بحلول العام 2007، كانت خيوط تجارة المخدرات قد تشابكت، وأصبحت الحاجة ملحة لعملية كبيرة تستهدف تلك الشبكات في أميركا الجنوبية.
وفي ذلك الوقت، وصل “حزب الله” إلى مرحلة تحوّلَ فيها من مجرد منظمة عسكرية شرق أوسطية، إلى نقابة دولية لتجارة المخدرات وغسيل الأموال والتهريب والتجارة غير المشروعة. وهكذا، قررت وكالة مكافحة المخدرات الأميركية (DEA) عام 2008 القيام بحملة كبيرة تستهدف هذه الشبكات، أُطلق عليها اسم “مشروع كاساندرا”.
في دراسة له، يقول معهد واشنطن للدراسات إن الوكالة قامت على مدى السنوات الثماني التالية بجهد كبير، لمتابعة تحركات تلك الشبكات ضمن عمليات مشروع كاساندرا.
“استخدم العملاء الذين يعملون في منشأة سرية للغاية لإدارة مكافحة المخدرات في شانتيلي، فرجينيا، التنصت على المكالمات الهاتفية والعمليات السرية والمخبرين لرسم خرائط لشبكات “حزب الله” غير المشروعة، بمساعدة 30 وكالة أمنية أميركية وأجنبية تتبعوا شحنات الكوكايين، بعضها من أميركا اللاتينية إلى غرب إفريقيا ومن هناك إلى أوروبا والشرق الأوسط، والبعض الآخر عبر فنزويلا والمكسيك إلى الولايات المتحدة. لقد تعقبوا نهر الأموال القذرة حيث تم غسلها، من بين تكتيكات أخرى، بشراء السيارات الأميركية المستعملة وشحنها إلى إفريقيا. وبمساعدة بعض الشهود المتعاونين الرئيسيين، قام العملاء بتتبع المؤامرة، حسب اعتقادهم، إلى الدائرة الداخلية ل”حزب الله” والدولة الراعية له إيران”، تقول الدراسة.
عثر عملاء إدارة مكافحة المخدرات على أدلة عن التعاون بين “حزب الله”، وكارتيلات المخدرات المكسيكية والكولومبية، ومسؤولين رفيعي مستوى في الحكومات السورية والروسية والفنزويلية.
كشفت وثائق وزارة العدل الأميركية أن “حزب الله” كان -حتى عام 2011- مسؤولًا عن غسيل أموال بقيمة تقارب نصف مليار دولار. قادت التحقيقات إلى العشرات من المسؤولين والمرتبطين بهذه العمليات، من بينهم 30 من مشتري السيارات في الولايات المتحدة، ينشطون بغسيل الأموال عن طريق البنك اللبناني الكندي.
عثر عملاء إدارة مكافحة المخدرات كذلك على أدلة عن التعاون بين “حزب الله”، وكارتيلات المخدرات المكسيكية والكولومبية، ومسؤولين رفيعي مستوى في الحكومات السورية والروسية والفنزويلية.
اشتملت الأنشطة على تهريب أطنان من الكوكايين إلى الولايات المتحدة من فنزويلا، وغسل الأموال من خلال شركات واجهة مثل تجارة السيارات المستعملة الضخمة في بنين، واستخدام البنوك الأجنبية لتخزين المعاملات وإضفاء الشرعية عليها.
وكان المحققون في مرحلة ما قريبين جدًّا من العمليات الإجرامية، لدرجة أنهم كانوا يتتبعون السعاة الأفراد أثناء نقلهم الأموال -أحيانًا تصل إلى مليوني دولار لكل حقيبة عبر إفريقيا-. لكن مسؤولي مشروع كاساندرا يقولون إنهم عندما تعمقوا في القضية واقتربوا من اعتقال أعضاء بارزين، بدأت الحواجز بالظهور أمامهم. كان مصدر تلك الحواجز: البيت الأبيض.
فتش عن باراك أوباما
مع وصول العملية إلى مستويات عالية في الحزب وإيران، صدرت أوامر تمنع تنفيذ عمليات الاعتقال، بسبب الاتفاق النووي الذي أبرمته الإدارة الأميركية مع إيران.
وفي تحقيق مطول أثار ضجة كبيرة نشرته صحيفة “بوليتيكو”، أجرت خلاله مقابلات مع عشرات المشاركين الذين تحدثوا لأول مرة عن أحداث محاطة بالسرية، وتضمنت مراجعة للوثائق الحكومية وسجلات المحكمة؛ قالت الصحيفة إنه عندما سعى قادة مشروع كاساندرا للحصول على الموافقة لبعض التحقيقات الهامة والمحاكمات والاعتقالات والعقوبات المالية، قام المسؤولون في وزارتي العدل والخزانة بتأخير طلباتهم أو إعاقتها أو رفضها.
رفضت وزارة العدل طلبات من مشروع كاساندرا وسلطات أخرى، لتوجيه تهم جنائية ضد لاعبين كبار مثل بنك لبناني يُزعم أنه غسل المليارات من أرباح المخدرات، وشخصية مركزية أخرى في خلية مقرها الولايات المتحدة تعود لفيلق القدس الإيراني، كما رفضت وزارة الخارجية طلبات لجذب أهداف عالية القيمة إلى دول يمكن اعتقالهم فيها.
في شهادات على تلك الوقائع، قال عدة مسؤولين إن هذه السياسة كانت جزءًا من استراتيجية إدارة أوباما في استيعاب إيران، حيث قال ضابط سابق في وكالة المخابرات المركزية لصحيفة “بوليتيكو”: “في وقت مبكر خلال المفاوضات، قال [الإيرانيون] إنهم بحاجة إلى فك المراقبة عن “حزب الله”، وتخفيف الضغط عنه، وامتثلت إدارة أوباما لهذا الطلب”، وأضاف: “كان قرارًا استراتيجيًّا يتعلق بإظهار حسن النية تجاه الإيرانيين فيما يتعلق بالتوصل الى اتفاق”.
كاثرين باور، المسؤولة في وزارة الخزانة في عهد أوباما، أكدت بدورها هذه الرواية في شهادة مكتوبة أمام الكونغرس، أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب: “في ظل إدارة أوباما تم إيقاف هذه التحقيقات [المتعلقة ب”حزب الله”] خوفًا من تعكير صفو إيران و تعريض الاتفاق النووي للخطر”.
كان أوباما قد تولى منصبه عام 2009، واعدًا بتحسين العلاقات مع إيران كجزء من تقارب أوسع مع العالم الإسلامي، وأثناء حملته الانتخابية أكد مرارًا وتكرارًا أن سياسة إدارة بوش للضغط على إيران لإيقاف برنامجها النووي غير المشروع لم تنجح، وأنه سيتواصل مع طهران لتقليل التوترات.
عند هذه النقطة ظهر جون برينان، مستشار أوباما لمكافحة الإرهاب، والرئيس المستقبلي لوكالة المخابرات المركزية. ذهب برينان لما هو أبعد من ذلك، وأوصى في ورقة سياسية بأن “للرئيس المقبل فرصة تحديد مسار جديد للعلاقات بين البلدين”، ليس فقط من خلال الحوار المباشر ولكن من خلال “استيعاب أكبر ل”حزب الله” في النظام السياسي اللبناني”.
وبحلول مايو/ أيار 2010، أكد برينان، الذي كان آنذاك مساعدًا للرئيس لشؤون الأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب، في خطاب ألقاه أن الإدارة كانت تبحث عن طرق لبناء “عناصر معتدلة” داخل “حزب الله”.
تُرجمت رغبة الإدارة في تصور دور جديد ل”حزب الله” في الشرق الأوسط، جنبًا إلى جنب مع رغبتها في تسوية تفاوضية لبرنامج إيران النووي.
قال برينان في مؤتمر في واشنطن: “”حزب الله” هو منظمة مثيرة للاهتمام للغاية، وإنه تطوّرَ من “منظمة إرهابية بحتة” إلى ميليشيا، وهو في النهاية حزب سياسي يملك ممثلين في البرلمان اللبناني ومجلس الوزراء. هناك بالتأكيد عناصر من “حزب الله” يشغلوننا حقًّا بما يفعلونه، وما يتعين علينا القيام به هو إيجاد طرق لتقليل تأثيرهم داخل المنظمة ومحاولة بناء العناصر الأكثر اعتدالًا”.
عمليًّا، تُرجمت رغبة الإدارة في تصور دور جديد ل”حزب الله” في الشرق الأوسط، جنبًا إلى جنب مع رغبتها في تسوية تفاوضية لبرنامج إيران النووي، في إحجام عن التحرك بقوة ضد كبار عناصر “حزب الله”، وفقًا لأعضاء مشروع كاساندرا.
علي فياض على سبيل المثال، كان أحد أعضاء الحزب الناشطين في تهريب الأسلحة، تم اعتقاله في العاصمة التشيكية براغ عام 2014، وبقي محتجزًا لمدة عامين. لم تقم الإدارة الأميركية بممارسة أي ضغوط على جمهورية التشيك لتسليمه، رغم وجود لائحة اتهامات ضده بمحاولة قتل موظفين حكوميين أميركيين وتمويل منظمة إرهابية. وهكذا، تم إطلاق سراح فياض، وعاد لترتيب صفقات تزويد الميليشيات المقاتلة في سوريا بالأسلحة الثقيلة من روسيا.
الشبح: أكبر مهرب كوكايين في العالم
يقول الموظفون في مشروع كاساندرا إن فياض ليس الوحيد الذي يتمتع بحماية الاتفاق النووي، وينضم لهذه القائمة من تسميه وكالة مكافحة المخدرات “الشبح”، ويعتبر أكبر مهرب مخدرات في العالم.
كما يقول الأشخاص المطلعون على قضيته إن الشبح كان أحد أكبر مهربي الكوكايين في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، فضلًا عن كونه موردًا رئيسيًّا للأسلحة التقليدية والكيميائية التي يستخدمها الرئيس السوري بشار الأسد ضد شعبه.
عبد الله صفي الدين، مبعوث “حزب الله” إلى إيران منذ فترة طويلة، والذي يُزعم أنه أشرف على “مكون شؤون الأعمال” التابع للحزب، والمتورط في تهريب المخدرات دوليًّا، هو شخصية أخرى تتحرك تحت رقابة الولايات المتحدة دون أن يكون هناك إجراء متخذ ضده، وعندما سعى عملاء مشروع كاساندرا ومحققون آخرون مرارًا إلى التحقيق مع عبد الله صفي الدين الذي اعتبروه العمود الفقري لشبكة “حزب الله” الإجرامية، ومقاضاته، رفضت وزارة العدل مبعوث “حزب الله”، وفقًا لـ 4 مسؤولين سابقين على دراية مباشرة بالقضايا.
أغرق “حزب الله” الولايات المتحدة وأوروبا بمئات الأطنان من المخدرات، وحصل بالمقابل على ملايين الدولارات لتمويل أنشطته في الشرق الأوسط.
كما رفضت الإدارة أيضًا الجهود المتكررة التي بذلها أعضاء مشروع كاساندرا، لاتهام الجناح العسكري ل”حزب الله” بأنه مشروع إجرامي مستمر بموجب قانون اتحادي للابتزاز على غرار المافيا، كما يقول أعضاء فرقة العمل.
وزعموا أن مسؤولي الإدارة رفضوا تصنيف “حزب الله” على أنه “منظمة إجرامية عابرة للحدود الوطنية”، وعرقلوا المبادرات الاستراتيجية الأخرى التي كانت ستمنح فرقة العمل أدوات قانونية إضافية، وأموالاً وقوة بشرية لمحاربتها.
ما هي النتيجة النهائية لكل هذا؟ أغرق “حزب الله” الولايات المتحدة وأوروبا بمئات الأطنان من المخدرات، وحصل بالمقابل على ملايين الدولارات لتمويل أنشطته في الشرق الأوسط.
لقد تحول “حزب الله” من ميليشيا تعتمد على إيران في تمويلها إلى وكالة إيرانية ممولة ذاتيًّا، بل تدرّ المال على الحرس الثوري نفسه. وفي حين تعاني حتى الدول الأوروبية من سوق المخدرات المتزايد في الاتساع، وتعاني الدول العربية من نفوذ “حزب الله” سواء في لبنان أو سوريا، تبقى إيران المستفيد الأكبر من وجود الحزب: وكيل يحمل ولاء حتى الموت لطهران.. ولا يكلف حتى سنتًا واحدًا!