وصفت العلاقة بين مصر وقطاع غزة المحاصر في السنوات الأخيرة بـ”القطيعة”، واقتصرت حينها على التدخل لوقف إطلاق النار وإعلان التهدئة عند أي جولة عسكرية مع الاحتلال الإسرائيلي، لكن اليوم قلبت الموازين بعد معركة “سيف القدس”، حيث الانفتاح المصري والعودة لتصدر المشهد السياسي في غزة.
ساعات قليلة كانت اليوم كفيلة ليتباحث فيها وفد رفيع المستوى برئاسة المخابرات المصرية اللواء عباس كامل (ممثل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي)، مع رئيس حركة حماس يحيى السنوار وفصائل المقاومة اليوم بغزة؛ 3 ملفات هامة هي تهدئة دائمة تشمل الضفة الغربية والقدس المحتلتين وقطاع غزة المحاصر، إضافة إلى ملف إعادة إعمار غزة، والتسوية السياسية بتشكيل حكومة وطنية تحظى بقبول عالمي.
وتزامنًا مع وصول الوفد المصري لغزة برفقة عدد من وزراء السلطة الفلسطينية برام الله، نصح السيسي الفلسطينيين بضرورة إنهاء الانقسام الفلسطيني، ولمّ الشمل.
وبعد مغادرة الوفد المصري وتباحثه مع السنوار تلك الملفات الهامة في هذه المرحلة، أعلن خليل الحية عضو المكتب السياسي لحركة حماس، عبر مؤتمر صحفي، أن حركته ناقشت ترتيب البيت الفلسطيني وإعادة إعمار قطاع غزة المحاصر.
ومن بين الملفات التي أشيع طرحها على طاولة التباحث المصرية الحمساوية، كان ملف تبادل الأسرى مع الاحتلال. وفي هذا السياق قال الحية: “ملف التبادل مستقل ولا نقبل ربطه بملف إعمار غزة”، موضحًا أنه تم قطع سلوك في اللقاءات قبل العدوان الأخير بفترة قصيرة، لكن الاحتلال غير جاد حتى الآن، وفي حال جديته سيتم المضي فيه سريعًا ومصر تتفهم ذلك.
زلزال سياسي إقليمي
لم تأتِ الزيارة المصرية رفيعة المستوى إلى قطاع غزة المحاصر إلا بضوء أخضر من الإدارة الأميركية، فهي تحمل دلالات في المرحلة المقبلة، وهنا يعقب الكاتب السياسي وسام عفيفة بالقول: “ليست العلاقة بين مصر وغزة بجديدة، فهي في معظم المحطات السابقة، لا سيما في جولات التصعيد مع الاحتلال الإسرائيلي، لعبت دورًا هامًّا في إطار التهدئة والتفاهمات”.
وأوضح عفيفة لـ”نون بوست” أن في هذه المحطة تحديدًا، وبعد معركة “سيف القدس” وما أحدثته نتائجها من زلزال سياسي في البعد الإقليمي والدولي، أعطي للقيادة المصرية وعلى مستوى الرئاسة مساحة لتعزيز دورها في ملف غزة، خاصة بعد التفويض الحصري من الإدارة الأميركية بمتابعة ملف تثبيت وقف إطلاق النار، لافتًا إلى أن حماس تجاوبت مع هذا التفويض وعززت دور القاهرة في مفاوضات وقف إطلاق النار.
وقال المحلل السياسي إن زيارة الوفد المصري لقطاع غزة المحاصر كانت ذا طابع رسمي، متمثلة بعباس كامل الذي جاء نيابة عن الرئيس السيسي، وهذه من المرات النادرة باعتبار ملف غزة تقوده المخابرات المصرية، لكن ما حدث اليوم كان لقاء رسميًّا وحرصت القاهرة على الحضور بمستواها الرفيع.
وأكد أن حضور مصر الرسمي سيكون له امتداداته اللاحقة، والتي ستتمثل في لقاءات تتحدد على الأقل في 3 مسارات: الأول “وقف النار” والثاني “إعادة اعمار غزة”، حيث تتجاوز مصر هذه المرة دورها. فبدل أن تكون ميسّرًا، ستفتح اليوم المجال لإعادة الإعمار بشكل متقدم ولافت.
ويشير عفيفة إلى أن المسار الثالث، وهو على صعيد العلاقات الفلسطينية، “غزة والضفة”، حيث سيكون هناك استعادة وترميم في مجال التوافق الوطني وإعادة البيت الفلسطيني مركزه إلى القاهرة، لافتًا إلى أن هذه المرة مختلفة حيث لن يكرروا الصيغة الماضية، فحماس تريد البدء من أعلى الهرم، وهو منظمة التحرير.
وفيما يتعلق بكثرة الحديث عن صفقة أسرى جديدة يريد الوفد المصري التفاوض حولها، يوضح عفيفة، وهو كاتب مقرّب من حركة حماس، أنه لم يعد سرًّا طرح ملف تبادل الأسرى على طاولة الحوار، لكن هناك قناعة مصرية أنه يمكن المضي قدمًا في كل المسارات بشكل متوازٍ دون التقدم بملف على حساب الآخر.
منظور سياسي
بات واضحًا أن مصر تستعيد دورها الإقليمي عبر بوابة غزة والملف الفلسطيني، ما يكسبها ورقة قوة لن تفرّط بها، لا سيما بعد المستجدات الأخيرة التي أدت لإعادة وهج العلاقات الأميركية المصرية، واتصال الرئيس الأميركي جو بايدن بالسيسي، فقد حصلت القاهرة على ضوء أخضر أميركي للتحرك في الشأن الفلسطيني بقوة.
كما أن زيارة رئيس المخابرات المصرية عباس كامل لأول مرة بعد توليه لمنصبه عام 2018، وهو يحمل ملفات ثقيلة لمناقشتها مع فصائل المقاومة، يدل على أن مصر رفعت مستوى تمثيلها لغزة، بعدما كان الملف عند أحمد عبد الخالق مسؤول الملف الفلسطيني في المخابرات الحربية، وفي ذلك دلالة أن مصر تتعامل مع حماس من منظور سياسي وليس أمنيًّا فقط كما كان في السابق.
وفي السياق ذاته يقول المحلل السياسي إبراهيم المدهون: “زيارة اللواء كامل تحمل في طياتها الكثير من الدلالات، وأهمها الاعتراف الدولي والإقليمي بحركة حماس ومقاومتها بعد معركة “سيف القدس”، لذا لا بد أن يكون للحركة دورًا سياسيًّا في المرحلة المقبلة”، مؤكدًا أن الزيارة استراتيجية تأتي تتويجًا لحضور حماس سياسيًّا في المنطقة.
ويرى المدهون أن بعد الدور المصري الأخير، سيكون هناك تجاوز للإشكاليات والتداخلات التي فرضها الانقسام السياسي، لا سيما بعد فشل تحقيق الانتخابات الأخيرة، مبينًا أن اليوم بات ترتيب المشهد الفلسطيني برعاية مصرية، خاصة أن هناك اعترافًا ضمنيًّا بأن عنوان الشعب بمقاومته وحركة حماس.
ويشير خلال حديثه لـ”نون بوست” أن صورة السنوار برفقة ممثل الرئيس المصري لها مدلولات هامة، فهي تحمل بعدًا سياسيًّا تجاوز كل التعقيدات مع حركة حماس.
وعن الدور المنوط لمصر في المرحلة المقبلة فيما يتعلق بقطاع غزة المحاصر، يقول المدهون: “لا بد من رفع الحصار وتسهيل حركة السفر وإحداث بدائل عن الميناء البحري والبري، بالإضافة إلى العمل على ترتيب المشهد السياسي خاصة منظمة التحرير وإشراك حماس فيها، إلى جانب العمل على إنجاح صفقة تبادل أسرى جديدة كما في عام 2011”.
ووفق رؤيته فإن مصر ستستفيد من دورها، كون الوقوف مع المقاومة سيعزز مكانتها على المستوى الدولي والإقليمي.
في النهاية يمكن وصف الموقف المصري فترة المعركة الأخيرة على قطاع غزة المحاصر أنه متقدم نسبيًّا، بخلاف موقف حماس الذي لم يتغير، ما يدلل على أن ما حدث هو اختلاف تكتيكي وليس استراتيجي، وذلك فرضته المعطيات الفلسطينية الجديدة، فمكانة مصر في المنطقة يؤهلها القيام بهذا الدور أكثر من غيرها.