ترجمة وتحرير: نون بوست
في الوقت الذي كانت فيه “إسرائيل” تقصف قطاع غزة بغارات جوية لمدة 11 يومًا قبل دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 21 أيار/ مايو، كان غياب السلطة الفلسطينية عن المشهد مريبا، حيث أنها لم تتخذ أي خطوة سوى إصدار بيانات شكلية لإدانة القصف الإسرائيلي وما انجرّ عنه من قتلى في صفوف الفلسطينيين.
ميدانيا، شغل قادة الحراك المدني، خاصة من جيل الشباب، الفراغ الذي تركته القيادة العقيمة. في الأسبوع الماضي، نظم النشطاء بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني الفلسطيني، إضرابًا عامًا في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة و”إسرائيل”. كان الإضراب مهمًا لأنه حظي بتطبيق صارم على جانبي الخط الأخضر، مما أدى – ولو بشكل مؤقت – إلى محو الانقسامات الجغرافية والسياسية بين فلسطينيي الداخل وبقية أبناء الشعب الفلسطيني.
قبل الأزمة الحالية، وصل إحباط الفلسطينيين من قيادتهم إلى مستويات غير مسبوقة. تاريخيا، كانت صلاحيات القيادة الفلسطينية محدودة بسبب سيطرة “إسرائيل” على كل جوانب الحياة اليومية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك النظام الانتخابي. وفي آخر مرة أُجريت فيها انتخابات تشريعية فلسطينية سنة 2006، عرقلت “إسرائيل” عملية التصويت في القدس الشرقية.
عندما حققت حماس بعد ذلك نصرا انتخابيا ساحقا، حاولت الولايات المتحدة و”إسرائيل” بعثرة أوراق الحكومة الجديدة، من خلال تنصيب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وحركة فتح على رأس السلطة في الضفة الغربية.
في كانون الثاني/ يناير الماضي، دعا عباس إلى إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في فصلي الربيع والصيف، ولم يتفاجأ إلا قليلون عندما تم تأجيلها في نهاية المطاف إلى أجل غير مسمى في 29 نيسان/ أبريل. رغم أن عباس فسّر القرار برفض السلطات الإسرائيلية السماح للناخبين بالإدلاء بأصواتهم في القدس الشرقية، يعتقد كثيرون أنه كان يحاول في الواقع معالجة الانقسامات داخل حركة فتح، والتي هددته بدورها بعدم إعادة انتخابه وإضعاف قبضته على مؤسسات السلطة الفلسطينية.
ربما كانت الانتخابات ستتيح للناخبين الفلسطينيين فرصة دعم القوائم الانتخابية المستقلة. على الرغم من القيود القانونية القمعية التي تمنع بعض الأطراف – مثل جيل التجديد الديمقراطي، وهي مبادرة سياسية مستقلة يقودها الشباب – من الترشح، أظهرت استطلاعات الرأي دعمًا متزايدًا لقائمة جديدة بقيادة ناصر القدوة، ابن شقيق الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، والذي تعهّد خلال حملته الانتخابية بمكافحة الفساد وتعزيز حكم القانون وإجراء انتخابات بشكل منتظم.
في الحقيقة، ساهم تأجيل الانتخابات في تعميق خيبة أمل الفلسطينيين الذين سجلوا للتصويت بأعداد كبيرة على الرغم من أن استطلاعات الرأي أظهرت شكوكًا عميقة بشأن نزاهة الانتخابات في ظل الظروف الحالية. ويرى العديد من الفلسطينيين أن السلطة تمنعهم من اختيار ممثلين يعبّرون عن احتياجاتهم وتطلعاتهم.
كانت الانتخابات تشكل فرصة للتجديد بالنسبة للشباب الفلسطيني، حيث يبلغ عباس 85 عامًا، ويشغل المنصب منذ 2005. إلى حد اليوم، لم يستطع أغلب الشباب الذين ولدوا بعد توقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993 من الإدلاء بأصواتهم في أي عملية انتخابية، وقد اختارت الولايات المتحدة أن تنأى بنفسها عن هذه المفارقة التي تتناقض بشكل صارخ مع دفاعها المزعوم عن حقوق الإنسان والديمقراطية.
أسفرت الأزمة في غزة والقدس الشرقية عن مستوى جديد من الوحدة داخل نظام الحكم الفلسطيني الذي عاني من الانقسامات لفترة طويلة
في هذا السياق، تقول نادية حجاب، المؤسِسة المشاركة ورئيسة مجلس إدارة شبكة السياسات الفلسطينية، إن “إلغاء الانتخابات زاد من مستوى الإحباط والغضب”، وتضيف بأن “إجراء انتخابات في ظل الاحتلال ليس أمرا مجديا لأن السلطة لن تتمكن من السيطرة على مجريات الأمور على الإطلاق”، بيد أن تفويت فرصة التصويت يعد من العوامل التي تكرّس حالة الإحباط.
قبل أن يُصدر عباس المرسوم الخاص بإجراء الانتخابات، بدأت الاحتجاجات في القدس تلفت انتباه الرأي العام الدولي إلى الحواجز التي وضعتها السلطات الإسرائيلية عند باب العامود، المكان الذي يلتقي فيه معظم الشباب الفلسطينيين – خاصة خلال شهر رمضان المبارك. وادعت الشرطة الإسرائيلية أن التجمع في هذه المنطقة ممنوع منذ أكثر من عقد.
على مسافة قريبة، كانت العائلات الفلسطينية في حي الشيخ جراح تحتج على عمليات الإخلاء الوشيكة التي تُشرف عليها منظمات يمينية إسرائيلية. زادت الاحتجاجات بعد أن حكمت محكمة إسرائيلية في القدس لصالح المستوطنين في وقت سابق من هذا العام. وفي 9 مايو/ أيار، أعلنت المحكمة العليا الإسرائيلية أنها ستؤجل النظر في الاستئناف لمدة شهر.
وفي ظل حالة الاحتقان بسبب ما يحدث في الشيخ جراح، اقتحمت الشرطة الإسرائيلية الحرم القدسي الشريف واعتدت على المصلين في ليالي رمضان، مما أثار المزيد من الغضب والسخط الذي امتد إلى بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة وجميع أنحاء “إسرائيل”. بدأت صواريخ حماس تسقط على “إسرائيل” من قطاع غزة المحاصر، وأعقبتها غارات جوية إسرائيلية مكثفة، وأودى العنف بحياة 248 فلسطينيا و12 إسرائيليا.
إلى جانب الدمار والرعب، أسفرت الأزمة في غزة والقدس الشرقية عن مستوى جديد من الوحدة داخل نظام الحكم الفلسطيني الذي عاني من الانقسامات لفترة طويلة. منذ أكثر من عقد، يعيش الفلسطينيون انقساما جغرافيا وسياسيا بسبب سيطرة فتح على الضفة الغربية المحتلة، وحماس على قطاع غزة المحاصر منذ 2007.
أما فلسطينيو القدس الشرقية – التي احتلتها “إسرائيل” في حرب 1967 وفرضت عليها سيطرتها الكاملة منذ ذلك التاريخ – فقد ظلّوا دون عن أي تمثيل سياسي. ويعيش الفلسطينيون في “إسرائيل” ضمن نظام سياسي قائم على الفصل العنصري، وتمثّلهم في العملية السياسية بعض الأحزاب العربية. لكن في الأسبوع الماضي، تظاهر جميع الفلسطينيين ككيان واحد على جانبي الخط الأخضر. أدّت أزمة الشيخ جراح إلى تغلب الفصائل على خلافاتها التقليدية والتحرك بشكل جماعي فعال.
دون صدور أي بيان سياسي ينظم احتجاجاتهم، لجأ الشباب الفلسطيني إلى وسائل التواصل الاجتماعي لرفع مستوى الوعي حول الهجمات الإسرائيلية على غزة وحملات الإخلاء التي تستهدف فلسطينيي القدس الشرقية. على الرغم من حرمانهم من المشاركة الرسمية في الانتخابات الفلسطينية، واضطهادهم على أيدي قوات الأمن الإسرائيلية – وأحيانًا الفلسطينية – فإن هؤلاء الشباب الفلسطينيين ما زالوا ينظمون أنشطة ميدانية، وقد أنشأوا مجموعات دعم في مناطق مختلفة مثل حي الشيخ جراح، وحضروا جلسات المحكمة الإسرائيلية، وحاولوا أن يوصلوا أصواتهم من خلال الاحتجاجات والتحدث إلى وسائل الإعلام. نجح الشباب الفلسطيني من خلال مبادراتهم غير المنظمة مسبقا في إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة.
يقول المؤرخ والبروفيسور في جامعة كولومبيا، رشيد الخالدي، إن “من يدّعون بأنهم قادة للشعب الفلسطيني قد فشلوا في طرح استراتيجية وطنية. وقيادة فلسطين هي الآن في يد المجتمع المدني الفلسطيني”.
اتسمت المظاهرات في القدس الشرقية بقوة أكبر من غيرها، حيث لا تملك السلطة الفلسطينية النفوذ أو حتى السلطة السياسية لكبح جماحها. بالنسبة للفلسطينيين في القدس، شهدت السنوات العشر الماضية مزيدا من التهميش من قبل السلطات الإسرائيلية. ارتفعت معدلات الفقر والجريمة بشكل حاد، مما أدى لانتشار المخدرات وزيادة حالة السخط التي يتردد صداها في أغاني “الهيب هوب” السوداوية التي يكتبها الشباب من وراء الجدار الفاصل في أحياء مثل العيسوية وكفر عقب؛ وفي مخيمات اللاجئين المتداعية، مثل قلنديا وشعفاط.
يعيش الشباب الفلسطيني في القدس الشرقية حياة مختلفة تمامًا عن نظرائهم في الضفة الغربية وغزة، حيث يتمتعون بحرية التنقل والحق في العمل داخل “إسرائيل”، ولكنهم يظلّون منفصلين عن المجتمع الإسرائيلي إلى حد كبير.
غالبًا ما يتم إرسال قوات الأمن الفلسطينية إلى أماكن الاحتجاجات، حيث تقوم بقمع المظاهرات أو احتجاز الفلسطينيين بأوامر من السلطات الإسرائيلية
رغم أن المقدسيين الفلسطينيين يحاولون الاندماج داخل المجتمع الإسرائيلي، إلا أن قوانين الحكومة والبلديات تهمشهم بشكل ممنهج. على مر السنين، سنّت “إسرائيل” مجموعة من السياسات التمييزية داخل نظامها القضائي، المدني والعسكري، مما حد من قدرة الفلسطينيين على الحصول على تصاريح البناء، وتركتهم عرضة لمصادرة الأراضي والفصل الأُسري على يد الدولة والمستوطنين. تعدّ هذه السياسات جزءا من محاولات “إسرائيل” لإنشاء أغلبية يهودية في المدينة التي تشكّل من عدة نواح الركيزة الأساسية ضمن مخططها الكبير للسيطرة على الأراضي الفلسطينية بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن.
ومن المفارقات أن عدم وجود السلطة الفلسطينية في القدس الشرقية – وهو السبب الذي جعل فلسطينيي المدينة يعيشون عزلة سياسية منذ فترة طويلة – قد أصبح يشكّل اليوم فرصة لتأسيس حركة احتجاج شعبية، ولحشد الدعم الدولي للعائلات التي تواجه تهديدات الإخلاء في الشيخ جراح.
أما في الضفة الغربية المحتلة، التي أظهرت فيها السلطة الفلسطينية التزامًا صارمًا باتفاقيات التنسيق الأمني مع “إسرائيل”، فغالبًا ما يتم إرسال قوات الأمن الفلسطينية إلى أماكن الاحتجاجات، حيث تقوم بقمع المظاهرات أو احتجاز الفلسطينيين بأوامر من السلطات الإسرائيلية. وفي الأسبوعين الماضيين، وقع حادث واحد على الأقل من هذا القبيل في الخليل.
من ناحية أخرى، تعكس الطريقة التي خرج بها الفلسطينيون على جانبي الخط الأخضر لدعم الاحتجاجات في القدس الشرقية عن نقلة نوعية في الإجماع السياسي الفلسطيني.
يشير يوسف منير، الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني الأمريكي المقيم في واشنطن، إلى أن حركات الاحتجاج الشعبية السابقة – مثل الانتفاضات – جاءت “في لحظة تم فيها تأطير العمل السياسي الفلسطيني وتركيزه ضمن جهود إقامة الدولة في إطار دولتين. لكن ذلك الإجماع قد اختفى الآن، حيث استيقظ الناس على حقيقة أننا نعيش ضمن نظام فصل عنصري تسيطر عليه دولة واحدة”.
أسفرت هذه اليقظة عن تعبئة جماهيرية ذات حجم ونطاق غير مسبوقين. انتقل الفلسطينيون من التظاهر في بداية الأزمة ضد عمليات الإخلاء في الشيخ جراح، إلى الاحتجاج على الغارات الجوية الإسرائيلية على غزة، وكذلك ضد نظام الفصل الذي يخضع له الفلسطينيون داخل “إسرائيل”.
في المدن التي يسكنها خليط من اليهود والفلسطينيين في جميع أنحاء “إسرائيل”، شهدت الأسابيع الأخيرة تصاعدا هائلا في العنف الطائفي. رغم أن أعمال الشغب كانت من الجانبين، إلا أن ردود فعل الشرطة الإسرائيلية -التي اعتقلت 750 شخصا ووجّهت 170 تهمة– استهدفت الفلسطينيين بشكل أساسي.
اعتادت المؤسسات الإعلامية أن تعتمد في تغطيتها للأحداث على رواية الحكومة الإسرائيلية، إلا أن الشباب الفلسطيني على “تيك توك” و”إنستغرام” و”واتس آب” وغيرها من التطبيقات ومنصات التواصل، نقلوا رواية بديلة عبر الصور ومقاطع الفيديو والبث المباشر من الهواتف المحمولة.
ساعدت هذه التكنولوجيات على توحيد جهود الفلسطينيين سواء عبر الإنترنت أو في الشوارع، حيث لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا بارزًا في حشد المتظاهرين في “إسرائيل” والأراضي الفلسطينية المحتلة وحول العالم. وقد تبادل أنصار القضية الفلسطينية النصائح حول كيفية الإفلات من الرقابة التي تفرضها منصات التواصل الاجتماعي.
في هذا السياق، تقول إيناس عبد الرازق، مديرة جهود الدفاع والمناصرة في الهيئة الفلسطينية للدبلوماسية العامة، ومقرها رام الله: “أنا مندهشة لرؤية ذلك التضمان [بين الفلسطينيين] في الضفة الغربية وفي الداخل الإسرائيلي وفي غزة. يمكنك أن ترى العديد من الرسائل التضامنية بين أشخاص لا يستطيعون حتى الالتقاء والاجتماع مع بعضهم البعض”.
يعلم الشباب الفلسطيني الآن أنه يمتلك القوة والكفاءة ومفاتيح المستقبل – حتى في ظل الاحتلال والقصف
في الثامن من أيار/ مايو، منعت الشرطة الإسرائيلية عدة حافلات تقل فلسطينيين من مدن إسرائيلية، من دخول القدس، فقرر الفلسطينيون السير على الأقدام. وعندما بدأت الصور ومقاطع الفيديو تظهر على منصات التواصل الاجتماعي، خرج العديد من المقدسيين وانضموا إليهم.
يعتقد عدد من الفلسطينيين أن بروز قيادة جديدة من خارج “سماسرة السلطة” والأحزاب السياسية التقليدية، مسألة وقت فحسب. في هذا السياق، يقول الخالدي إن “الجيل الذي يقود السلطة حاليا فشل ويجب أن يترك المجال للآخرين. إلى ذلك الحين، سيملأ الفراغ بالضرورة أشخاص مثل الشباب الذي خرج للتظاهر في القدس”.
من بين هؤلاء الشباب، محمد ومنى الكرد، اللذين أصبحا من أهم المصادر الإعلامية التي تسعى لإيصال الأصوات الفلسطينية من الشيخ جراح. ساعد نشاطهم على منصات التواصل الاجتماعي في بلورة صورة واضحة عما يحدث في الحي الذي أصبح في الأسابيع الأخيرة منطقة عسكرية مغلقة.
في حديث لها مع مجلة “ماغ 972” في وقت سابق من هذا الشهر، قالت منى إن “احتجاجات الشباب هي التي تنقذ هذا المكان. قضية الشيخ جراح هي مشكلتهم أيضًا، ومنازلنا منازلهم، وما يحدث للبيوت هنا سيحدث لبيوتهم في المستقبل”.
خلال الشهر الماضي، عبّر الفلسطينيون عن مطالبهم وتطلعاتهم مرارًا وتكرارًا -من خلال احتجاجات باب العامود والشيخ جراح وغزة- وتحدّوا الجهود الإسرائيلية لنزع الشرعية عن مطالبهم. رغم أن الغارات الجوية الإسرائيلية على غزة استحوذت على اهتمام وسائل الإعلام وخطفت الأضواء من قضية الشيخ جراح، إلا أنه من الواضح أن الحركة الوطنية الفلسطينية تجاوزت منعطفا تاريخيا. يعلم الشباب الفلسطيني الآن أنه يمتلك القوة والكفاءة ومفاتيح المستقبل – حتى في ظل الاحتلال والقصف.
المصدر: فورين بوليسي