لم يكن قرار مجلس الأمة الكويتي “البرلمان”، الصادر مؤخرًا، بالموافقة مبدئيًا على “تغليظ عقوبات التطبيع مع إسرائيل”، هو الأول من نوعه في مسيرة دعم الدولة الخليجية لفلسطين، شعبًا وقضيةً، فالعلاقات بين البلدين الممتدة لأكثر من 85 عامًا تؤصل لعقيدة سياسية راسخة داعمة للقضية الفلسطينية على طول الخط، ومناهضة للتوغل الإسرائيلي.
رئيس البرلمان مرزوق الغانم، في بيانه الذي تلاه خلال الجلسة التي عقدت الخميس 27 من مايو/أيار الحاليّ، لمناقشة العدوان الإسرائيلي على غزة، أفاد بـ”الموافقة من حيث المبدأ على تعديلات بتشديد العقوبات وسد الثغرات، على قانون حظر التعامل أو التطبيع مع الكيان الصھيوني”، باعتبار أن ذلك يعد “رسالة جديدة بثبات الموقف الكويتي والتقاء الحكومة ومجلس الأمة، على الإدانة الشديدة والرفض التام للعدوان الصھيوني الأخير وكافة جرائم الاحتلال في القدس وقطاع غزة والضفة الغربية والداخل الفلسطيني”.
مجلس الأمة الكويتي أكد في الوقت ذاته على “التضامن الدائم مع نضال الشعب الفلسطيني لنيل حقه الطبيعي في إقامة دولته المستقلة وعاصمتھا القدس الشريف”، موجهًا التحية للمرابطين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، معربًا عن خالص الدعم والتأييد لحق الشعب الفلسطيني في استرداد كل حقوقه، بحسب البيان.
وتمتلك الكويت رصيدًا وطنيًا مشرفًا من الدعم الكامل للقضية الفلسطينية، فمواقفها الراسخة تأبى إلا أن تنتصر لثوابتها الوطنية الداعمة لحق الشعب الفلسطيني منذ النكبة وحتى اليوم، ورغم المطبات التي واجهت تاريخ علاقاتها مع فلسطين، فإن ذلك لم يثنها عن عقيدتها الثابتة في هذا الشأن مهما كانت الضغوط الإقليمية والدولية.
علاقات تحت الانتداب
تمتد العلاقات بين البلدين إلى ثلاثينيات القرن الماضي، حينها كانا تحت الانتداب البريطاني، وفي عام 1936 طلب أمير الكويت وقتها، الشيخ أحمد الجابر الصباح، من المفتي العام للقدس، الحاج أمين الحسيني، بأن يرسل له بعثة من المعلمين الفلسطينيين لتطوير منظومة التعليم في البلد الخليجي، وبالفعل استجاب وأرسل عددًا من كبار معلمي فلسطين، فيما تم الاتفاق على دفع رواتبهم مناصفة بين الحكومة الكويتية والمجلس الإسلامي الفلسطيني الأعلى.
كان عدد الفلسطينيين في الكويت في ذلك الوقت ليس كبيرًا، مقتصرًا على عدد من العائلات التي يمكن عدها على أصابع اليد الواحدة، لكن مع النكبة عام 1948 بدأت أعداد كبيرة من الشعب الفلسطيني في التدفق للكويت بجانب دول أخرى كمصر والأردن والعراق، وهي الدول التي فتحت أبوابها لآلاف الشباب الباحثين عن عمل.
رغم حالة التوتر التي شهدتها العلاقات بين البلدين بين الحين والآخر، فإن ذلك لم يثن الكويت عن التزاماتها تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته التاريخية، فكان الدعم على كل المسارات الشعبية والمجتمعية
معدلات التدفق زدات تباعًا بعد نكسة 1967 وواصلت تدفقها حتى بعد نصر أكتوبر/تشرين الأول 1973 ليشكل الفلسطينيون مع بداية التسعينيات الجنسية الكبرى في خريطة القوى العاملة الأجنبية في الكويت، بإجمالي أعداد بلغت 400 ألف شخص، بما نسبته 20% من عدد سكان البلاد البالغ عددهم في ذلك الوقت مليوني نسمة.
وطيلة هذه الفترة واصلت الكويت تقديم كل أشكال الدعم المالي والسياسي للفلسطينيين، فكانت أحد الأعمدة الرئيسية في الزود عن القضية ورفض أي مساع للتقريب مع دولة الاحتلال، هذا بجانب تكثيف الجهود الدبلوماسية خلال تلك المرحلة لنصرة القضية الفلسطينية في المحافل الإقليمية والدولية.
وكانت الكويت المحطة الأولى لتأسيس حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” بين عامي 1957 و1958، وذلك حين شهدت اللقاء الشهير بين ياسر عرفات وخليل الوزير، لتنطلق من الدولة الخليجية أولى لقاءات واجتماعات تلك الحركة، ليتبع ذلك العديد من الفعاليات التي كانت تستهدف تدشين أرضية وطنية خالصة لمناهضة الاحتلال.
حرب الخليج.. توتير للأجواء دون إخلال بالثوابت
شكلت حرب الخليج الثانية 1990 مرحلة فاصلة في مسيرة العلاقات بين الكويت وفلسطين، لا سيما بعد دعم منظمة التحرير الفلسطينية للرئيس العراقي الراحل صدام حسين، في غزوه للكويت، هذا بخلاف زيارة ياسر عرفات لبغداد في أثناء تلك الحرب، وتأكيده دعم الشعب الفلسطيني والمنظمة لحق العراق في تحركه الأخير.
أثار هذا الموقف حفيظة الكويتيين بشكل كبير، ما انعكس بصورة كبيرة على وجود الجالية الفلسطينية في الدولة الخليجية، وفي فترة قصيرة جدًا اضطر ما يقرب من 200 ألف فلسطيني لمغادرة الكويت فورًا، بعدما وصلت العلاقات بين البلدين إلى منعطف وعر، هذا بخلاف حالة القطيعة بين حكومتي البلدين.
لم يكن الموقف الفلسطيني إزاء حرب الخليج هو العامل الوحيد وراء توتر العلاقات، فحالة الجفاء تلك تعود إلى الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 التي أثير وقتها تورط الفلسطينيين فيها، ما تسبب في تعزيز المخاوف لدى المجتمع الكويتي من تغلغل لنفوذ الفلسطينيين في بلادهم، ما قد يهدد التماسك الداخلي الذي اهتز كثيرًا بعد حل مجلس الأمة عام 1986.
ورغم حالة التوتر التي شهدتها العلاقات بين البلدين، فإن ذلك لم يثن الكويت عن التزاماتها تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته التاريخية، فكان الدعم على كل المسارات الشعبية والمجتمعية، بعيدًا عن منظمة التحرير والحكومة الفلسطينية، وهو ما تم توثيقه في عشرات الكتب والتقارير الإعلامية والسياسية التي أرخت لتلك الفترة.
الموقف الكويتي التاريخي الداعم للقضية الفلسطينية، رغم الضغوط الممارسة سياسيًا.. يُسقط يومًا تلو الآخر الأقنعة المزيفة عن وجوه العديد من الأنظمة والحكومات المحيطة
اعتذار مقبول وعودة للعلاقات
“المسامحين غلبوا الصالحين”.. يعكس هذا المثل الفلسطيني الموقف الكويتي الداعم على طول الخط للقضية الفلسطينية رغم التوتر الذي شاب العلاقات بسبب الموقف من حرب الخليج، لتعود مجددًا أجواء الدفء بعد قرابة 12 عامًا على هذا الموقف، إثر الاعتذار الذي قدمه محمود عباس “أبو مازن” للكويت عام 2004 بعد توليه السلطة الفلسطينية.
تقبل الكويتيون الاعتذار بصدر رحب، لتطوى صفحة الأجواء المعكرة بين البلدين وتبدأ صفحة جديدة من العلاقات تقوم على أساس الدعم الكامل للقضية الفلسطينية، ماديًا وسياسيًا، وهو ما توثقه عشرات الاتفاقيات التي وقعها الجانبان خلال العقدين الماضيين، وأسهمت كثيرًا في صمود الفلسطينيين في مواجهة حملات الخنق المتواصلة ضدهم.
ومنذ العام 2012 بدأ الفلسطينيون يعودون للكويت مرة أخرى، ليصل عددهم اليوم قرابة 80 ألف شخص، فيما تم إعادة فتح السفارة الفلسطينية في الدولة الخليجية بعد غلق دام قرابة ربع قرن، فيما أبرم الجانبان اتفاقية لتعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، وتعزيز المشاورات السياسية في سبتمبر/أيلول 2014.
ويعد عام 2017 علامة فاصلة في مسيرة الدعم الكويتي للقضية العربية الأم، وذلك حين هاجم رئيس مجلس الأمة الكويتي، مرزوق الغانم، الوفد الإسرائيلي، خلال المؤتمر الـ137 للاتحاد البرلماني الدولي، الذي انعقد في أكتوبر/تشرين الأول عام 2017، بمدينة سانت بطرسبورغ الروسية.
رفض صفقة القرن ومناهضة التطبيع
في 8 من فبراير/شباط من العام 2020 ألقى رئيس مجلس الأمة الكويتي بنسخة من “صفقة القرن” داخل سلة النفايات خلال حضوره المؤتمر الطارئ للاتحاد البرلماني العربي المنعقد في العاصمة الأردنية عمان، هذا في الوقت الذي كانت تهرول فيه العديد من القوى الإقليمية لتمرير هذا المخطط المدعوم من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
أعاد هذا الموقف – رغم الصمت الرسمي – الحديث مجددًا عن الموقف الكويتي الرافض للتطبيع مع دولة الاحتلال، مؤكدًا مقولة أن “الكويت آخر دولة ستطبع مع إسرائيل”، فيما فُتح الباب أمام العديد من التحركات المجتمعية والثقافية الداخلية للتعبير عن رفضها لتلك الصفقة.
ففي 14 من أغسطس/آب 2020 أصدرت عدد من القوى والتكتلات السياسية الكويتية بيانًا مشتركًا أكدوا فيه رفضهم الكامل لأي تقارب مع تل أبيب دون حصول الشعب الفلسطيني على كامل حقوقه، وبعد ذلك بيومين أعلنت قرابة 16 رابطة كويتية استنكارها للتطبيع، فيما وقع 41 نائبًا (من أصل 50) في البرلمان الكويتي، على بيان أكدوا من خلاله رفضهم لأي تراجع عن التزام حكومة بلادهم بقضية العرب والمسلمين الأولى (القضية الفلسطينية)، تزامن ذلك مع تحرك شعبي على منصات التواصل الاجتماعي من خلال وسم #كويتيون_ضد_التطبيع.
وفي المجمل فإن الموقف الكويتي التاريخي الداعم للقضية الفلسطينية، رغم الضغوط الممارسة سياسيًا من الكثير من القوى الإقليمية والدولية، بجانب الثمن المتوقع أن تدفعه الدولة جراء هذا الموقف، يُسقط يومًا تلو الآخر الأقنعة المزيفة عن وجوه العديد من الأنظمة والحكومات المحيطة التي هرولت للتطبيع مع الاحتلال دون مقابل، تطبيع مجاني يفضح تعدد الأجندات الإقليمية بعيدًا عن شعارات دعم الفلسطينيين التي رفعتها تلك الأنظمة لتبرير خطوتها التي وصفها الشارع العربي بـ”العار”.