على مر التاريخ نظرت الممالك والدول إلى الدين على أنه أداة للتحكم بالجماهير والشعوب وتوجيهها حسب المصالح، لذلك حرص السلاطين والأمراء على استخدام العلماء والشيوخ لإدامة وتثبيت أنظمتهم، وهذه الظاهرة لا تقتصر على العصور الغابرة، فقد استفحل الأمر في أيامنا بما لم يكن سابقًا، على اعتبار أن السواد الأعظم من الشيوخ استغلوا المنابر وطوعوا الفتاوى لتمكين الطغاة من الحكم وتسببوا بشكل مباشر في تخلف الأمة وتقهقرها أخلاقيًا ومعرفيًا.
من هم علماء السلطان؟
يُشير مصطلح علماء السلطان إلى نوع من الشيوخ والعلماء الذين سخروا معرفتهم ومكانتهم لخدمة الحكام طمعًا في عطاياهم أو خوفًا من بطشهم، وقد ورد ذمُ هذا السلوك لدلالته على إيثار الدنيا على الآخرة وتقديم رضا المخلوق على رضا الخالق، فأخرج أبو عمر الداني في مؤلفه “الفتن” أنه “لا تزال هذه الأمة تحت يد الله وكنفه، ما لم يمالئ علماؤها أُمراءَها”.
كما روى أحمد والبزار وابن حبان قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “سيكون أمراء، من دخل عليهم وأعانهم على ظلمهم، وصدقهم بكذبهم، فليس مني ولست منه، ولن يرد على الحوض. ومن لم يدخل عليهم، ولم يُعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وسيرد على الحوض”.
تاريخيًا، ابتليت الأمة الإسلامية بهذا النوع من الشيوخ والفقهاء الذين تحلقوا حول الحكام ليكونوا بطانة سوء لم تخدم القضايا الحقيقية ولم تعمل على تثوير مقومات العيش الكريم للشعوب اجتماعيًا واقتصاديًا، فكثير منهم ارتضى لنفسه دور سوط الجلاد الذي يسلخ جلد المواطنين بمواقفهم المساندة للديكتاتوريات والأنظمة الكليانية المتدثرة بغطاء ديني.
ويُمكن القول إن النخب الدينية تنقسم إلى صنفين أحدهما ضعيف لا يقدر على المواجهة فيختار الصمت وتجنب الاحتكاك مع السلطة أو التصادم معها والآخر متزلف ومتسلق يهوى التقرب من مجالس الحاكم لا يضره التدليس على الناس وتطويع النصوص خدمة لأجندة النظام وسياساته، كما أنه لا يتورع في أن يكون منسأة الحاكم ومخبرًا لدى الأجهزة الأمنية لضرب العلماء الربانيين وبعض التيارات الدينية.
أحداث وفتاوى
منطقيًا، لا يُمكن الحديث عن علاقة العالم بالسلطان دون استعراض نموذج للحالة الطبيعية لهذا الترابط القائم في الأصل على النصح والإرشاد، فعالم الدين من مهامه الرئيسية تقويم سياسة الحاكم لتتوافق مع مفهوم الاستخلاف في الأرض وإقامة العدل، وقصة العز بن عبد السلام خير مثال على ذلك.
القصة تبدأ حين تعاون حاكم دمشق الصالح إسماعيل مع الصليبيين لمحاربة أخيه نجم الدين أيوب في مصر مقابل أن يعطي الصليبيين مدينتي صيدا والشقيف والسماح لهم بشراء السلاح من دمشق، الأمر الذي دفع العز بن عبد السلام إلى قول كلمة الحق في وجه إسماعيل وانتقده بشدة على المنبر وأفتى بأن إسماعيل لا يمتلك المدن الإسلامية ليتنازل عنها للصليبيين ولا يجوز بيع السلاح للصليبيين لأنه معروف أنهم سيقتلون بها إخوانهم من المسلمين في مصر، كما أصدر فتوى أخرى بأن المماليك العسكر في حكم العبيد ولا يجوز لهم الولاية على الأحرار وعدم جواز ولايتهم وبالتالي عزلهم جميعًا من مناصبهم.
ابن عبد السلام لم يكن يومًا من علماء السلاطين الذين أداروا ظهورهم لقضايا الأمة المصيرية، بل كان سلطان العلماء وكان ثوريًا في بحثه عن الحق رغم طرقه الوعرة ونأى بنفسه عن السيطرة على عقول الناس لمصلحة الحاكم.
على عكس العز، يحمل التاريخ العربي والإسلامي الحديث صورًا ونماذج من استعمالات الأنظمة للدين وللعلماء في القضايا السياسية سواء على المستوى المحلي الداخلي أم الخارجي الإقليمي (الفضاء العربي الإسلامي)، إذ شكلت اتفاقية كامب ديفيد مع الاحتلال الإسرائيلي التي وقعها الرئيس المصري الراحل أنور السادات نموذجًا لاستغلال الدين.
كانت مصر في مواجهة مفتوحة مع الاحتلال في عصر الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان مسنودًا برجال الدين والعلماء الذين دعموا الحرب بإصدارهم فتاوى تؤكد أن الجهاد فرض عين على كل مسلم، طالما أن العدو اغتصب أرضًا تعد جزءًا من ديار المسلمين، فكيف بالمسجد الأقصى مسرى النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وأولى القبلتين.
هؤلاء العلماء لم يُسمع لهم ركز بعد ذهاب أنور السادات إلى الاحتلال الإسرائيلي وإلقائه خطبة “السلام” أمام الكنيست، زاعمًا أن ما فعله يحمل شرعيةً دينيةً والحال أنه كان يؤمن بأن أصل الصراع العربي الصهيوني سياسي لا ديني، بل بالعكس أصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى العام 1979، تجيز فيها معاهدة كامب ديفيد وعقد اتفاقية سلام مع “إسرائيل”.
حرب الخليج
حرب الخليج عام 1991 هي الأخرى مثال حي على ذلك، فقد لجأت المملكة السعودية إلى المؤسسة الدينية لشرعنة الاستعانة بالتحالف الدولي لغزو العراق وإسقاط النظام بقيادة صدام حسين وتدمير البلد العربي رغم أن إمكانية الحلول والتسويات السلمية كانت قائمة.
الرياض أعلنت في تلك الفترة صراحةً الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة في هذه الحرب وقدمت المساعدات والتسهيلات اللوجستية والعسكرية والمادية لواشنطن، وفي ظل تململ الداخل وبعض الأصوات المعارضة لهذه الخطوة دفعت بعلمائها والشيوخ القريبين من دوائر الحكم إلى إصدار فتوى تجيز لها ولدول الخليج الاستعانة بأمريكا.
وبما أن السعودية تقود العالم الإسلامي لوجود أهم مراكزه الروحية والدينية على أرضها، عملت على عقد المؤتمر الإسلامي العالمي بمكة قبل قيام أمريكا بضربتها للعراق، وشارك فيه نحو 300 عالم ومفكر إسلامي، ينتمون إلى 86 دولة.
للتاريخ: في حرب الخليج أجاز نحو 300 عالم من 80 دولة الاستعانة بالكفار في اجتماع المؤتمر الإسلامي بمكة. فضلا عن فتوى اللجنة الدائمة.
— موقع التصفيةوالتربية (@MawTasfiatarbia) July 20, 2016
أصدر العلماء المشاركون في هذا المؤتمر فتوى أجازت الاستعانة بالقوات الأمريكية، كان الغرض منها تأمين تغطية شرعية للأنظمة العربية المنخرطة في الحرب، وذلك حتى لا تتحرك مشاعر المسلمين ضدهم، بسبب وجودهم الكثيف في جزيرة العرب التي يحرم أن يوجد فيها دين غير دين الإسلام، والقطع مع أي تحرك في حال ارتكبت هذه القوى مجازر بحق المسلمين في العراق.
المفارقة العجيبة أن السعودية دفعت مؤسستها الدينية للتأثير على الأنظمة العربية الأخرى والرأي العام العربي والإسلامي والترويج بأن نظام صدام حسين دافع عن الدين بوقوفه ضد الإيرانيين والمد الفارسي خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988).
مصر
أحداث 3 من يوليو/تموز 2013 وانقلاب عبد الفتاح السيسي على الرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي كان ضربةً للداخل والخارج، فالسعودية التي أعلنت على لسان الملك سلمان حين كان وليًا للعهد في 2013 أن بلادها مع الحاكم الشرعي ومع ضرورة إعطاء مرسي الفرصة الكاملة للحكم، انقلبت مع صعود السيسي بانقلاب عسكري وعرضت تعويض أي مساعدات تمنع عن القاهرة، وعملت على الترويج لجواز الخروج عن الحاكم في تعارض مفضوح مع سياستها المعهودة.
أما داخليًا، فشهدت المؤسسات الدينية تماهيًا مع النظام السياسي الجديد، عبر إصدار فتاوى مسيسة، أشهرها فتوى شيخ الأزهر، أحمد الطيب، بتشبيه مُقاطِع الانتخابات البرلمانية في مصر، بـ”العاق لوالديه”، فيما ذهب أستاذ الفقه في جامعة الأزهر، سعد الدين الهلالي، إلى وصف السيسي ووزير الداخلية السابق محمد إبراهيم، بأن “الله بعث رجلين هما السيسي وإبراهيم، كما أرسل من قبل موسى وهارون”.
بدوره أكد وكيل وزارة الأوقاف المصرية صبري عبادة، أن “الأمر استقر وتمت البيعة لولي الأمر وهو السيسي، والخروج عليه يعتبر خروجًا على ثوابت الإسلام”، ما يعني أنه أجاز الخروج على مرسي وحرمه على السيسي الذي قتلت أجهزته مئات المصريين وسجنت الآلاف.
سيل الفتاوى السياسية لم يقف عند هذا الحد بل تجاوز بعض رجال الدين حدود العقل الوازن، حين أعلن إمام وخطيب مسجد عمر مكرم، مظهر شاهين، فتوى أن لـ”كل زوج يجد زوجته تابعة للإخوان عليه أن يطلقها”، في المقابل دافع البعض الآخر عن بيع تيران وصنافير للسعودية.
قطر
إضافة إلى الدعاية الإعلامية التي روجت لحصار السعودية والإمارات والبحرين ومصر لدولة قطر، لم يتخلف المشايخ ودعاة وأئمة مساجد عن وظيفتهم المعتادة وهي خدمة أجندة الساسة، فشاركوا بفتاويهم لتبرير هذه الخطوة على اعتبار أنها تأتي في مصلحة الشعب القطري، وذلك بحسب المفتي العام للسعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ الذي اعتبر القرار مبني على حكمة وبصيرة.
إمام الحرم المكي عبد الرحمن السديس كعادته لم يتخلف عن هذه المحافل وحذر من التعامل مع ما وصفها بـ”الفئة الضالة والجهات الإرهابية” المصنفة وفقًا لما نص عليه البيان المشترك بين السعودية وأربع دول أخرى، وسار من ورائه الداعية السعودي عائض القرني والمصري عمرو خالد والإماراتي المثير للجدل وسيم يوسف.
السديس ..امام الحرم:
“حصار قطر .. خطوة سديدة”
أرأيتم كيف يمكن أن تكون إماما للحرم
وتجعلك الدنيا ظالما
ويجعلك الخوف خائنا للقرآن
اللهم ثبتنا— د. باسم كمال خفاجي (@drbassemkhafagy) June 11, 2017
السعودية لم تستعمل فقط الدعاة وشيوخ الدين لتبرير موقفها العدائي ضد جارتها قطر، فقد استغلت الهيئات والمؤسسات الدينية، لتأييد إجراءات المقاطعة الظالمة المتخذة بحق الدوحة، فأعلنت رابطة العالم الإسلامي أن قرار قطع العلاقات، جاء وفق المقتضى الشرعي والقانوني.
إن طيفًا واسعًا من العلماء يعملون على إصدار الفتاوى حسب الطلب لتتوافق مع أهواء السلطان، فيحرمون ما يضره أو يُهدد أركان نظامه ويبيحون ما فيه مصلحته ولو تعارض الأمر مع النصوص والأثر المعرفي الحضاري، مستغلين قواعد بأصول الفقه من قبيل “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح” لتسويغ مساهماتهم بإطالة عمر الأنظمة وشد أركانها عبر انتقاء آيات وأحاديث بما يتناسب مع مصالح سلاطينهم، متغاضين عن بقية الأدلة التي تتعارض معه، والأصل أن مهمة العلماء هي دلالة الناس على ما يُحبه الله ويرضاه من الحق والعدل.
فالعالم الحق لا يُداهن الحاكم ولا يُداهن الناس أيضًا حسبه ضميره وأخلاقه وخوفه من تضييع الأمانة وتأدية الرسالة، وهو الذي حق فيه قوله تعالى: “الَذينَ يُبلغونَ رسالاتِ اللِه ويخشونهُ ولا يخشونَ أحدًا إلا اللهَ وكَفَى باللهِ حَسِيبًا”.
بالمحصلة، إن الكوارث المترتبة على الفتاوى السياسية أدخلت العالم الإسلامي في دوامة من الصراعات والاقتتال المستمر، فما حصار قطر وإراقة دماء المصريين هدرًا وخنق الغزاويين من إخوانهم وحرق العراقيين والسوريين وقتل الليبيين واليمنيين، إلا جرائم ناتجة عن العلاقة الشاذة بين الكرسي والعمامة.