ترجمة وتحرير نون بوست
أصبح الرأي العام الغربي يتفق إلى حد بعيد مع الاتهامات الموجهة لليساريين بتبنّي ثقافة الإلغاء. وقد حرص اليمين التحرري والمحافظون والمحافظون الجدد على شنّ حملات ممنهجة لتكريس هذه الفكرة، وتدل نتائج الانتخابات على أنها لاقت صدى لدى الكثيرين، رغم الشكوك الكبيرة حول الدوافع الأخلاقية لعدد من القادة الذين وصلوا إلى السلطة.
لكن ثقافة الإلغاء لا تقتصر على اليسار فحسب. يحمل اليمين تصوراته الخاصة التي يتم من خلالها إسكات فئات معينة من المجتمع. يتبلور هذا النوع من الإلغاء في أذهان الأكاديميين والمثقفين المزعومين، قبل أن ينتقل إلى أعمدة الصحف، ثم يتحوّل إلى قضية رأي عام، وينتهي بفكرة عنصرية تدعو للتمييز والتطهير العرقي.
ليس علينا أن ننظر إلى أبعد مما حدث في أفغانستان والعراق، فقد تحدد مصيرهما قبل عقود من الحرب الغربية على البلدين. بدأ الأمر في أذهان أولئك الذين أرادوا ضرب العرب “في منتصف الجبهة بعصا كبيرة“، ووجدت الفكرة صداها في قاعات المحاضرات برسالة مفادها أن “قصف أفغانستان سيساعد على إخراجها من العصر الحجري“، ثم انتقل الأمر إلى صفحات “نيويورك تايمز” وموجات أثير هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، وأخيرا مُنح السياسيون فرصة مشابهة لتلك التي حصل عليها تشرشل، بمواجهة صدام حسين وطالبان.
ومثلما حدث في العراق وأفغانستان، يجري التطهير العرقي حاليا على أرض فلسطين من خلال استيلاء “إسرائيل” على الأراضي وعمليات الهدم والقتل، واستهانة الحكومة الإسرائيلية بالمعتقدات الإسلامية. يعيش الفلسطينيون الآن في خُمس أراضي وطنهم التاريخي، وحتى ضمن هذه المساحة الضيقة، تخنقهم “إسرائيل” بالحواجز ونقاط التفتيش والمستوطنات، وهو ما سبب صدمة لإدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. لم تعد القضية احتلالا للأرض فحسب، بل إذلالا سياسيا أيضا.
لا تزال روح التضامن التي تربط مؤدي القضية الفلسطينية في الغرب تنبض بالحياة، إلا أن “نقاط التفتيش” الفكرية تهدف للقضاء عليها. مع خروج حشود من المتظاهرين إلى الشوارع في المدن الغربية تضامنا مع الفلسطينيين، عمل أنصار “إسرائيل” في مراكز القوة على إخماد هذه الهبّة الجماهيرية باستخدام التهم المعتادة، مثل “التطرف” الإسلامي ومعاداة السامية.
لطالما كانت الإدانة الجماعية التي تتبعها العقوبات، من الثوابت الإسرائيلية في الحرب على الفلسطينيين ومؤيديهم
استهداف مؤيدي القضية الفلسطينية
في فرنسا، يبدو أن المنادين بحريّة التعبير المطلقة أصبحوا يرون أن تلك الحرية ليست متاحة للجميع، وقد تبين ذلك من خلال استخدام الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه ضد المتظاهرين المؤيدين للقضية الفلسطينية هذا الشهر. من جهتها، أرسلت ألمانيا مذكرة إلى “اللاجئين والمهاجرين المسلمين” مفادها أنه لا يحق لهم التشكيك في حق “إسرائيل” في الوجود.
أما في بريطانيا، فإن الحكومة والمعارضة يتنافسان على إدانة “معاداة السامية” بصوت أعلى، بينما تعجّ صفوفهم بالإسلاموفوبيا. مؤخرًا، ألغى زعيم حزب العمل كير ستارمر ظهوره في تظاهرة لمنظمة إسلامية لأن مجلس نواب اليهود البريطانيين كشف عن مقاطعة أحد منظمي الحدث للتمور الإسرائيلية. وبعد نجاحه في إلغاء مشاركة ستارمر، قام المجلس باستهداف لاعب كرة قدم مسلم لأنه أعرب عن دعمه للفلسطينيين في تغريدة على “تويتر”.
متظاهرون يحتشدون دعما لإسرائيل في وسط لندن بتاريخ 23 أيار/ مايو 2021.
وعندما قام مجموعة من المشاغبين في شمال لندن باقتحام مظاهرة مؤيدة لفلسطين، وتفوّهوا بألفاظ نابية تجاه اليهود، وجدت وسائل الإعلام الفرصة المناسبة لوضع الحركة المؤيدة للقضية الفلسطينية بأكملها في قفص الاتهام. أولئك الذين يفضلون أن يتمحور النقاش حول “معاداة السامية”، سارعوا إلى مقارنة المتعاطفين مع فلسطين بتنظيم الدولة. من جهتها، رأت صحيفة “نيويورك تايمز” أنه من المناسب تخصيص صفحة كاملة لإعلان يطالب فيه الحاخام اليميني شمولي بوتيتش بأن يقوم ثلاثة مشاهير من مؤيدي فلسطين بإدانة حماس.
تُظهر هذه الأمثلة وغيرها -في خضم موجة المظاهرات العارمة المؤيدة للفلسطينيين- كيف يستخدم المدافعون عن “إسرائيل” حجة عدم إدانة الفلسطينيين لـ”معاداة السامية”، تماما كما تُستخدم حجة عدم إدانة المسلمين للإرهاب لتشويه عقيدة بأكملها.
الخوف من الانتقام
لطالما كانت الإدانة الجماعية التي تتبعها العقوبات، من الثوابت الإسرائيلية في الحرب على الفلسطينيين ومؤيديهم. يعدّ طلاب المدارس وضباط الشرطة من بين أولئك الذين واجهوا التوبيخ بشكل ممنهج، على اعتبار أن الفلسطينيين غير جديرين بالمساندة والتأييد. في المملكة المتحدة، يُسكت المدرسون طلابهم الذين يعربون عن تأييدهم للفلسطينيين، مع خلط متعمّد بين الدفاع عن القضية الفلسطينية ومعاداة السامية.
كما وجد العديد من الصحفيين الذين عبروا سابقًا عن دعمهم للفلسطينيين أنفسهم في مواجهة خطر ثقافة الإلغاء اليمينية. في هذا الصدد، فصلت وكالة أسوشيتد برس الزميلة الصحفية اليهودية إميلي وايلدر، دون تقديم أي أمثلة محددة على أخطائها المزعومة، بعد أن استهدفتها وسائل الإعلام اليمينية بصفتها عضوا نشطا في الجماعات المؤيدة للفلسطينيين. قبل أيام فقط، قامت الطائرات الحربية الإسرائيلية بتفجير مكاتب وكالة أسوشيتد برس في غزة.
كما نقلت تقارير أن عددا من الصحفيين الكنديين يخشون “الانتقام”، بعد أن وقّع أكثر من 2000 صحفي رسالة تعبر عن استيائهم من غياب تغطية إعلامية للجرائم التي ترتكبها “إسرائيل” ضد الفلسطينيين. في غضون ذلك، وصف نائب يهودي في المملكة المتحدة المتظاهرين في المسيرات المؤيدة للقضية الفلسطينية بأنهم “بدائيون” – وهي إحدى الاستعارات المعادية للإسلام التي حددتها شبكة العمل المسلم ضمن الخطاب المستخدم ضد فلسطين.
في الحقيقة، هناك تداخل واضح بين الصهيونية والإسلاموفوبيا. وتوضح الباحثة هيلاري أكيد أن سبعة مانحين من كبار المسؤولين عن نشر الإسلاموفوبيا قدّموا في العقد الأول من القرن الحالي ما يقارب 11 مليون دولار لمعالجة قضايا تتعلق بالمجتمع الإسرائيلي. قدر الأكاديمي حاتم بازيان أن 70 بالمائة من تمويل دعاية الإسلاموفوبيا يأتي من مصادر موالية لإسرائيل أو الصهيونية.
إن التعريف الذي يتبناه “التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست” حول “معاداة السامية”، والذي يُعتبر على نطاق واسع ميثاقًا مصممًا بالأساس لإسكات الانتقادات الموجهة لـ”إسرائيل”
مواجهة ثقافة الإلغاء
مما لاشك فيه أن “إسرائيل” هي المسؤولة عن ترويج الإسلاموفوبيا في جميع أنحاء العالم. وتعدّ سياسة التطهير العرقي التي تمارسها ضد الفلسطينيين موثقة جيدًا، وممارساتها العنصرية التي تمنح اليهود امتيازات على حساب العرب الفلسطينيين محميّة بالقانون.
في المقابل، يُتّهم كل من يعادي هذا النظام المقيت ويُطلق هتافات مثل “فلسطين حرة”، بكراهية اليهود. إن التعريف الذي يتبناه “التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست” حول “معاداة السامية”، والذي يُعتبر على نطاق واسع ميثاقًا مصممًا بالأساس لإسكات الانتقادات الموجهة لـ”إسرائيل”، يعدّ من ركائز الاستراتيجية اليمينية.
ذلك أن غير اليهود الذين يتعاطفون مع “إسرائيل”، يتهمون اليهود المتحالفين مع اليسار والقضية الفلسطينية بأنهم معادون للسامية. ويعني الخلط بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية أن أي انتقاد للسياسات الإسرائيلية يصبح شكلا من أشكال العنصرية.
مع انتهاء الحملة على غزة، ستستمر أجندة المنصات الإخبارية، التي لا يتم فيها التطرق للغارات الإسرائيلية، ويتم تجاهل الاستيلاء الإسرائيلي غير القانوني على الأراضي الفلسطينية، وتحويل الانتباه نحو أولئك الذين أعربوا عن معارضتهم لإسرائيل. نتيجة لذلك، ينبغي على النشطاء الفلسطينيين الذين نجحوا في تحطيم “الحصانة الإسرائيلية” في الغرب أن يستعدوا الآن لمواجهة ثقافة الإلغاء.
المصدر: ميدل إيست آي