من على سطح منزل عائلة القصرواي المبني منذ أكثر من 200 عام على الطراز العثماني في قلب الخليل القديمة، يستطيع الناظر أن يميز كيف تغيرت معالم إحدى أهم المدن الفلسطينية ديموغرافيًّا واقتصاديًّا، وكيف أعاد الاحتلال هندسة قلب المدينة بما يحقق له السيطرة التامة التي يطمع لها مستوطنوه، وتدعمها أذرعه الأمنية والقانونية.
ومن على السطح ذاته، يستطيع الناظر أن يرى مستوطنًا يمارس رياضة الركض، لكنه لو أراد النزول سيجد باب المنزل مغلقًا بأمر عسكري، منذ أكثر من 20 عاماً، ولو استطاع أن يتحدى إغلاق الباب وينزل إلى الشارع، ستعاجله فورًا رصاصات الاحتلال، بجنوده ومستوطنيه.
شارع الشهداء
الذي حصل في مدينة الخليل، وتحديدًا بلدتها القديمة وامتدادها المحيط، يشابه ما يحاول الاحتلال تحقيقه في القدس المحتلة، ومسرحه الآن حي الشيخ جراح، المدخل الشمالي لمدينة القدس المحتلة والذي يبعد عن بلدتها القديمة حوالي 2 كيلومتر، ويعتبر نقطة عبور محورية لسكان المدينة، كما لأي زائر إليها.
ومنذ احتلال الحي عام 1967 والاحتلال يغرقه بالمشاريع الاستيطانية التي تهدف لتطويق البلدة القديمة في القدس المحتلة، وتحويل الحي إلى أداة ربط بين شطري المدينة، الغربي المحتل بالكامل منذ عام 1948، والشرقي المستهدف بكثافه بعمليات الاستيطان الهادفة بطبيعة الحال إلى تهجير سكانه الفلسطينيين، وإضافة نكبة جديدة إلى رصيد نكباتهم.
بالعودة إلى سطح منزل عائلة القصرواي، ما إن ترفع نظرك إلى الامتداد الذي أمامك، حتى ترى أعلى التلة المقابلة تمثالًا ضخمًا لشمعدان، تجاوره نقطة عسكرية هي واحدة من أكثر من 120 نقطة عسكرية تحيط البلدة القديمة في الخليل، وتتحكم بمفاصل حياة الفلسطينيين فيها. يطل المنزل على شارع الشهداء، لكن الإطلالة غير قابلة للتحول إلى وصول.
في عام 1958 ولد سمير القصراوي في الشارع ذاته، وعاش طفولته رفقة والده وجده اللذين امتلكا حمّام النعيم في شارع الشهداء، والذي كان محطة يرتادها زوار المدينة من قضائها ومن خارجها.
ومما توارثته الثقافة الجمعية للمدينة أن ملّاك المصالح التجارية في شارع الشهداء محسوبون على “الطبقة المريشة” في الخليل، أي الطبقة الأكثر غنى. لكنهم الآن خسروا عقاراتهم إما بالسيطرة عليها من قبل المستوطنين وإما بعدم قدرتهم على استعمالها بفعالية، سكنًا أو تجارة.
كان سمير في ريعان شبابه حين بدأ يعيش انقلاب الأحوال في الشارع الأكثر حيوية في مدينة الخليل؛ شارع الشهداء، الذي كان يعج بالناس كل صباح، بائعين وزبائن وطلابًا وعمالًا وزوارًا، هو سوق الخضار المركزي الذي كان يسوّق معظم الإنتاج النباتي لمزارعي المدينة وقضائها، والمحطة المركزية التي كانت نقطة وصل المدينة ببقية مدن الضفة الغربية المحتلة، وأيضًا سوق الدجاج وغيره من مصالح تجارية متنوعة في المدينة صاحبة الثقل الاقتصادي الأكبر في الضفة الغربية المحتلة.
عام 1968 استأجر الحاخام اليهودي موشيه ليفنغر فندق النهر الخالد المملوك لعائلة القواسمة، للاحتفال بعيد الفصح، ثم رفض أن يخلي المبنى، وكان هذا موطئ القدم الأول للاستيطان في المدينة خصوصًا، وجنوب الضفة الغربية المحتلة على وجه العموم.
ما يحصل اليوم في الشيخ جراح هي القصة ذاتها في شارع الشهداء. وما بين الشيخ جراح وشارع الشهداء تكاد القصص تتطابق.
تبعه بعد حوالي 10 سنوات بداية الاستيطان في قلب الخليل القديمة، مع تولي حزب الليكود السلطة وتسهيله لمهمة ليفنغر، وبالتحديد على مدخل شارع الشهداء، حيث المبنى المعروف لدى الفلسطينيين بـ”الدبويا”، في حين سماه المستوطنون “بيت هداسا”.
منذ عام 1980 بدأ الاحتلال يزرع أشد مستوطنيه تطرفًا في الخليل القديمة، ويقدم لهم أدوات التمكين والحماية، مقابل ممارسة سياسات التخويف والتضييق على الفلسطينيين لإنفاذ مشاريع تهجيرهم من المنطقة.
واستغل الاحتلال أن عصب اقتصاد المدينة يتركز في هذا الشارع، فعمد إلى تكرار عمليات إغلاقه بين الحين والآخر، لأيام أو لبضع ساعات، وهو الأمر الذي يعرقل سير الحياة الاقتصادية بالنسبة إلى التجار العاملين في المنطقة، كما بالنسبة إلى الزبائن الذين يقصدون الشارع لقضاء حوائجهم.
مأساة متكررة
يقول سمير إن ما يحصل اليوم في الشيخ جراح هو القصة ذاتها في شارع الشهداء. وما بين الشيخ جراح وشارع الشهداء تكاد القصص تتطابق، إلا في قدرة الناس اليوم على التصرف جمعيًّا باستخفاف أمام محاولات ترسيخ ثقافة الخوف في وعيهم، الأمر الذي يشكل ردعًا للاحتلال عن أي سلوك متهور أو دموي، كما يعيق تقدمه القانوني الذي يعتبره ذراعًا لشرعنة الاستيلاء على بيوت أهل الحي.
في حين أن غياب الجرأة الجمعية في تلك الفترة في الخليل، ومؤازرة الجيش للمستوطنين هناك في أفعالهم الدموية، راكم واقعًا يعيش فيه المستوطنون بأمان كامل، فيما يظل الفلسطيني هناك يشعر أنه تحت التهديد، في عمله وتجارته ومسكنه وحياته.
فقد اشتهرت في الخليل قديمًا قصة “روحوا” أي اذهبوا، وأصل الحكاية أن إحدى طرق جيش الاحتلال في إغلاق الشارع تتمثل في افتعال حدث، يليه ضرب لقنبلة غاز أو استنفار للجيش، ربما إطلاق رصاص في الهواء، ليقول الجيش للناس من حوله: “روحوا”.
يركض الناس في فزع، كل واحد يقول للثاني: “روحوا”، ثم يتم إغلاق الشارع لبضع ساعات أو ربما لبضعة أيام، وفي كل مرة يتم إغلاق جزء من الشارع.
منطقة عسكرية
في فجر الـ 25 من فبراير/ شباط 1994، كانت الخليل على موعد مع الحدث الذي غيّر وجهها تغيرًا حاسمًا وعنيفًا، لا يزال الناس يعيشون تحت ارتدادته إلى يومنا هذا، فقد اقتحم المستوطن المتطرف باروخ غولدشتاين المسجد الإبراهيمي أثناء صلاة الفجر التي كانت تصادف الـ 15 من رمضان، وفتح النار على المصلين أثناء سجودهم، الأمر الذي أدى إلى استشهاد ما يقارب 30 مصليًا وإصابة العشرات، ثم امتدت المواجهات بعد المجزرة خارج المسجد، الأمر الذي أوصل عدد الشهداء في ذلك الفجر إلى حوالي 50 شهيدًا.
أعلن الاحتلال الخليل القديمة منطقة عسكرية مغلقة، واستمر الإغلاق حسب روايات أهل المنطقة ما يزيد عن 40 يوماً، شمل البلدة القديمة، شارع الشهداء وتل رميدة بشكل أساسي، وهي المناطق التي ما زالت إلى اليوم الأكثر تضررًا من كل ما حصل.
بأوامر عسكرية، أغلقت معظم المحال التجارية في شارع الشهداء وتل رميدة، ما دفع أصحابها لافتتاحها من جديد في مناطق بعيدة نسبيًّا عن البلدة القديمة.
قتلَ الاحتلال الشارع الحيوي في المدينة، وحوّله إلى ميدان يسرح ويمرح فيه المستوطنون مسلحين بأسلحة نارية وأخرى بيضاء، وشهد أكثر من مرة منذ أن استوطن المتطرف ليفنغر فيه عمليات إطلاق نار ضد الفلسطينين، وهو أمر لا يزال قائمًا إلى يومنا هذا، وليست ببعيدة عنا حادثة إطلاق النار على الشاب إسلام زاهدة:
“سمعت صوت إطلاق نار، صعدت بسرعة إلى سطح المنزل، رأيت الجنود يصفّون الشاب زاهدة بالرصاص”، يقول سمير القصرواي.
اتجه سكان الشارع مرات عديدة للقضاء الإسرائيلي، والذي قضى لهم بفتح الشارع، لكن كافة الأحكام الصادرة كانت تتجمد تحت حجة أن القرار هنا عسكري.
ماذا عن القضاء؟
باب منزل سمير مغلق بأمر عسكري منذ عام 2000، وبالتالي هو يصل إلى بيته من طريق آخر رغم أن المدخل الرئيسي للمنزل في شارع الشهداء، الفارغ تمامًا من أي وجود عربي. فالعرب ممنوعون من فتح محالهم التجارية بطبيعة الحال، وأبواب بيوتهم المطلة على الشارع، ومن قيادة سياراتهم، أما المشي على الأقدام فهو غالبًا مجازفة بالحياة.
يقول سمير إن سكان الشارع اتجهوا مرات عديدة للقضاء الإسرائيلي، والذي قضى لهم بفتح الشارع، لكن كافة الأحكام الصادرة كانت تتجمد تحت حجة أن القرار هنا عسكري، وأن إعادة فتح الشارع تشكل خطرًا أمنيًّا لذا فإن إغلاقه سيستمر.
يتصل شارع الشهداء بمنطقة باب الزاوية، إحدى أكثر المناطق حيوية في مدينة الخليل، لكن بضعة أمتار، وأربعة مكعبات إسمنت، ونقطة عسكرية خلفها، كانت كفيلة بتجسيد مشهدين متناقضين، الأول أسواق وباعة وناس، والثاني شارع فارغ، مراقب بالكاميرات، معزول عن عمقه الاجتماعي والاقتصادي، بيوت يصل إليها أصحابها بتدقيق الهويات، وغالبًا ما يمنع أي شخص من خارج المنطقة من الدخول إليها إلا بتفتيش الهوية، ودخوله مرهون غالبًا بمزاج الجندي على الحاجز، الذي شهد مرات عديدة خلال الأعوام الأخيرة إطلاق النار على فلسطينيين وفلسطينيات، دون أي وجه حق.
ما وراء الحاجز، تل رميدة وشارع الشهداء من زاوية تكمل زاوية النظر من منزل عائلة القصراوي، وتشابه صورة يحاول الاحتلال تحقيقها في الشيخ جراح. فمنذ أيام يضرب الاحتلال طوقًا أمنيًّا على الحي، ويدقق هويات الداخلين إليه، فإن لم يكونوا من سكانه منعهم من الدخول، ويعمد إلى التخويف بإطلاق القنابل والرصاص واستمرار موجات القمع ضد الناشطين والأهالي، كأداة سبق له تجريبها في الخليل ولا تزال واقعًا مفروضًا منذ أكثر من ربع قرن.
يحاول الاحتلال العبث بالوعي المقدسي من خلال قهره أمنيًّا، تارة بالاعتقالات وتارة بالصور التي يحاول ترسيخها في الوعي وبالتالي في ردات الفعل، من خلال تحويل الحي لثكنة عسكرية، وتحصين جنوده بمكعبات الإسمنت المرتبطة في ذهن الفلسطيني دائمًا بالإغلاقات.
لكن الذي كان مفاجئاً له هذه المرة، أن الشباب الفلسطينيين كانوا أقدر على المواجهة مما كان عليه الحال قبل ما يزيد على 30 عاماً في الخليل.
وأصبح الجهاز القضائي يلجأ للتأجيل في البت في القضايا، أما الأذرع الأمنية فلم يعد بإمكانها فرض الأمر الواقع، بقدر ما هي تحاول فرض الخوف في وعي الناس بالاعتقالات والقمع على الأرض، وهو أمر لا يزال يثبت فشله أمام إصرار الفلسطيني على ألا يعيش النكبة مجدداً.
وبأخذ صورتين متقابلتين للمدينتين المتصلتين ببعضهما تاريخيًّا واجتماعيًّا، سنجد أن الدخول إلى المسجد الإبراهيمي كمكان مقدس يحاول الاحتلال السيطرة عليه دخول مشروط بتقييد رقم الهوية، لدى جندي يقف على بوابة إلكترونية قبل مدخل المسجد، ثم تقسيم المسجد مكانيًّا بشكل كامل، إلى جانب منع رفع الأذان فيه مرات عديدة، هذا عدا عن قلة الواصلين إليه نتيجة للظروف سابقة الذكر.
في المقابل، فإن المسجد الأقصى لا يزال يمكنك الدخول إليه دون المرور ببوابة إلكترونية، ولا يزال ناجيًا إلى الآن من كل محاولات تقسيمه مكانيًّا، فيما يشهد التقسيم الزماني ترنحًا واضحًا، خصوصًا بعد أحداث الـ 28 من رمضان.
ارتكبت السلطة الفلسطينية خطأ كارثيًّا حين وقّعت اتفاق الخليل، والذي كان الاحتلال فيه قد قدم وعدًا بإعادة فتح الشارع تدريجيًّا ما بين عامي 1997 و2000، لكنه ظل يماطل.
أما في محيطه الحيوي اجتماعيًّاً واقتصاديًّا، باب العامود والطريق الواصل بينه وبين الشيخ جراح مرورًا بالمصرارة، فلا يزال يشهد حضورًا جريئًا من الناس يحول دون فرض سيطرة عسكرية كاملة على المنطقة، كما هو الحال في شارع الشهداء، أو تل رميدة خصوصاً مع ما يتمتع به من خصوصية تاريخية يحاول الاحتلال تجييرها لصالح روايته.
وفي حين كان من الممكن أن تقطع الخليل القديمة كلها بمسافة مشي لا تتجاوز الـ 20 دقيقة، فإنك اليوم لو أردت الانتقال بين طرفي الشارع تحتاج إلى قطع مسافة تزيد على ساعة مشيًا على الأقدام، مع خطر العبور من نقاط عسكرية أو التصادف مع مستوطن مسلح قد يأتي في مزاجه في تلك اللحظة أن يطلق النار عليك بدعوى أنك تهدد وجوده.
يقول تاجر تحف يقابل محله التجاري البؤرة الاستيطانية في مدرسة أسامة بن المنقذ، ويبعد عن شارع الشهداء دقيقتين من المشي لولا الإغلاقات: “إغلاق الشارع لا يزال صدمة بالنسبة إلى الناس هنا، لم نتخيل ذلك يومًا، هل يتخيل أحد ما أن يغلق شارع تقسيم في إسطنبول مثلًا؟ هكذا كانت علاقتنا بشارع الشهداء”.
الرجل نفسه، الذي قارب الـ 60 من العمر، يقول إن السلطة الفلسطينية ارتكبت خطأ كارثيًّا حين وقّعت اتفاق الخليل، والذي كان الاحتلال فيه قد قدم وعدًا بإعادة فتح الشارع تدريجيًّا ما بين عامي 1997 و2000، لكنه ظل يماطل إلى أن أغلق الشارع بالكامل.
“كنا نصلي على موتانا في مسجد السنية أو الإبراهيمي وخلال 10 دقائق نكون في التربة (المقبرة)، اليوم نحتاج ساعة على الأقل لندفن موتانا”، يضيف القصراوي، ويتابع “2 كيلومتر كانت قادرة على ربط المدينة من شمالها إلى جنوبها، الآن لتصل من شمال المدينة لجنوبها لازم تقطع بلاد”.