بعد أن انتهى العدوان الأخير استفاق أهالي غزة على هول صدمة جديدة، حيث الشوارع مدمرة والركام في كل مكان والطرق مغلقة، وكأن غزة ضربها زلزال.
صورة استنهضت فيهم همة الشباب ودفعتهم للنزول إلى الشوارع، لتنظيف المدينة وإعادة الحياة من جديد لشوارعها، رافعين شعار “حنعمرها”.
تحدٍّ للاحتلال
“لقد عشنا الحرب بكل تفاصيلها البشعة، وكنت في كل لحظة أدرك أن الاحتلال يريد أن يقتلنا جسديًّا ومعنويًّا، لذلك أنا عن نفسي كنت مع كل صوت صاروخ أسمعه يحلق، أود النزول إلى الشارع بعد انتهاء الحرب لأساعد بأي شكل من الأشكال في إعادة الحياة لمدينتنا”، تقول ياسمين مهنا (23 عامًا) الحاصلة على درجة بكالوريوس في إدارة الأعمال.
تشارك ياسمين مع زملائها في حملة “حنعمرها”، وتساعد في تنظيف حي الرمال وسط مدينة غزة. تحدثنا وهي تزيح الركام إلى جانب الطريق، وتشير الى مكنسة بيدها: “هذا هو سلاحي أتحدى به “إسرائيل” التي أرادت تخريب بلدي، ولكن أنا وكل فلسطيني، كبارًا وصغارًا، نساء ورجالًا، نقف لنعمرها وننظفها وسنعيدها أجمل مما كانت عليه”.
أما صديقتها أسيل ياغي (23 عامًا)، فعلى الرغم من أنها تحارب على جبهة أخرى من خلال تدريبها كمحامية في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، إلا أنها استقطعت وقتًا للمشاركة في الحملة ونزلت إلى الشارع.
تقول: “أنا متطوعة في أكثر من فريق شبابي من أيام الجامعة، وحسب ما أعتقد فإن خدمة المجتمع لا تقل أهمية عن عملي كمحامية، لذلك رسالتي اليوم للاحتلال أنهم مهما دمروا سنعيد غزة أجمل مما كانت بسواعدنا نحن الشباب، الذي يراهن الاحتلال على جعلنا نكره البلد ونخاف من العيش فيها ونهاجر منها”.
وتوجه أسيل رسالتها إلى كل جيل الشباب قائلة: “جيلنا قادر على فعل أي شيء، مهما خربوا هذه البلد سنعمرها، ويجب أن نثبت للاحتلال تمسكنا بأرضنا ونعمر الرمال وبيت حانون وشارع الوحدة ورفح، وكل شبر دمروه سنعمره من جديد”.
البركة في الشباب
من داخل مدرسة بشير الريس، التي تعرضت لقصف مبنى مجاور لها، يحاول أحمد الكحلوت (27 عامًا) أن يحمل على كتفه حجارة كبيرة الحجم، ليضعها جانبًا في محاولة لتسهيل مهمة البلدية في إزالة الركام، ويشير إلى أنه جاء للمشاركة في “حنعمرها” برفقة عشرات الشباب الأعضاء في حملة الإحسان التطوعية.
ويقول: “جئنا لنثبت للعالم كله أن الخيرة والبركة في الشباب، وأن الحروب لا تزيدنا إلا تمسكًا بأرضنا، وكلنا على اختلاف توجهاتنا ودراستنا نزلنا إلى الشارع لنساعد بأي شكل في تعمير غزة من جديد”.
ويضيف: ” شملت حملة “حنعمرها” الشوارع والمدارس والجامعة والمؤسسات والأسواق والمباني، وأي منطقة تعرضت للدمار والقصف سنعمرها”.
صورة غزة للعالم
أما الناشط الشبابي أحمد حجازي (24 عامًا) قرر أن يكون له دور مختلف عبر هاتفه المحمول، الذي يتنقل به ويصور أنشطة الحملة وينشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، ويرسلها للصحف العربية والدولية والمواقع الإلكترونية داخل وخارج غزة.
يقول أحمد لـ”نون بوست”: “أي حملة أو أي مبادرة في البلد لها نتائج إيجابية كبيرة لا تقتصر فقط على تنفيذ أهدافها المباشرة، وإنما أيضًا تنقل صورة إيجابية عن المجتمع للعالم الخارجي، وهذا ينطبق على حملة “حنعمرها” التي أحاول عبر نشر صورها التأكيد للعالم أننا نفدي فلسطين بأرواحنا وبدمنا وبجهدنا وبوقفتنا، ومهما خرّب الاحتلال فيها سنعمرها”.
ويضيف: “الحرب ليست فقط صور شهداء ومصابين وبيوت مدمرة، الحرب أيضًا صور الصمود وتحدي الاحتلال وآلياته العسكرية حتى لو بكاميرا ومكنسة. فهذه الحملة هدفها تعزيز الروح المعنوية للناس وإظهار ذلك للعالم”.
وعن أجمل الصور التي التقطها، يصف صورة يظهر فيها مشاركون من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهم على الكرسي المتحرك ينظفون الأرض بالمكانس، وصور لأطفال بعمر الزهور أيضًا يساعدون في التنظيف، وصورة أخرى لأم مع بناتها الأربعة يشاركن في الحملة، وجميعهم هدفهم واحد هو النزول يوميًّا إلى الشارع حتى تعود غزة أجمل مما كانت عليه.
همنا واحد
ورغم أن عائلة فارس عبد الجواد (25 عامًا) تضررت بشكل مباشر من القصف الإسرائيلي، حيث تم تدمير شاليه العائلة، إلا أنه فضّل النزول إلى الشارع والمساهمة في حملة “حنعمرها”.
يقول: “الشاليه في النهاية مغلق ويحتاج شغلًا كثيرًا وصيانة، لكن الشارع هو حياتنا وروحنا وطريقنا، ونحن بكل ذهاب وإياب تأثر مشاهد الركام على نفسيتنا، لهذا أرى أن تعمير الشارع أولوية”.
ويضيف فارس الذي يعمل في إحدى شركات الإنتاج الإعلامي في غزة: “الجميل في حملة “حنعمرها” أنه كلنا ننزل كل يوم كبارًا وصغارًا، إلى المناطق التي نسكن فيها أو إلى مناطق أخرى، حتى أن بعضنا يتغيب عن عمله للمشاركة في الحملة، وبعضنا يرجع من عمله وينزل الشارع مباشرة دون أخذ قسط من الراحة، لأن همنا واحد هو أن تعود غزة كما كانت بأسرع وقت ممكن”.
ويشاركه الوجع محمد أبو حصيرة (22 عامًا)، حيث تم تدمير منزل عائلته في منطقة السودانية شمال غزة، ويقول: “رغم الضرر الذي أصاب بيتنا، إلا أن مشاركتي في حملة “حنعمرها” تأتي بناءً على شعوري بالمسؤولية الاجتماعية، والحمد لله نحن خسرنا بيتنا فقط لكن غيرنا خسر أرواحًا، لذلك كل شيء يهون أمام ترميم الشوارع ومساعدة أصحاب المحال التجارية والمنازل المدمرة، لنقول لهم نحن جميعًا معكم وهذا الوجع سنتخطاه مع بعضنا”.
ومن المنطلق ذاته نزل أبو محمد الكحلوت (65 عامًا) رغم سنه ليشارك في الحملة، ويقول: “هذه مدينتنا عشت فيها الانتفاضة وعدة حروب، وكل مرة كنا نراهن رغم كل ما يحصل فيها من دمار أننا سنعيدها أجمل من ذي قبل، واليوم أيضًا سنعمرها طالما هناك روح وإرادة وعمر ونَفَس داخلنا، سنخدم مدينتنا حتى آخر دقيقة، لأن الاحتلال يراهن على أننا سنفقد الامل ونتركها، لكننا سنبقى فيها كبارًا وصغارًا. سنساعد وندعم ونقف بجانب بعضنا حتى تعود غزة أجمل”.
أكثر من 4 آلاف مشارك
يصف حسني مهنا، مسؤول الإعلام في بلدية غزة، الحملة بأنها أكبر حملة تطوعية في قطاع غزة المحاصر، أطلقتها بلدية غزة لتنظيف شوارعها وإزالة آثار العدوان الإسرائيلي الأخير.
يقول: “تهدف هذه الحملة إلى إظهار آثار الدمار الذي حل في مدينتنا بسبب الحرب والتأكيد على أهمية المشاركة المجتمعية الواسعة، سواء من أفراد أو مؤسسات أو هيئات أو فصائل، من أجل إزالة آثار العدوان وإعادة الحياة للمدينة من جديد”.
ويضيف مهنا، وهو المنسق الإعلامي للحملة: “بعد نجاح الحملة والتفاعل الكبير الذي شهدته خلال الأيام الماضية منذ انطلاقها قبل اسبوع، سيتم تعميم التجربة على كافة مدن ومحافظات القطاع من خلال البلديات”.
ويشير إلى أن القائمين على الحملة توقعوا في البداية أن حجم المشاركين لن يتجاوز الألف مشارك، لكنهم تفاجؤوا بحجم مشاركة فاقت الـ 4 آلاف مشارك خلال اليوم الأول فقط، من مختلف الأعمار ومختلف المؤسسات والفرق الشبابية والتطوعية والرياضية، حيث كان يفترض أن تستمر الحملة لأسبوع واحد ولكن بعد هذه المشاركة غير المتوقعة قررت البلدية تمديدها لأسبوعين قادمين.
ويؤكد مهنا أن هدف الحملة ليس فقط المشاركة في التنظيف وإزالة آثار العدوان، وإنما هدفها أوسع ويمتد إلى تعزيز دور المجتمع في عملية إعادة البناء وتجميل مدينة غزة كما كانت وأفضل، وتعزيز المشاركة المجتمعية من خلال هذه الحملة وإرسال رسائل للمجتمع المحلي والعربي والدولي أن الشعب متّحد في مواجهة العدوان الإسرائيلي، بالإضافة إلى رسالة تحدٍّ وصمود أنهم سيبقون على هذه الأرض ولن يغادروا، مهما شن الاحتلال حروبًا، فتمسكهم بأرضهم يزيد يومًا بعد يوم.
وعلى الرغم من أن غزة تنتظر حاليًّا التحرك لتنفيذ حملة لإعادة الإعمار بشكل عام بدعم عربي ودولي، إلا أن حملة “حنعمرها” وغيرها من المبادرات التطوعية والشبابية، ما هي إلا رسالة للعالم أن غزة كطائر العنقاء تبني نفسها من رمادها.