أعادت فيديوهات رجل المافيا التركي الهارب، سادات بكر، مشاهد حقبة التسعينيات إلى أذهان المواطنين الأتراك، الفترة التي سيطر بها رجال المافيا على المشهد السياسي في البلاد بشكل كامل، وما لحقها بعد ذلك من الكشف عن تورط سياسيين ورجال دولة وأفراد من جهاز الاستخبارات والجيش، بالعمل مع المافيا لتصفية واغتيال قيادات يسارية وصحفيين داخل وخارج تركيا، فضلًا عن نهب وقتل رجال أعمال بارزين.
وأثارت فيديوهات بكر الثمانية التي عُرضت خلال الفترة السابقة موجة عارمة داخل الأوساط السياسية والشعبية في تركيا، بعد أن كال الاتهامات لوزراء نواب برلمان ورجال أمن سابقين مقربين من حزب العدالة والتنمية الحاكم، فضلًا عن اتهامه لصحفيين ورجال أعمال بالتوسط من أجل إيقاف الفيديوهات التي ينشرها.
ولغاية فترة قريبة، كان سادات بكر مقربًا من حزبَي الحركة القومية والعدالة والتنمية، وكان يصول ويجول في المدن التركية بكل راحة وترحاب، ويمارس نشاطه الاجتماعي والسياسي تحت حماية أمنية مشددة من قبل الشرطة التركية، إلى أن تغير الحال واضطر للهرب من تركيا إلى البلقان ومن ثم المغرب، ليستقر مؤخرًا بالإمارات بحسب المزاعم المتداولة.
من هو سادات بكر؟
يبلغ سادات بكر من العمر 49 عامًا، قضى 10 أعوام منها داخل السجون التركية على فترات متفرقة بدءًا من عام 1990 بتهمة تأسيسه لمنظمة إجرامية، وانتهاء بدعوى أرغنكون الشهيرة التي حبس على إثرها لغاية العام 2014.
وبعد خروجه من السجن روج سادات بكر على أنه أحد ضحايا جماعة غولن الإرهابية، وسوّق نفسه على أنه رجل أعمال يحب مساعدة الفقراء، حيث كرِّم من قبل جمعيات وصحف مقربة من قبل حزب العدالة والتنمية لكثرة مساعدته للمحتاجين، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تقرب من حزب العدالة والتنمية وعقد المؤتمرات الانتخابية من أجل حشد الأصوات لصالح أردوغان وحزبه.
اتهم بكر وزير الداخلية الأسبق، محمد أغار، بالإتجار بالمخدرات وارتكابه لعمليات قتل وسرقة مستغلًّا نفوذه داخل أجهزة الأمن وأروقة الدولة العميقة
وهناك صورة شهيرة لبكر وهو يرفع بيده اليمنى شعار الذئاب الرمادية تمثيلًا لحزب الحركة القومية، وبيده اليسرى شارة رابعة شعار حزب العدالة والتنمية، معلنًا بذلك دعمة لتحالف الجمهور الذي يجمع حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية.
في عام 2018، وبشكل مستغرب، برّأت محكمة تركية بكر من تهمة التهديد بالقتل والاستحمام بدماء 1128 أكاديميًّا من الذين وقّعوا عريضة تدعو إلى تسوية سلمية للمشكلة الكردية في تركيا، معتبرين ذلك حرية رأي.
ولطالما أعلن بكر عن دعمه وحبه للرئيس أردوغان، حيث إنه قد اعترف في أحد الفيديوهات بضرب برلماني سابق عن حزب الشعب الجمهوري المعارض كان قد شتم زوجة الرئيس أردوغان وعائلته، بطلب من نائب عن حزب العدالة والتنمية.
سادات بكر يكيل الاتهامات
بعد قيام القوات الأمنية التركية بمداهمة واعتقال أعضاء من عصابة سادات بكر، فضلًا عن اقتحام وتفتيش منزله الذي تقطنه زوجته وأطفاله في منطقة بيكوز بمدينة إسطنبول، الأمر الذي وصفه على أنه محاولة لاستفزازه وإهانته أمام أسرته وأتباعه؛ قرر القيام بنشر فيديوهات بهدف الانتقام من شخصيات سياسية وأمنية، بالإضافة إلى تحذير الرئيس أردوغان من الدائرة السيئة المحيطة به والتي تحجب عنه رؤية الواقع، على حد قوله.
وقد اتهم بكر وزير الداخلية الأسبق، محمد أغار، بالإتجار بالمخدرات وارتكابه لعمليات قتل وسرقة مستغلًّا نفوذه داخل أجهزة الأمن وأروقة الدولة العميقة، ومن أبرزها الضلوع في قضية اغتيال الصحفي الاستقصائي أغور مومجو عام 1993، والاستحواذ على ميناء ياليكافاك في مدينة بودروم التركية المملوك لرجل الأعمال الأذربيجاني مبارز ميسيووف.
كما اتهمه أيضًا بالتستر على ابنه تولغا أغار النائب عن حزب العدالة والتنمية، الذي قام باغتصاب وقتل صحفية كازاخستانية عام 2019.
وبحسب تصريحات بكر، فإن أروقة حزب العدالة والتنمية الحاكم تشهد صراعًا حادًّا من أجل خلافة أردوغان، حيث اتهم وزير الداخلية الحالي سليمان صويلو بأنه استخدمه من أجل الإطاحة بجماعة بليكان المحسوبة على صهر الرئيس أردوغان، وزير المالية الأسبق بيرات البيرق.
واتهم صويلو أيضًا بمساعدته على الهرب من تركيا قبل أكثر من سنة ونصف، فضلًا عن وعد صويلو له بتهيئة الأمور من أجل عودته في شهر أبريل/ نيسان الماضي.
ويدّعي بكر أنه استثمر بصويلو طوال الـ 20 سنة الماضية، من خلال تقديم الحماية له ومساعدته للوصول إلى رئاسة الحزب الديمقراطي المعارض عام 2007، وذلك بعد استقالة مؤسس الحزب وزير الداخلية الأسبق محمد أغار، جراء فشله بإدخال الحزب إلى البرلمان التركي خلال الانتخابات العامة عام 2007.
وفي الفيديو الثامن، اتهم بكر نجل رئيس الوزراء الأسبق بن علي يلدرم بمحاولته لإيجاد طريق جديد لسفنه عبر فنزويلا من أجل تهريب الكوكايين إلى تركيا، وذلك بعد كشف السلطات الكولومبية في يونيو/ حزيران الماضي عن شحنة كوكايين بلغت 4.9 أطنان كانت متوجهة إلى تركيا.
كما اعترف بضلوع أخيه أتيلا بكر في محاولة اغتيال الصحفي القبرصي كوتلو أدايلي عام 1996، بطلب من محمد أغار وكوركت إيكين، المدير السابق في جهاز الاستخبارات التركية.
ردود أفعال
نفى وزير الداخلية التركي سليمان صويلو بشكل قاطع جميع التهم الموجهة إليه، ونفى أيضًا وجود أي علاقة تربطه بزعيم المافيا سادات بكر، واعتبر ما يجري حاليًّا ليس محاولة للنيل منه فقط، بل هي عملية مدبرة تستهدف تركيا من الخارج بهدف الإطاحة بالرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية.
تشهد وسائل التواصل الاجتماعي في تركيا حراكًا وتفاعلًا غير مسبوقَين مع فيديوهات سادات بكر، حيت تجاوزت أعداد المشاهدات الـ 100 مليون.
كما نفى وزير الداخلية الأسبق محمد أغار جميع التهم الموجهة إليه وإلى ابنه تولغا، وصرح قائلًا إن فيديوهات بكر مجرد كلام فارغ يخلو من الحقيقة.
وأضاف منوهًا إلى أن وجوده على رأس إدارة ميناء ياليكافاك، هو لمنع استيلاء المافيا التركية على الميناء الفاخر في مدينة بودروم السياحية.
ومن جانبها طالبت أحزاب المعارضة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعدم السكوت والتعقيب على هذه الاتهامات، التي من شأنها أن تضر بسمعة الدولة التركية داخليًّا وخارجيًّا، كما طالب زعماءُ المعارضة سليمان صويلو بالاستقالة من أجل فسح المجال لعقد لجنة برلمانية للتحقيق بشأن هذه الاتهامات.
وجاء يوم الأربعاء الدعم من قبل الرئيس أردوغان لوزير داخليته ورئيس وزرائه الأسبق بن علي يلدرم، بعد أيام طويلة من الصمت ولدت شكوكًا قوية عن مدى دعم أردوغان وقيادات حزبه للوزير صويلو، الذي يتعرض لهجمة شرسة على وسائل التواصل الاجتماعي تطالب باستقالته.
وقبيل ذلك تلقى صويلو دعمًا كبيرًا من قبل زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي، الذي وصف الأمر على أنه هجمة تستهدف السيادة التركية.
وطوال الأيام الماضية، تشهد وسائل التواصل الاجتماعي في تركيا حراكًا وتفاعلًا غير مسبوقَين مع فيديوهات سادات بكر، حيت تجاوزت أعداد المشاهدات الـ 100 مليون. وتستحوذ فيديوهات بكر والفيديوهات التحليلية المعدّة من قبل الصحفيين والناشطين على قائمة الترند في موقع يوتيوب داخل تركيا.
الأسباب والدوافع
انشغل المحللون في تحليل الأسباب والدوافع وراء نشر سادات بكر لهذه الفيديوهات، وبدأوا يبحثون عما إذا كان بكر يعمل وحيدًا كما يدّعي أم أن هناك من يدفعه ويشجعه للخروج بهذه الاتهامات والتصريحات، خصوصًا أنه يبث هذه الفيديوهات من دولة الإمارات العربية المتحدة، التي لا تربطها علاقات طيبة مع الحكومة التركية منذ فترة طويلة.
فالبعض يرى أن الإمارات تلعب دورًا مهمًّا، بالإضافة إلى جماعة غولن الإرهابية وأعوانها في دفع واستغلال بكر، بهدف إضعاف تركيا والإضرار بسمعة رئيسها أردوغان وأفراد حكومته، فيما يرى البعض الآخر أن بكر يحاول تصفية حساباته مع أشخاص من منتسبي الدولة العميقة أرادوا استبداله بلاعبين جدد، واسترجاع جزء من هيبته بعد هروبه من تركيا.
دعم أردوغان المتأخر وعدم استقالة صويلو بالإضافة إلى عدم تحرك القضاء لغاية الآن من أجل التحقيق في هذه الاتهامات، كلها عوامل تستثمرها المعارضة لإضعاف تحالف الجمهور
كما أن هناك من يربط بين تزامن فيديوهات بكر التي يتهم بها مفاصل مهمة في الحكومة والدولة، وبين دعوات المعارضة المنادية بضرورة إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة، من أجل إخراج البلاد من حالة الفوضى والوضع الاقتصادي غير المستقر بحسب وصفهم، في إشارة منهم لوقوف أحزاب المعارضة خلف بكر.
ختامًا
بكل تأكيد تصريحات وفيديوهات بكر لن تطيح بحكومة أردوغان ولا وزير داخليته في الوقت الراهن، لكنها قد تزيد من حجم الشقوق في صفوف حزب العدالة والتنمية، وتثير الشكوك في حاضنته الشعبية، ما قد يلحق الضرر بأردوغان وحزبه في الانتخابات المقبلة.
وعلى الرغم من أن هذه الاتهامات لم تعزَّز بعد بأية أدلة من قبل سادات بكر، إلا أنها لاقت صدى جماهيريًّا واسعًا بين فئة الشباب بالأخص، ويعود ذلك لعدة أسباب من أهمها تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية بسبب الوضع الاقتصادي الصعب التي تمر به البلاد منذ بدء جائحة كورونا، بالإضافة إلى تحالف المعارضة تحت لواء واحد ساهم في إيصال صوتها لشريحة شعبية أوسع، خصوصًا من فئة الشباب العاطلين عن العمل.
في النهاية، دعم أردوغان المتأخر وعدم استقالة صويلو بالإضافة إلى عدم تحرك القضاء لغاية الآن من أجل التحقيق في هذه الاتهامات، كلها عوامل تستثمرها المعارضة لإضعاف تحالف الجمهور المكون من حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومي، ولتعزيز حظها في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة، على أن سلوك السلطات المحتمل في الفترة المقبلة فيما لو لاحقت المافيا وكشفت حقائق مختلفة عمّا أذاعه بكر، من شأنه أن يغيّر كل شيء.