عاش الفلسطيني لأكثر من 70 عامًا تطارده وصمة من باع الأرض وهرب وتخلّى، وسط تعتيم كبير على القضية الفلسطينية ومعاناة الفلسطيني القائمة على مر العقود، وتصاعد مستمر للنفوذ الإسرائيلي عالميًّا وضعف الخطاب الإعلامي العربي والفلسطيني، الذي غيّب حضور القضية ووجهة النظر الفلسطينية مما يحدث.
فكيف تمكن الكيان الصهيوني المحتل بالأساس من انتزاع الأراضي الفلسطينية من أصحاب الحق؟
يقول هرتزل في كتابه “دولة اليهود”: “إذا كنت أريد بناء بيت جديد مكان منزل قديم فإن عليّ قبل كل شيء أن أهدم البيت القديم”.
لطالما سعت الصهيونية في جوهرها إلى تغيير التركيبة السكانية للقرى العربية، وفرض طوق من المستعمرات عليها، وقد قام الكيان المحتل بترجمة هذه القاعدة حرفيًّا على أرض الواقع، فعمد إلى مصادرة الأراضي ونهب الثروات وتدمير القرى ونسف المنازل وهدمها بقصد تهجير السكان والحلول محلهم.
النسف
شهدت العديد من المدن والقرى في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر حملات واسعة من الهدم والنسف.
فتارة لعدم توافر الشروط التي تطلبها البلديات في الأبنية، وتارة لأن البناء مشيد دون ترخيص، وأخرى لأنه مقام على أراضٍ مصادرة أو مغلقة، أو على جوانب الطرق العامة أو في الساحات، أو في أراضي مخصصة للمواصلات، وقد نفّذت سلطات الاحتلال هذه السياسة في نابلس وجنين والبيرة ورام الله والأغوار وقلقيلية وطولكرم.
كما جرى نسف البيوت والقرى وحرقها تمامًا بذريعة الاتصال بأعمال المقاومة الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني، فدمِّر منزل كل شخص اتهمته سلطات الاحتلال بتنفيذ عمليات فدائية، أو التعاون مع من نفذها أو اشتبهت بوجود أي علاقة تربطه بعناصر المقاومة، وأخذت أعمال النسف والحرق طابع العقاب الجماعي، وغالبًا ما تم تنفيذها بالديناميت.
كانت نوايا “إسرائيل” تجاه هذه الأراضي واضحة، خاصة عندما تم بناء أول مستعمرة في الأراضي المحتلة في يوليو/ تموز عام 1967.
ويقدّر مجموع الوحدات السكنية والمنازل التي قام الاحتلال بنسفها في الأراضي المحتلة بين عامَي 1967 و1977 بـ 7639 منزلًا في الضفة، و2500 منزل في غزة، و1500 وحدة سكنية، مخلفًا ما يقارب 16000 شخص مشرد بلا مسكن أو مأوى.
مصادرة الأراضي
كانت مصادرة الأراضي مستندة إلى عدد من التشريعات، منها التشريع البريطاني الصادر عام 1926 الذي أطلق يد حكومة الاحتلال، للسيطرة على الأراضي التي تجدها ضرورية للمشاريع والمصالح العامة حتى لو رفض المالك بيع الأرض. فتم نزع ممتلكات الفلسطينين بحجة استخدامها لمشاريع الدولة والمرافق العامة، مثل النبي يعقوب واللطرون وشعفاط والخان الأحمر.
كما تم الاستيلاء على العديد من الأراضي بحجة أنه استيلاء مؤقت لضرورات أمنية، ولكنه غالبًا ما تحول إلى استيلاء دائم، إضافة إلى الاستيلاء العسكري على الأراضي لاستخدامها لأغراض عسكرية.
والتشريع البريطاني الذي صدر عام 1945 منح الحكومة حق إنزال العقوبات بمن ترى أنه مخل بالأمن، كما من حقها تدمير أو الاستيلاء على أي منزل تشتبه بأن أي عمل مقاوم انطلق منه (رصاصة أو قنبلة أو أي شيء).
كما استندت أيضًا إلى أوامر الحاكم العسكري بإغلاق الأراضي وتسويرها، ومنع الدخول إليها أو استخدامها أو زراعتها، بجانب الخطط والأساليب التي طبقتها “إسرائيل” منذ عام 1948 لإرهاب السكان الفلسطينين وإجبارهم على مغادرة أراضيهم، ليتسنى لها تطبيق قانون أملاك الغائب الصادر عام 1950.
استطاع الاحتلال بتطبيق هذه السياسة من السيطرة ووضع يده على جميع الأراضي الحكومية، التي تشكل خمس مساحة الضفة الغربية المحتلة -أكثر من مليون دونم-، وعشرات آلاف الدونمات من أملاك الغائبين.
وكان هناك أيضًا عمليات الشراء بطريقة التمويه والخداع عن طريق شركات أجنبية، وإخفاء هوية المشتري الحقيقي، وحتى هذه العمليات كانت تتم بالإكراه ووضع أصحاب الأرض تحت الأمر الواقع عن طريق مصادرتها وبناء المستوطنات عليها، دون أن يكون للفلسطيني أي حقوق أو سلطة يمكنه اللجوء إليها بخصوص ما يصدر بحقه من قرارات، سواء اعتقال أو إبعاد أو مصادرة أراضٍ.
كانت نوايا “إسرائيل” تجاه هذه الأراضي واضحة، خاصة عندما تم بناء أول مستعمرة في الأراضي المحتلة في يوليو/ تموز عام 1967، وقد تتابعت عمليات البناء حتى بلغ عدد المستعمرات في مايو/ أيار عام 1978، 75 مستعمرة في الضفة الغربية المحتلة، و26 مستعمرة في سيناء، و7 مستعمرات في قطاع غزة المحاصر.
وقد تم تغيير أسماء التجمعات السكنية والقرى العربية إلى أسماء عبرية، لتسهيل تسويق الرواية الصهيونية “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
قانون أملاك الغائبين
أصدر الاحتلال قانون أملاك الغائبين عام 1950 كآلية للسيطرة على الأراضي التابعة للفلسطينين، وذلك في أعقاب النكبة وطرد الآلاف ونزوحهم من بيوتهم وأراضيهم.
ويعتبر هذا القانون أهم القوانين العنصرية الصهيونية لشرعنة سرقة أراضي الفلسطينين ومصادرتها، بالإضافة الى عقاراتهم وودائعهم البنكية.
فأُسكِن المستقدمون اليهود في تلك المنازل وتملكوها أمام حسرة الفلسطيني مالك الأرض والمنزل، وعدم وجود أي لجنة أو سلطة أو حتى هيئة يستطيع اللجوء إليها، بشأن ما يصدر في حقه من قرارت إبعاد أو مصادرة أو اعتقال.
أما بعض هذه المنازل فما زال مهجورًا إلى يومنا هذا، ومن سكنها من العرب اعتبر مستأجرًا يتهدده خطر الترحيل في أية لحظة.
وجاء هذا القانون استكمالاً للعمليات العسكرية التي قامت بها عصابات الاحتلال في النكبة -التي شردت أكثر من ثلثي الشعب الفلسطيني تحت وطأة العديد من الجرائم والمذابح التي تقشعر لها الأبدان-، وامتدادًا لقانون استملاك المنفعة العامة الذي فرضه الانتداب البريطاني عام 1943، الذي شرعن لسلطة الاحتلال مصادرة الأراضي وتحويلها لمصلحة المشروع الصهيوني على أرض فلسطين.
عينت وزارة المالية الصهيونية قائمًا على أملاك الغائبين، ووضعت كل أملاكهم في يده تحت ذريعة الحفاظ عليها، وأطلقت له الحبل على الغارب في التصرف بها بشتى الطرق.
وقد جاء هذا القانون الصهيوني لإقفال الباب أمام إمكانية عودة اللاجئين إلى أراضيهم، ولترسيخ مقولة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” على أرض الواقع.
وعرّف القانون الغائب على أنه أي شخص كان مالكًا لأي قطعة أرض أو يسكنها في فلسطين المحتلة، وغادرها ما بين 29 أكتوبر/ تشرين أول عام 1947-وهو تاريخ قرار التقسيم- والأول من سبتمبر/ أيلول عام 1948.
هذا التعريف الفضفاض جعل كل مالك فلسطيني غائبًا إذا ما تواجد خارج حدود دولة الاحتلال، أو في دول معادية كمصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق واليمن والسعودية. كما اعتبِر الفلسطيني المقيم داخل الخط الأخضرغائبًا إذا ترك قريته وانتقل إلى إحدى المدن والقرى المجاورة، وجعله غائبًا إذا انتقل من حي إلى آخر ضمن إحدى المدن الكبيرة، أو إذا نقلته قوات الاحتلال الصهيوني بالقوة من مكان إلى آخر.
تم تطبيق القانون على أكثر من 300 قرية فلسطينية مهجرة تزيد مساحتها عن 3 مليون دونم، كما تم الاستيلاء على 25 ألف بناء يحتوي على 57 شقة سكنية و10 آلاف محل تجاري وصناعي، وتم تحويل جميع هذه الممتلكات إلى شركة عميدار الصهيونية لإحلال وإسكان المستقدمين اليهود.
لا مفرّ، فالفلسطيني غائب أينما تواجد وحل وارتحل، تحظر عليه العودة ويفرض عليه أن يرى بيته وأرضه وكل ما عمل لأجله يطمس ويهوّد أمام عينيه.
لم ينتهِ تطبيق هذا القانون بعد النكبة، واستمر بعد احتلال الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، بل تفنن الاحتلال في استخدامه لخدمة مصالحه مستغلًّا التعريف الفضفاض والواسع لنص هذا القانون، حتى أنه طبّقه على الفلسطينيين الذين بقوا داخل فلسطين المحتلة بعد النكبة وتم الاستيلاء على ربع مليون دونم من أراضيهم، وما زال الاحتلال يستخدمه حتى يومنا هذا لمصادرة ما شاء من الأراضي والمباني.
كما عينت وزارة المالية الصهيونية قائمًا على أملاك الغائبين، ووضعت كل أملاكهم في يده تحت ذريعة الحفاظ عليها، وأطلقت له الحبل على الغارب في التصرف بها بشتى الطرق، حتى بيعها، كما يحق له وضع اليد على أملاك الفلسطينيين حين يجد ذلك مناسبًا بمجرد الإعلان عن شخص أو جماعة أنهم غائبون.
وقد استغل الصهاينة هذا لنقل آلاف الدونمات من الأراضي والمنازل عام 1953 إلى ما أسموه سلطة التطوير، وهو الجسم الذي أدار من قبل الاحتلال أراضي الغائبين المصادرة.
وفي عام 1960 تم إقامة مديرية أراضي “إسرائيل”، فوضعت هذه الأملاك تحت إدارة المديرية التي أنشأت عليها مستوطنات ومرافق عامة.
وفي أعقاب عدوان يونيو/ حزيران 1967 واحتلال شرق القدس، استغل الصهاينة قانون أملاك الغائبين بشكل كبير، بهدف توسيع حدود القدس المحتلة وترسيخ الاحتلال وتهويد المدينة.
وقد ابتكر الصهاينة طرقًا عديدة كي يخسر المواطن المقدسي حق إقامته في مدينته، ومنها الإقامة لعدة سنين خارج الوطن، أو خارج ما يسمى بحدود بلدية القدس.
ومع بناء جدار الفصل العنصري عام 2004، أصبح كل مواطن مقدسي يقيم خارج الجدار معرّض لخسارة إقامته المؤقتة التي منحته إياها سلطات الاحتلال سنة 1967، واعتبِر كل من نفي أو رحل غائبًا وبالتالي يخسر إقامته المؤقتة في القدس المحتلة، ويصبح من حق الاحتلال بموجب قانون أملاك الغائبين الاستيلاء على أملاكه وتحويلها الى أيدي جمعيات صهيونية، كما هو الحال في سلوان على سبيل المثال.
ومن هنا قامت جمعية إلعاد الاستيطانية بالاستيلاء على بيوت كثيرة، بادعاء أنها أملاك غائبين.
كما منع الاحتلال عقب بناء جدار الفصل العنصري آلاف الفلاحين من الوصول إلى أراضيهم الزراعية في القدس المحتلة وضواحيها، وفرض عليهم استصدار تصاريح دخول، وهو ما رفض إصداره، فاستولى على أراضيهم باعتبارها أملاك غائبين بهدف بناء تجمعات استيطانية وفرض حقائق على أرض الواقع.
تقع معظم هذه الأراضي على الحدود الجنوبية، ما يعني فصل الأحياء العربية في جنوب القدس المحتلة عن المدينة مثل صور باهر وأم طوبا.
ولم تثمر حتى يومنا هذا أي من جهود المؤسسات الحقوقية في رد الحقوق إلى أصحابها، أو حتى إيقاف ما يحدث، إذ تقدمت العديد من هذه المؤسسات بعدة دعاوى للمحكمة العليا تستند فيها إلى أن القدس منطقة محتلة، وبالتالي لا ينطبق عليها قانون الغائبين، ولكن المحكمة لم تصدر أي قرار بهذا الشأن.
يهدد هذا الأمر أكثر من 130 مقدسي فصلَهم الجدار عن المدينة المقدسة، ويأتي تطبيق هذا القانون في وقت ارتفع فيه عدد المستوطنين في القدس الشرقية المحتلة إلى أكثر من 230 ألف مستوطن.
ما تواجهه هذه الأحياء نكبة جديدة، واستمرار لأكبر عملية نهب حدثت في التاريخ الحديث
وتعتبر أزمة حي الشيخ جراح امتدادًا لهذا القانون وإمعانًا في تغوّل الحركة الاستيطانية، ومحاولتها لتغليب يهودية المدينة وطمس وابتلاع ملامحها العربية، حيث تواجه 28 عائلة شبح الإخلاء والطرد من منازلهم -التي مُنحت لهم بعد تهجيرهم عام 1948 أثناء الحكم الأردني للقدس بدعم من الأونروا-، 4 منها قد أمرت المحكمة بإخلائهم قبل الاستئناف و12 عائلة منهم تواجه المصير نفسه، إذ كان من المقرر البت في أمرها في الثاني من الشهر الجاري لكن أخّر انفجار الأحداث انعقاد المحكمة.
بدأت التضيقات على حي الشيخ جراح من عام 1972، بعد احتلال القدس الشرقية عام 1967، بحجة أن البيوت بنيت بصورة غير رسمية على أراضٍ مملوكة لعائلات يهودية.
وفي عام 1988 أصدرت محكمة إسرائيلة قرارًا بأن العائلات الفلسطينية ليس لها حق في المنازل، وطبِّق عليها قانون أملاك الغائبين، “لمين تشتكي والقاضي غريمك؟”.
وقد بدأت الإجراءات القانونية تدخل حيز التنفيذ لإخراج الفلسطينيين واستبدالهم بالمستوطنين عام 2002، وفي عام 2021 قررت محكمة الصلح الإسرائيلية إخلاء 3 منازل فلسطينية في الحي، وقد رفضت محكمة الاحتلال المركزية الاستئناف المقدم من الفلسطينيين.
حي الشيخ جراح ليس وحده المهدد، فهو واحد ضمن مجموعة أحياء تواجه المشروع الاستيطاني، بسياساته العنصرية واضهاده العرقي والديني وكل محاولات تضييقه لدفع الفلسطينين إلى مغادرة أحيائهم ومنازلهم.
وعلى مدار مدة النزاع وحتى قبل حسمه قضائيًّا، تم بالفعل إحلال المستوطنين محل بعض العائلات الفلسطينية، وتشير الأرقام إلى أن نحو 200 منزل يضم أكثر من 3000 فلسطيني في مناطق استراتيجية قرب البلدة القديمة مهدد بالإخلاء، في حين أن 20 الف منزل فلسطيني في أنحاء المدينة مهدد بالهدم.
ما تواجهه هذه الأحياء نكبة جديدة، واستمرار لأكبر عملية نهب حدثت في التاريخ الحديث.
ولربما ساهمت الهبة الأخيرة في تسليط الضوء على المعاناة المستمرة للفلسطيني، وزيادة وعي الشارع العربي والغربي بما يحدث، وهو ما يعول عليه أولًا وأخيرًا في فضح ظلم وفداحة هذا القانون، وكل الإجراءات المتخذة في سبيل تنفيذه.