في مارس/آذار الماضي أعلنت مصادر سودانية تقديم الإمارات لمبادرة من أجل التوسط بين إثيوبيا والسودان لحل النزاع الحدودي بينهما، كانت المعلومات الأولية عن تلك المبادرة مجهولة بنسبة كبيرة، وبعد شهر من عرضها، وفي منتصف أبريل/نيسان كشف قيادي رفيع في التحالف السوداني الحاكم “الحرية والتغيير” أن الإماراتيين عرضوا إقامة مشروع استثماري كبير فوق أراضي الفشقة بعد تقسيمها بين أبو ظبي والخرطوم وأديس أبابا بنسبة 40% للسودان و40% للإمارات و20% للمزارعين الإثيوبيين، مقابل سحب القوات المسلحة بعيدًا عن تلك المنطقة.
وفي مايو/آيار الحاليّ قالت مصادر داخل مجلس السيادة السوداني إن الإمارات أخطرت الخرطوم رسميًا بسحب مبادرتها لحل النزاع الحدودي بين مع أديس أبابا، ليكشف النقاب عن معلومات جديدة بشأن تلك المبادرة أبرزها قالت إن الإماراتيين طلبوا الانتفاع بالمنطقة المتنازع عليها على سبيل الاستثمار الزراعي لما يقرب من 99 عامًا.
وعلى الجانب الآخر كشفت ردود فعل الإعلام الإثيوبي حيال المبادرة رفضها من الأساس، فيما كان النقاش مستمرًا على الجانب السوداني، الذي توجس خيفة من مآلات المبادرة التي تحولت بحسب وصف الكثير من المحللين السودانيين “مشروع استثماري لتعزيز النفوذ الإماراتي في إفريقيا”.
ويعد الرفض السوداني لتلك المبادرة فشلًا جديدًا لمخطط أبناء زايد في إفريقيا، يضاف لسلسلة الانتكاسات التي تعرضوا لها خلال الآونة الأخيرة لا سيما في القرن الإفريقي، لتواصل الدولة صاحبة الحضور الملحوظ خلال العقد الأخير مسلسل إهدار نقاط النفوذ شيئًا فشيئًا، الأمر الذي يقوض قوتها الفاعلة في العديد من الملفات الحساسة التي كان لها السبق فيها.
نزيف النفوذ
تلقت الإمارات العديد من اللكمات الموجعة في خريطة نفوذها داخل منطقة القرن الإفريقي تحديدًا بعد النجاحات التي حققتها خلال الأعوام الماضية، فقد استطاعت بسط سيطرتها على معظم موانئ إفريقيا المطلة على البحر الأحمر، وذلك عن طريق شركة “موانئ دبي” المستخدمة كرأس حربة في تلك المهمة.
فمنذ 2018 وحتى اليوم تتعرض أبو ظبي لخيبات متتالية في مشاريعها الاستثمارية في تلك المنطقة، البداية كانت مع جيبوتي، حين أعلن الرئيس إسماعيل عمر جيلي في فبراير/شباط من العام ذاته إنهاء بلاده عقدًا مع موانئ دبي لتشغيل محطة “دوراليه” للحاويات لمدة 50 عامًا.
القرار كان بمثابة الصدمة للإماراتيين الذين كانوا يعولون كثيرًا على هذا الميناء في دعم مخططهم التوسعي في القرن الإفريقي، وسرعان ما جاءت الضربة الثانية حين ألغت جيبوتي اتفاق الجمارك الذي كان يقضي بأن تدير الإمارات وتطور الأنظمة والإجراءات لجمارك جيبوتي وتطور العمليات الجمركية ونظام وإجراءات التفتيش، ما يعني فرض كامل سيطرتها على واحد من أهم موانئ القارة.
نزيف النفوذ الإماراتي لم يتوقف عند حاجز خسارة العديد من المشروعات الاستثمارية التوسعية في موانئ القارة البحرية وخريطة جماركها المتنوعة، بل تعدى ذلك إلى تقزيم دورها في العديد من الملفات الإقليمية الحساسة التي كانت تلعب محوريًا في تحريكها قبل سنوات
ومن جيبوتي إلى إريتريا، حيث قررت الإمارات بشكل مفاجئ تفكيك قاعدتها العسكرية في ميناء عصب بإريتريا وسحب قواتها ومعداتها وتدمير البنية التحتية التي شيدتها بمئات الملايين من الدولارات، رغم العقد الموقع بشأن استئجار الميناء والمطار المطلين على البحر الأحمر لمدة 30 عامًا.
وفي أواخر 2019 انهار الضلع الثالث للنفوذ الإماراتي في القرن الإفريقي حين صوت البرلمان الصومالي بالأغلبية لإلغاء الاتفاق الذي وقع مع أبو ظبي في 2017 لإدارة ميناء بربرة، بقيمة 440 مليون دولار، بهدف إدارة وتطوير الميناء، كما ألغيت العديد من الاتفاقيات الأمنية والعسكرية التي أبرمت بين البلدين لتعزيز الحضور الإماراتي في هذه المنطقة.
تقزيم التأثير والحضور
نزيف النفوذ الإماراتي لم يتوقف عند حاجز خسارة العديد من المشروعات الاستثمارية التوسعية في موانئ القارة البحرية وخريطة جماركها المتنوعة، بل تعدى ذلك إلى تقزيم دورها في العديد من الملفات الإقليمية الحساسة التي كانت تلعب دورًا محوريًا في تحريكها قبل سنوات، ويعود ذلك إلى ميكافيللية أبناء زايد في تنفيذ أجندتهم بصرف النظر عن العديد من الأبعاد الأخرى.
فعلى مستوى الملف الليبي، تراجع الحضور الإماراتي بشكل كبير لا سيما بعدما باتت الرؤية الإماراتية تمثل خطرًا يهدد الأمن القومي المصري، الحليف الأبرز لأبو ظبي في هذا الملف، فقد رأت القاهرة في دعم أبناء زايد المستمر للواء متقاعد خليفة حفتر خطرًا يحدق بها ويورطها في مستنقع ربما يكلفها الكثير، ما دفعها للابتعاد عن هذا المسار كثيرًا.
الأمر ذاته حيال الملف اليمني، إذ حرصت الإمارات على دعم نفوذها في الشريط البحري المائي لليمن، والسيطرة على الموانئ والشواطئ والجزر التي تطل على البحر الأحمر، بصرف النظر عن الأهداف المحددة سلفًا من التحالف الذي تقوده السعودية، ما أدى إلى نشوب خلافات جوهرية مع الرياض في الهدف من الحرب المعلنة على اليمن منذ 2015، ما تسبب في النهاية بوضع المملكة في مرمى الانتقادات الدولية.
جاء التقارب المصري التركي الذي بدت إرهاصاته مؤخرًا في صورة اتصالات دبلوماسية مكثفة وتنسيق استخباراتي وأمني في عدد من الملفات أبرزها الملف الليبي، مختتمًا بقرب تبادل الزيارات بين مسؤولي البلدين، ليضع حجر عثرة جديد أمام النفوذ الإماراتي في المنطقة
كذلك الأزمة الخليجية الأخيرة التي اندلعت في 5 من يونيو/حزيران 2017، حيث كان للإمارات دور محوري في الإبقاء عليها طيلة هذه المدة، معرقلة أي تحركات من شأنها حلحلتها وإنهاء هذا الخلاف رغم الجهود المبذولة لا سيما من الرياض والدوحة، غير أن النجاح في طي تلك الصفحة على هامش قمة العلا الخليجية الأخيرة، كان بمثابة الصفعة التي تلقتها أبو ظبي، كاشفة تضاؤل تأثيرها الإقليمي.
ثم جاءت الحرب الإسرائيلية الأخيرة ضد قطاع غزة، والمقاومة الفلسطينية الباسلة التي كبدت المحتل الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات، لتسقط القناع عن وجه الإمارات المزيف حيال دعم القضية الفلسطينية، وهو الشعار الذي رفعته لتبرير اتفاق التطبيع الذي أبرمته مع “إسرائيل” منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، ليجد الإماراتيون أنفسهم خارج المشهد جملةً وتفصيلًا.
تركيا ومصر.. كلمتا السر
يرجع خبراء تراجع النفوذ الإماراتي، سواء في إفريقيا أم الشرق الأوسط، إلى تنامي الدور المصري والتركي في هاتين المنطقتين، فقد نجحت أنقرة في إقامة علاقات جيدة وشبكة تحالفات قوية مع العديد من الدول الإفريقية على رأسها الصومال وإريتريا وجيبوتي ومعها السودان، وتنوعت سبل التعاون بين تلك الدول لتشمل المجالات العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية.
يذكر أن أنقرة نجحت في توسعة حضورها داخل القارة السمراء من خلال وكالة “تيكا” الاقتصادية التابعة لمجلس الوزراء، حيث وضعت خطة لتطوير القطاع الزراعي في 13 دولة إفريقية، هذا بخلاف الاتفاقيات العسكرية والأمنية الأخرى التي منها تدشين موانئ وإدارة قواعد عسكرية وغير ذلك من أدوات تعزيز الحضور التركي.
وفي الجهة الأخرى عادت القاهرة بصورة نسبية إلى عمقها القاري مرة أخرى، وبصرف النظر عن دوافع تلك العودة، إلا أنها أغلقت الكثير من النوافذ أمام التمدد الإماراتي لا سيما في خاصرة مصر الجنوبية، بعدما تبين للجميع خطورة ما تعبث به الأيادي الإماراتية في تلك المناطق الحيوية التي تهدد الأمن القومي المصري، هذا بخلاف الموقف المتخاذل والمريب حيال ملف سد النهضة الذي أثار غضب الشارع المصري مؤخرًا.
ثم جاء التقارب المصري التركي الذي بدت إرهاصاته مؤخرًا في صورة اتصالات دبلوماسية مكثفة، وتنسيق استخباراتي وأمني في عدد من الملفات أبرزها الملف الليبي، مختتمًا بقرب تبادل الزيارات بين مسؤولي البلدين، ليضع حجر عثرة جديد أمام النفوذ الإماراتي في المنطقة، ويجرد الدولة الخليجية من الكثير من أدوات تنفيذ أجندتها الإقليمية التي كانت تتغذى بشكل رئيسي على إذكاء الخلاف بين دول المنطقة.
وهكذا يستمر نزيف نقاط القوة والنفوذ الإماراتي في المنطقة جيوسياسيًا، وتراجع حضورها الإقليمي حيال الكثير من الملفات التي كانت تقوم بدور البطولة فيها، ليدفع أبناء زايد ثمن ميكافيلليتهم المفرطة، وأجندتهم التي تركز على توسعة النفوذ على حساب مصالح وأمن الدول الأخرى، بما فيها الحلفاء، لتسقط ورقة التوت عن الشعارات المزيفة التي ترفعها الدولة الخليجية التي دومًا ما تصدر نفسها بأنها دولة التسامح والإنسانية.