بعد الأحداث الأخيرة في الساحة الفلسطينية، من اعتداءات جيش الاحتلال ومستوطنيه على المسجد الأقصى والمقدسيين، وقضية حي الشيخ جراح المهدد بالتهجير، والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المحاصر وقتله المدنيين وهدمه الأبراج السكنية، شهدت عواصم الدول العربية والأوروبية احتجاجات ومسيرات داعمة للقضية الفلسطينية، ومطالبة حكومات بلادها بتضييق علاقاتها مع “إسرائيل”، وقطع علاقاتها الدبلوماسية معها.
ولم تكن الولايات الأميركية المتحدة بمعزلٍ عن هذه التحركات العالمية، بل شهدت عدة مدن أميركية مظاهرات واسعة غير مسبوقة دعمًا للقضية الفلسطينية.
وفي الوقت ذاته، توجهت الأنظار إلى الساحة السياسية الأميركية لقراءة الموقف الأميركي في عهد جو بايدن والديمقراطيين، بعد وصول أصوات عربية وإسلامية وأخرى مناهضة للاحتلال الإسرائيلي إلى الكونغرس الأميركي.
وتلخص ذلك بتوقيع 500 ديمقراطي على عريضة تطالب الرئيس بايدن بمحاسبة “إسرائيل” ودعم الفلسطينيين، كما علت الأصوات المعترضة على صفقة الأسلحة المبرمة أخيرًا بين الحكومتين الأميركية والإسرائيلية بقيمة 735 مليون دولار.
وبعيدًا عن أروقة الأصوات السياسية المعارضة، شهدت الأحداث الأخيرة دورًا لافتًا للمؤثرين والمشاهير العرب والأجانب في تحريك القضية الفلسطينية إعلاميًّا، إذ لعب المؤثرون من خلال مواقع التواصل الاجتماعي دورًا في دحض الرواية الإسرائيلية التي حاول الاحتلال واللوبي الصهيوني في الخارج ترويجها، وبناء صورة الاحتلال كدولة تسعى للتسامح والسلام.
هذا التصاعد غير المسبوق في الأصوات العالمية الداعمة للقضية الفلسطينية والمناهضة للاحتلال وسياساته، يعني وفق محللين فشلًا ذريعًا مُنيت به الرواية الإسرائيلية الممتدة منذ عقود، ويوحي ببدء حملة إعلامية جديدة ستقوم بها جماعات الضغط الصهيونية خاصة في الغرب، لاستعادة حاضنة واسعة للصهيونية، ستلجأ فيها “إسرائيل” إلى استخدام وسائل غير مشروعة، مثل تهمة معاداة السامية التي تلوّح بها في مواجهة كل مأزق.
معاداة السامية: دموع “إسرائيل” في الغرب
على مدار السنوات الماضية، عملت “إسرائيل” على استخدام مصطلح معاداة السامية في خطابها الإعلامي، لتصوير نفسها كدولة تقع تحت ظلم وتمييز عنصري منذ الهولوكوست وحتى اللحظة، وفي الوقت نفسه تستخدمها ذريعة في ملاحقة الأصوات المعارضة، واتهامها بمعاداتها للسامية، وهو ما تعتبره الأمم المتحدة شكلًا من أشكال التمييز العنصري والاضطهاد الديني.
تحاول “إسرائيل” من خلال استخدام مصطلح معاداة السامية في مواجهة معارضيها، تغييب الأنظار عن الفكرة الأساسية التي انطلق المعارضون منها.
ومع إدراك الاحتلال وجماعات الضغط الصهيونية في الخارج لما أفشلته الأسابيع الأخيرة، والحملات الإعلامية في الفضاء الرقمي التي تحاول تحسين صورة “إسرائيل” في العالم الأوروبي والأميركي، بدأ مصطلح معاداة السامية يطفو على الواجهة، في تمهيد وإشارات أولية لطبيعة رد هذه الجماعات القادم في استراتيجية إعادة “إسرائيل” من جديد كمدينة فاضلة.
وتستغل “إسرائيل” تنامي روح الحرية والمبادئ الإنسانية والعدالة الاجتماعية في العالم الغربي، لإثارة تهمة معاداة السامية وعداء اليهود كديانة، لتلاحق بها منتقدي سياساتها، والمناهضين لـ”إسرائيل” كاحتلال ارتكب جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية، مع إدراكها عدم إمكانية وقوف الغرب أمام ادعاء معاداة السامية، وغياب احتمالية صعود أصوات غربية -على الأقل- تستنكر محاربة “إسرائيل” لمعادي السامية.
وحول استخدام هذا المصطلح، يشير منسق عام “الحركة الدولية لمقاطعة إسرائيل دوليًّا” محمود نواجعة في حديث لـ”نون بوست”، إلى استخدام مصطلح معاداة السامية بشكل استراتيجي من قبل الاحتلال واللوبي الصهيوني، لإسكات التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني، من خلال ربطه بأن أي انتقاد لـ”إسرائيل” هو معادٍ للسامية.
ويعقب نواجعة: “هذا محض كذب وافتراء، وهو اعتداء على حرية الرأي والتعبير والأصوات التي تنتقد السياسات العنصرية والتمييزية للاحتلال وانتهاكاته للقانون الدولي، وبالتالي الآن أيضًا يستخدَم الاتهام على مؤثرين ومشاهير مؤيدين للقضية الفلسطينية من أجل منعهم من التضامن مع الشعب الفلسطيني، أو حتى التعبير عن رفضهم لهذه السياسات”.
ما بين السامية والصهيونية
تحاول “إسرائيل” من خلال استخدام مصطلح معاداة السامية في مواجهة معارضيها، تغييب الأنظار عن الفكرة الأساسية التي انطلق المعارضون منها، وهي معاداتهم للصهيونية، وأن مشكلتهم مع “إسرائيل” ليست بسبب دين أو عرق، وإنما بسبب وجودهم ككيان محتل وفق القوانين الدولية.
وقد نشط استخدام هذا المصطلح بشكل واسع في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي أبدى التزامًا ودعمًا كاملَين للاحتلال، وخلال عهده اعتبر وزير خارجيته مارك بومبيو “الحركة الدولية لمقاطعة إسرائيل دوليًّا” حركةً معادية للسامية، على الرغم من رؤية الحركة الصريحة بمعاداتها للاحتلال الإسرائيلي كاحتلال قائم.
بات العالم حاليًّا مطالَبًا بإيجاد تعريف واضح لمفهوم معاداة السامية، وألا يعود هذا اللفظ مقتصرًا على دول بعينها تستخدمه في قمع وإرهاب الآخرين.
وعن محاولات للخلط بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، يقول نواجعة: “نحن في حركة المقاطعة نرفض رفضًا قاطعًا كافة أشكال الكراهية والتمييز العنصري المبنية على اللون أو الجنس او الدين أو العرق، وننتقد بشدة الصهيونية كأيديولوجيا مبنية على التمييز العنصري، وبالتالي الاحتلال يحاول استخدام معاداة السامية ضد كل من ينتقد الصهيونية وكل من ينتقد سياساته”.
ورقة ضغط على اليهود أيضًا!
لا يقتصر استخدام مصطلح معاداة السامية كورقة ضغط رابحة في إسكات أصوات معادي الصهيونية، وترهيبهم وتخويفهم، وإخماد الضغط العالمي المتقد حاليًّا، بل يوسع أيضًا الصدع بين المجتمعات والأوساط اليهودية، إذ إن تكرار استخدام هذا المصطلح سيخلق حالة من العنف والكراهية، وسيزيد فعليًّا من مستويات التمييز العنصري.
وإلى جانب ذلك فإنه يسيء إلى اليهود غير المؤمنين بالصهيونية، والمؤمنين بحق الفلسطينيين بإقامة دولتهم على كامل ترابها، وبحسب نواجعة فإن جماعات الضغط الصهيونية “تحاول تغيير جوهر هذه التعريفات، بالمعاداة لليهود حول العالم إلى انتقاد سياسات “إسرائيل” العنصرية، وبالتالي هي إساءة لكل شعوب العالم الحرة، وإساءة لكل المجتمعات اليهودية واليهود حول العالم، الذين يرفضون هذه التعريفات، ويرفضون أيضًا سياسات “إسرائيل” الاستعمارية”.
إن الشاهد البارز فيما سبق يعكس أن مصطلح معاداة السامية أصبح مصطلحًا فضفاضًا يتم استخدامه من قبل دولة الاحتلال والحركة الصهيونية في الخارج، ويستخدم لقمع أي محاولة تعاطف مع الشعب الفلسطيني أو حركة لا تدعم التوسع الاستيطاني، أو لقمع الدول التي تعارض السياسات الاستيطانية والتوسعية التي تقوم بها حكومة الاحتلال الإسرائيلي على حساب الحق الفلسطيني.
وبات العالم حاليًّا مطالَبًا بإيجاد تعريف واضح لمفهوم معاداة السامية، وألّا يعود هذا اللفظ مقتصرًا على دول بعينها تستخدمه في قمع وإرهاب الآخرين، كما يجري مع الشعب الفلسطيني أو النشطاء العرب والأجانب المتضامنين مع الحق الفلسطيني.