ترجمة وتحرير نون بوست
على الرغم من الاضطرابات التي تحيط بتونس، إلا أن مجتمعها المتماسك وحكمة حركة النهضة قد أوصلا البلد إلى الانتخابات الديمقراطية الثانية منذ الثورة.
تستعد الآن تونس لثاني انتخابات حرة وتعددية منذ الثورة والإطاحة بالديكتاتور زين العابدين بن علي في يناير عام 2011، في حين تبدو بقية دول الربيع العربي – مصر، ليبيا، سوريا، البحرين واليمن – في تراجع إما إلى حالة من الفوضى أو الحرب الأهلية أو العودة إلى عصر كئيب وحشي من الانقلابات العسكرية، تونس من جانبها يبدو أنها صمدت أمام العواصف القوية التي اشتعلت من حولها، وستنتخب ممثليها في البرلمان اليوم الأحد.
تبنت الدولة دستورًا ديمقراطيًا عصريًا فاز بموافقة 93٪ من الأحزاب السياسية المتنوعة فيها، وهو الدستور الأكثر تقدمية في المنطقة العربية، يكرس حقوق المرأة، وحرية الاعتقاد والضمير، كما يمنع التحريض على العنف والتكفير.
وقد وضعت تونس هيئة مستقلة مهمتها الإشراف على الانتخابات التشريعية والرئاسية التي من المقرر عقدها خلال الشهر المقبل.
وعلى الرغم من كل ذلك، إلا أن تونس لم تصل إلى شاطئ الأمان بعد، فعلى حدودها الجنوبية توجد ليبيا التي تعيش أوضاعًا مضطربة، مع الفوضى المتفشية وانتشار السلاح وتفكك الدولة، مالي الواقعة في جنوب الصحراء الكبرى هي الأخرى في قبضة الإرهاب، أما التهديدات الأكثر خطورة فهي المتأتية من الكتلة الخليجية التي صممت على إسقاط ما تبقى من الربيع العربي عبر قوة البترو دولار، وعلى الرغم من أن تونس تبدو محظوظة نسبيًا بسبب موقعها الجغرافي البعيد عن مركز الثورة المضادة، إلا أنها ليست بمنأى تمامًا عن آثاره المدمرة.
قد يكون أقوى ما تمتلكه تونس هو مجتمعها المتماسك، فليس هناك انقسامات عرقية أو طائفية أو دينية أو قبلية، وحتى الخلافات السياسية والأيديولوجية لا تتحول إلى انقسامات عمودية مجتمعية كما يحدث في العراق وسوريا ولبنان، وبحكم عملية التحديث التي بدأت في القرن التاسع عشر فإن معظم سكان البلاد يقطنون في المراكز الحضرية وقد حصلوا على تعليم جيد نسبيًا، كما توجد طبقة وسطى واسعة ومجتمع مدني نشيط.
وإذ تم الاحتفاء على نطاق واسع بجيشي مصر وتونس واعتبارهما “حماة للثورة” بعد سقوط حسني مبارك وزين العابدين بن علي، إلا أن الأدوار التي لعبها الطرفان متباينة إلى حد كبير، فينما شرع جيش مصر في الاستيلاء على السلطة والحكم بقبضة حديدية، تراجع الجيش التونسي بهدوء وعاد إلى ثكناته، لم يكن هذا من قبيل المصادفة، بل ينبع من اختلاف الوظائف التي مارستها المؤسستان العسكريتان في تاريخ البلدين المعاصر.
فقد كان الحبيب بورقيبة، أول رئيس لتونس بعد الاستقلال، شديد الريبة من الجيش، حريصًا على منع تكرار سيناريو الانقلابات التي قام بها جمال عبد الناصر في مصر، وحزبا البعث في سوريا والعراق، مبقيًا على الجيش في ثكناته، وهكذا اقتصر دور الجيش التونسي على حماية الحدود الهادئة نوعًا ما بعيدًا عن السياسة قدر الإمكان، أما الحكم الأبوي لبورقيبة، فقد استند إلى مزيج من شرعية التحرير والاستقلال، وكاريزميته الشخصية، وجرعات من قمع البوليس الذي أصبح أساس حكم بن علي، وهي التي حولت تونس إلى دولة بوليسية كاملة.
وهكذا ترك الشأن السياسي في تونس للسياسيين وخلا من الحضور الطاغي لرجال الجيش وظلهم المتمدد في كل مكان، وهكذا تمكنت السياسة في تونس من التطور بشكل عفوي وسلس إلى حد ما وسط حالة اللايقين التي تلت الثورة.
وبينما اتبعت جماعة الإخوان المسلمين المصرية مبدأ المعادلة الصفرية أو أن “الفائز يحصل على كل شيء” بعد حصولها على أغلبية الأصوات في الانتخابات، سعى حزب النهضة التونسي إلى تشكيل تحالفات سياسية مع الأحزاب العلمانية المعتدلة.
وبعد أن فاز النهضة بانتخابات الجمعية التأسيسية عام 2011، دعا إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية وشرع في تقاسم السلطة مع حزبين ذوي ميول يسارية وليبرالية (المؤتمر، والتكتل) ضمن ما عُرف باسم الترويكا، هذا الالتزام من قبل النهضة لبناء توافق في الآراء حمى تونس من الاستقطاب الأيديولوجي الحاد الذي شوه الحياة السياسية المصرية؛ ما مهد الطريق لعودة الحرس القديم.
وعندما انحدرت تونس إلى أزمة عميقة بعد الانقلاب العسكري في مصر، والذي حدث بالتزامن مع اغتيال عضو في المعارضة التونسية، تخلى حزب النهضة عن السلطة لصالح حكومة تكنقراط مستقلة تدير شئون البلاد فيما تبقى من المرحلة الانتقالية، وهو القرار الذي أثار غضب جزء من أفراد الحزب وسخط قواعده.
بفضل هذا الوعي بتعقد المرحلة الانتقالية والمخاطر المتأتية من المنطقة، تمكنت النهضة من حقن دماء التونسيين وإبقاء الديمقراطية الوليدة في تونس في مسارها الصحيح.
يبدو أن زعماء حزب النهضة وعبر سنوات المنفى الطويلة في العواصم الأوروبية، تعلموا فن التوافق وتقديم التنازلات عند الضرورة، أي أن تعقيدات العالم عند السياسة تقتضي عقد التسويات اللازمة وتغيير الائتلافات والتحالفات عند الضرورة.
ما يحدث في تونس هام للغاية، ليس فقط بالنسبة لـ11 مليون تونسي لكن للمنطقة ككل، فولادة أول ديمقراطية عربية كاملة الأهلية من شأنه أن يقدم نموذجًا ملهمًا في زحمة الأصوات المحمومة الداعية لليأس والإحباط، من ديكتاتوريين عسكريين، ورجال دين فاسدين، وفوضويين متشددين، تونس التي شقت للعرب طريقًا للخروج من سجن الديكتاتورية قبل ثلاث سنوات، تثبت اليوم مرة أخرى أنه يمكن بناء دولة ديمقراطية على أنقاض النظام القديم، رغم ما قد يعتري الطريق من مشاق مضنية.
المصدر: الغارديان