطته ووجوده، وأن تلك الحشود التي يجمعها ما هي إلا تجمعات قهرية مهما بدت عليها ملامح البهجة.

لكن فعلًا، لو كانت هناك انتخابات نزيهة، لماذا يمكن لأي سوري أن ينتخب بشار الأسد، ما هو برنامجه؟ نحّ -إن شئتَ- حربه ضد الشعب السوري واستجلابه للمرتزقة والمليشيات الطائفية والاحتلال الروسي ورهن البلد لموسكو وطهران، ما الذي يشجع سوريًا واحدًا على انتخابه؟

لقد حكم 20 عامًا حتى اليوم، عقدين كاملين.. ما الشيء الجيد الوحيد الذي قدمه لسوريا؟ شيء واحد فقط! أليست 20 عامًا كافيًا لتفيير وجه سوريا كليًا إلى بلد متقدم لو حكمها شخص نزيه ووطني وكفؤ؟

حتى اقتصاديًا، دمر فساده بلدنا ونهبها هو وأقرباؤه ثم رهن المرافق السيادية لشركات روسية وإيرانية لقاء بقائه في كرسي الحكم، ولعل واقع العملة السورية وحالة البطالة والفقر في العقد الأخير يكشف سوء الحال في ظل حكمه.

الموقف الدولي

لطالما أظهر الغرب عدم اكتراثه بما يجري في سوريا، بعدما تخلى عن الشعب السوري وتركه لمصيره بمواجهة ثلاثي القتل والخراب: الأسد وبوتين وخامنئي، لكنه -الغرب- حاضر دومًا ببياناته ومواقفه الخطابية.

وأمس، وصف بيان مشترك للولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا وفرنسا، “الانتخابات” بأنها مزيفة وغير حرة ولا نزيهة، معتبرين أنها محاولة من النظام لاستعادة الشرعية، وكذا كان موقف ألمانيا التي منعت السماح بإجراء اقتراع على أراضيها.

وقال بدوره المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون، أمس الأربعاء، إن الانتخابات التي يجريها النظام “ليست جزءًا من العملية السياسية المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن رقم 2254”.

وعمومًا، يبدو الغرب اليوم أمام مشهد معقد ومركّب كثيرًا في سوريا، لقد حاصروا النظام دبلوماسيًّا، وفرضوا عليه عقوبات اقتصادية، وزودوا المعارضة ببعض السلاح، ولم ينجح شيء، لا يزال في السلطة، وها هو ينتخب نفسه في دوما التي حاصرها ودمرها عن بكرة أبيها، وشن عليها هجمات بالغازات السامة والكيماوي في رسالة واضحة أنه قادر على ارتكاب كل الفظاعات والبقاء بلا حسيب ولا رقيب، والأسد بارع في استعراضاته المقيتة للقوة المتغطرسة والجبروت الجبان على شعبه أولًا، ثم على العالم الذي يضع خطوطًا حمرًا وينسى مكانها.

وعلى سبيل الخيال العلمي؛ ماذا لو أسفرت نتائج “الانتخابات” عن خسارة الأسد؟ ماذا لو قال الأسد إن السوريين صوتوا لصالح أحد الأراجوزات التي اختارها لتنافسه، وإنه يتنحى والسلام عليكم؟ لا أعرف ماذا سيحدث، لكني أشك أن العالم الغربي سيرحِّب، يغلب على ظني أنه سيُفجع ويطالبه بمواصلة الحكم.

ومع ذلك، من غير المرجح أن يُصار إلى تطبيع العلاقات غربيًّا مع نظامه خلال السنوات المقبلة، ما دام أنه يواصل قتل السوريين وارتكاب الفظاعات، وهو ما لا يمكنه التخلي عنه، كونه أداة البقاء في السلطة، ما يعني أن سوريا ستبقى في حالة حكم الميليشيات الفاشية والاحتلال الروسي الإيراني، وفي حالة حصار غربي، فيما يبقى الشعب السوري في مناطق سيطرة الأسد أسيرًا لديه يبتز العالم به.. وهذا هو أقوى انتصار يحققه الأسد، البقاء في السلطة إلى الأبد ولو أدى ذلك إلى حرق البلد.