لا تكل سلطات الاحتلال في مساعيها لنهب فلسطين، أرضًا وشعبًا وتاريخًا وثقافة وسردية، ولا تمل، فتواصل عمليات التهجير وطرد السكان وتستخدم كل طريقة ممكنة لأجل ذلك، وتبني المستوطنات تلو المستوطنات على كل أرض، وتحاصر الأهالي الصامدين في أحيائهم ومدنهم وتزج بمستوطنين غرباء يشاركونهم غرفهم وبيوتهم وينتهكون خصوصياتهم.
أما سياسات التهويد، فقد أتعبت المدينة المقدسة ومسجدها المبارك، وباتت الحفريات تنخر كل جدرانها وأعمدتها، بحثًا عن هياكل مزعومة وأمانيّ وأوهام تلمودية.
وبعد أن خمد الاهتمام الشعبي العربي والإسلامي بقضية فلسطين لأسباب كثيرة، لعل أهمها حالة التقوقع على الشأن المحلي بعد الربيع العربي وما تلاه من أزمات وفجائع في كل بلد نتيجة القمع الوحشي للأنظمة وموجة تطبيع مروعة شملت دولًا عربية عدة، أحيت الهبة المقدسية الأخيرة – التي جاءت نصرة لحي الشيخ جراح – القضية الفلسطينية من جديد في الوجدان العربي والإسلامي، لتعيدها إلى قلب بؤرة التركيز والاهتمام على كل المستويات محليًا وعربيًا وحتى دوليًا.
من أجل فهم أوسع لحيثيات ما يجري في أحياء القدس المحتلة من عمليات تهجير مستمرة، وفي محاولة للحفر أعمق في أسباب المشكلة – الاحتلال – وأصلها التاريخي وما يقوم عليها من سرديات يهودية، أجرى “نون بوست” حوارًا مع الدكتور عبد الله معروف، وهو أكاديمي ومؤلف فلسطيني، يعمل أستاذًا لدراسات بيت المقدس وأستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة 29 مايو في إسطنبول.
طرحنا على الدكتور معروف جملةً من الأسئلة، بدءًا من حي الشيخ جراح الذي أعاد إحياء شعلة الوعي بالقضية إلى الواجهة من جديد، مرورًا بتاريخ فلسطين والمدينة المقدسة.
دعنا نبدأ من حيّ الشيخ جراح وأحياء بلدة سلوان.. ما أهميتها؟ وما الأخطار المحدقة بواقع المدينة المقدسة حال تهجير الأهالي منها؟
حي الشيخ جراح وبلدة سلوان بالنسبة لمدينة القدس يعدان خاصرتين وحاميتين أساسيتين للبلدة القديمة والمسجد الأقصى المبارك. ذلك أنهما يشكلان نقطة الوصل بين الأحياء العربية الكبرى في شمال القدس وجنوبها من ناحية، والمسجد الأقصى المبارك والبلدة القديمة من ناحية أخرى.
أما حي الشيخ جراح فإنه يفصل من ناحية الشمال بين البلدة القديمة والأحياء العربية الشمالية الكبرى في مدينة القدس كحي العيسوية وحي شعفاط، واحتلال هذا الحي وتحويله إلى مستوطنة سيعني فصل هؤلاء السكان المقدسيين في شمال القدس بالكامل عن المسجد الأقصى المبارك والبلدة القديمة.
نفس الشيء يمكن أن يقال أيضًا عن سلوان التي تعد نقطة الوصل بين البلدة القديمة والمسجد الأقصى من ناحية، والأحياء الجنوبية الكبرى من ناحية أخرى وعلى رأسها جبل المكبر وحي الثوري وبلدة صور باهر، وبالتالي فإن السيطرة على سلوان يعني فصل أبناء تلك الأحياء بالكامل أيضًا عن البلدة القديمة والمسجد الأقصى المبارك.
هذا الأمر يعني بالطبع أن الاحتلال الإسرائيلي يحاول خنق المسجد الأقصى والبلدة القديمة، وإحاطتها بالمستوطنات من كل النواحي، فهو بالفعل يسيطر على الناحية الغربية منذ عام 1948، أما الناحية الشرقية الضيقة جدًا من ناحية جبل الزيتون ويمكنه السيطرة عليها من خلال مستوطنة رأس العامود، وهذا يعني أن الناحيتين الشمالية والجنوبية تعتبران الآن المتنفس الوحيد للمسجد الأقصى المبارك والبلدة القديمة، وسيطرة الاحتلال عليهما يعني بالضرورة خنق هذا المسجد والمدينة بعدد كبير من المستوطنات.
مؤخرًا، جرى تسليط الضوء على مأساة الشيخ جراح وسلوان بصورة واسعة بما في ذلك في الإعلام العالمي، لكن هل هناك مخططات صهيونية لمشاريع أخرى لا تُناقش مخاطرها في وسائل الإعلام؟
هناك الكثير من المخططات التي يرتب لها الاحتلال منذ فترة طويلة في القدس، ومنها على سبيل المثال مشروع التلفريك الواصل بين مستوطنة رأس العامود جنوب شرقي المسجد الأقصى المبارك ومنطقة حائط البراق داخل البلدة القديمة جنوبي غربي المسجد الأقصى المبارك، وهذا التلفريك يهدف بالفعل إلى السيطرة على الفضاء الجنوبي للأقصى بالكامل، ولا نضمن مستقبلًا أن يستعمل لتنفيذ أي اعتداء على المسجد الأقصى المبارك لا قدر الله!
كما أن عملية محاولة تفريغ المنطقة الشرقية للمسجد الأقصى المبارك تجري على قدم وساق رغم إعاقتها حاليًّا بأحداث 28 رمضان الماضي، والاحتلال يسعى لتعويض خسارته في ذلك اليوم بالعودة إلى المكتسبات التي حصل عليها في تلك المنطقة بتفريغها من المسلمين وتخصيصها للمتطرفين الذين يقتحمون المسجد الأقصى المبارك يوميًا.
كما أن الاحتلال عمل في الفترات الماضية على إبعاد أكبر عدد ممكن من الناشطين المقدسيين من قلب الحدث في البلدة القديمة والمسجد الأقصى المبارك من خلال توزيع عشرات قرارات الإبعاد عن المسجد الأقصى المبارك على المرابطين والمقدسيين في أعقاب شهر رمضان المبارك، ووصل به الأمر إلى سحب مخصصات التأمين الوطني والتأمين الصحي عن عدد كبير من المقدسيين وخاصة الأسرى المحررين منهم.
وهذا الأمر لم يتم الالتفات إلى خطورته في الإعلام! فهو يعني بالضرورة منع هؤلاء الناشطين من السكن في القدس لاحقًا وسحب حقهم في الإقامة فيها، لأن ملفات مؤسسة التأمين الوطني الإسرائيلية في القدس ترتبط من ناحيةٍ عمليةٍ بملفات وزارة الداخلية الإسرائيلية، بما يجعل من الممكن لوزارة الداخلية الإسرائيلية سحب بطاقات الإقامة من هؤلاء المقدسيين وحرمانهم من دخول القدس أو الإقامة فيها، وهذا يسمى في الحقيقة ترانسفيرًا هادئًا للمقدسيين وإبعادًا لهم عن المدينة المقدسة دون ضجةٍ إعلامية.
النقطة الأساسية التي ينبغي أن نفهمها هنا هي أن المدينة المقدسة ما زال وجهها العربي والإسلامي واضحًا وبشكل كبير للناظر إليها من أي ناحية
وماذا عن تهويد القدس؛ هل هناك مخططات جديدة بهذا الخصوص؟
لا يمكننا أن نقول إن هناك “مخططات جديدة” لتهويد القدس، فالمخططات لتهويد المدينة المقدسة موجودة منذ زمن طويل، والمدينة المقدسة اليوم تخضع فعليًا لعملية ممنهجة تحاول تغيير طبيعتها بشكل كبير.
النقطة الأساسية التي ينبغي أن نفهمها هنا هي أن المدينة المقدسة ما زال وجهها العربي والإسلامي واضحًا وبشكل كبير للناظر إليها من أي ناحية، وبالتالي فإن الاحتلال يسعى بكل قوته لتغيير هذه الهوية البصرية العامة لمدينة القدس من خلال السيطرة على أغلب المناطق المحيطة بالمسجد الأقصى المبارك من كل الاتجاهات، وبالتالي محاولة اقتحامه وتغيير طابعه بشكل كامل.
ويمكن القول هنا إن المخططات الأخيرة التي تركز على بناء الوحدات الاستيطانية في قلب الأحياء العربية مثل حي الشيخ جراح وحي سلوان والبلدة القديمة وغيرها يعتبر من آخر ما وصل إليه الاحتلال في هذه النقطة، وهذا يبين أن الاحتلال قد انتهى فعليًا من عملية تهويد المناطق التي تبعد أكثر من 5 كيلومترات تقريبًا عن البلدة القديمة وأقام فيها المستوطنات التي يريدها، مثل مستوطنة معاليه أدوميم ومستوطنة هارحوما وغيرها من المستوطنات الأخرى التي أصبحت تحيط بالأحياء العربية الكبرى، وبدأ الآن في محاولة اختراق الأحياء العربية نفسها في مدينة القدس والاقتراب أكثر فأكثر من المسجد الأقصى المبارك ومن البلدة القديمة بحيث يسيطر عليها بالكامل.
ومن خلال هذا نستطيع أن نفهم ما يحدث الآن في حي الشيخ جراح وفي سلوان، وأيضًا في المسجد الأقصى المبارك.
تهافت بعض الدول العربية للتطبيع مع كيان الاحتلال الذي شهدناه آخر عامين.. كيف يسهم في ترسيخ الوجود اليهودي في القدس وما حولها؟
إن التطبيع العربي مع دولة الاحتلال يعد طعنةً كبيرةً في خاصرة القدس وفلسطين، ذلك أن المطبعين في الفترة الأخيرة بالذات التزموا الرواية الإسرائيلية وخلطوا بين السياسة والتاريخ والعلوم، وظنوا أن من مقتضيات التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي تبني روايته الكاملة في فلسطين ومدينة القدس.
فعلى سبيل المثال يأتينا سفير دولة الإمارات العربية المتحدة في لقائه مع الحاخام شلوم كوهين الزعيم الروحي لحركة شاس المتطرفة، ويدعي أنه فوجئ عندما رأى “مسجدًا في وسط تل أبيب” بينما هو في الحقيقة لم ير مسجدًا في تل أبيب، وإنما رأى مسجد حسن بك الموجود في نهاية حي المنشية في مدينة يافا، الذي سيطر الاحتلال عليه بالكامل، وهدم كل ما حوله، وبقي المسجد موجودًا وحيدًا في هذه المنطقة، لتتم مهاجمته أكثر من مرة ومحاولة تدميره.
هذه الإجراءات التي يروج لها المطبعون، إضافة إلى محاولة الترويج للرواية الإسرائيلية – بيع الفلسطينيين أرضهم للاحتلال قبل النكبة -، يعد مساهمة مباشرةً وفعليةً في نشر الرواية الإسرائيلية وتبنيها بالكامل. وهو ضربة للوجود الإسلامي والوجود العربي في المدينة المقدسة وفي فلسطين بشكل عام.
وتفسير ذلك يكمن في أن المطبع يريد أن يقنع نفسه بصواب فعلته، فيجنح بالتالي إلى تبني الرواية الصهيونية بالكامل وإلباسها لبوس الواقعية والحقيقة التاريخية! ويتماهى معها إلى الحد الذي يجعله يدافع عنها أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، وهذا في الواقع راجع إلى عقدة نقصٍ لدى المطبعين، وشعور بالدونية والعجز والعار، بما يجعلهم يحاولون إقناع أنفسهم أولًا بصواب ما يفعلون!
برأيك، كيف للإنسان العربي أن يفهم ديمغرافية القدس وأحيائها في ظل الحملة الصهيونية لطمس معالمها؟
هناك جهد كبير بذله الأستاذ سلمان أبو ستة في نشر أطلس فلسطين التاريخي الذي أعطانا فعليًا تثبيتًا للتاريخ الفلسطيني الحقيقي عمومًا على هذه الأرض والمسميات الفلسطينية لأرض فلسطين بشكل عام.
ينبغي علينا في نظري أن نساند هذه الجهود وأن ننشر فعليًا هذه الجهود بشكل كبير ونستفيد منها فيما يتعلق بديمغرافية القدس وأحيائها، إذ علينا بشكل أساسي أن نفهم أن القدس في قسمها الشرقي المحيط بالبلدة القديمة، والمسجد الأقصى المبارك قد بقيت عربية الطابع والصورة، مع أن الاحتلال يحاول بكل قدرته تهويد هذه المدينة وتغيير طبيعتها وشكلها العام، إلا أنه فشل في هذا الموضوع.
وينبغي علينا أن نظهر المعالم الحقيقية ونؤكدها، ونوثقها في كتبنا ومصادرنا، وننشرها في مكتبات العالم، مع ترجمة ذلك إلى اللغات الأخرى الحية، بحيث يعلم العالم ما ارتكبه الاحتلال من جرائم لطمس الهوية العربية الإسلامية في هذه المنطقة، وهذا في الحقيقة يفضح تلك الإجراءات الإسرائيلية المتعلقة بهذه المعالم المهمة التاريخية التي تؤكد عروبة وإسلامية مدينة القدس.
طيب، دولة الاحتلال تسوّق لرواية محددة لتاريخ المنطقة في محاولة لإثبات ملكيتها لفلسطين وحقها في أراضي الفلسطينيين وتراثهم وحتى مقدساتهم، لو تشرح لنا تفاصيل الروايتين وكيف نفند رواية الاحتلال؟
تعتمد السردية الإسرائيلية الحاليّة عن تاريخ اليهود والعرب في فلسطين على فكرةٍ مفادها أن الوجود اليهودي في فلسطين سابق للوجود العربي، وأن العرب إنما جاءوا في فترة فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه للقدس أي في فترة الفتح الإسلامي. وهذا الكلام فعليًا فيه تجن كبير على هذه الأمة وعلى تاريخها القديم في هذه البلاد.
السردية العربية الإسلامية لهذه القضية ولتاريخ فلسطين بشكل عام تقوم على أساس أن الكنعانيين كانوا السابقين في وجودهم في هذه الأرض، علمًا أن السردية الإسرائيلية لا تنفي هذه الحقيقة، لكنها تنفي أي علاقة بين عرب اليوم والكنعانيين، وتعتبر أن الكنعانيين لم يكونوا عربًا، وبذلك نجد على سبيل المثال أنهم لا يعتبرون أن اللغة الكنعانية كانت عربية أو أن لها أي علاقة باللغة العربية المعروفة حاليًّا، وإنما يقولون إنها لغة قديمة، وانحدرت منها مجموعة من اللغات من بينها كما يقولون العبرية، وهذا الأمر غير دقيق وغير صحيح، لأن العبرية لم تكن موجودة باعتبارها لغةً أصليةً قديمة، وإنما كان اليهود في الحقيقة يستعملون اللغة المتعارف عليها في منطقة بلاد الشام، وهي اللغة الكنعانية العربية التي يمكن أن نقول إنه كان لها عدد من اللهجات، من بينها اللهجة الفنيقية واللهجة الأمورية واللهجة المؤابية واللهجة الآرامية، وغيرها من اللهجات التي تحول الحديث عنها لاحقًا إلى الحديث عنها باعتبارها لغات منفصلة.
هذا الأمر في الحقيقة تدعمه النصوص المكتوبة في الآثار التي وجدت من تلك الحقبة الزمنية، والطريف في الأمر أننا نجد أحيانًا أن بعض النصوص التي وجدت مكتوبة بالكنعانية العربية القديمة في لبنان على سبيل المثال يمكن فهمها بشكل أقرب للهجة اللبنانية الحديثة منها للغة العربية الفصيحة المعروفة.
باختصار فإن الرواية عندهم تعتمد على فكرة أن الله هو الذي اختار أن يعطي هذه الأرض لإبراهيم ونسله من إسحاق تحديدًا
وبالتالي فإن هذا يدل على أن اللغات أو اللهجات نفسها كلها يمكن أن نعتبرها أدلةً واضحةً على مدى ارتباط العرب والمسلمين بهذه البقعة، وبأن هذه البقعة كان ارتباط سكانها الأصلي أو كان سكانها الأصليون سابقين على الوجود اليهودي بفترة طويلة جدًا.
أما الوجود اليهودي في فلسطين فإنه جاء مع وصول بني إسرائيل فعليًا إلى فلسطين، على اعتبار أن تلك السردية تربط بني إسرائيل بالديانة اليهودية، وذلك في أعقاب عهد موسى عليه الصلاة والسلام، أما وصولهم فعليًا إلى فترة حكم هذه المنطقة فقد كان حسب سرديتهم في عهد داود عليه الصلاة والسلام.
وفي هذا الأمر هناك اختلافات جذرية بين سرديتنا وسرديتهم، إذ إننا نعتبر أن داوود عليه الصلاة والسلام كان نبيًا، ومن بعده ولده سليمان عليه الصلاة والسلام، أما اليهود اليوم فإنهم لا يعتبرون داوود وسليمان نبيين، وإنما يعتبرونهما ملكين من ملوك بني إسرائيل.
ثم بعد ذلك مع سقوط آخر مملكة لبني إسرائيل في المنطقة، على يد نبوخذ نصر، فإن اليهود فقدوا حكمهم بالفعل في هذه البقعة وأخرجوا، ثم عندما عادوا لاحقًا على مدى فترات التاريخ – التي سبقت خروجهم النهائي من هذه المنطقة في العهد الروماني – لم يكن اليهود في هذه البقعة أكثر مما نسميه اليوم “وكلاء احتلال” بالنيابة عن الفرس واليونانيين والرومان.
هل هناك نصوص دينية يعتمدها اليهود لإثبات روايتهم؟ لو نحكي عنها
أبرز النصوص التي يعتمد عليها اليهود في محاولة الاستفراد بفلسطين، ومحاولة ادعائهم بالحق فيها هو النص المعروف في سفر التكوين الذي يقول: (في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام “إبراهيم” عهدًا قال: لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات، وهي أرض القينيين والقنزيين والقدوميين والحثيين والفرزيين والرفائيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين) التكوين 15: 18-21.
هذا النص في الحقيقة يقول أو يدعي أن الله عز وجل أعطى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ولنسله هذه البقعة الكبيرة جدًا، وهي الأرض الواقعة بين نهر النيل ونهر الفرات، التي تشمل نصف مصر إضافة إلى كل بلاد الشام تقريبًا حتى الجزيرة الفراتية، والطريف أن النص يبين أن هناك أقوامًا آخرين في هذه الأرض ويذكر الكنعانيين بالاسم فيهم! وهذا الأمر حسب النص التوراتي يعتبر وعدًا إلهيًا قطعه الله عز وجل لإبراهيم عليه الصلاة والسلام.
اللافت أن هذا الوعد حسب النص حدث قبل مولد أي ولدٍ لإبراهيم عليه الصلاة والسلام. والمعروف أن أول أبناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو إسماعيل وليس إسحاق عليهما الصلاة والسلام.
ومع ذلك فإن الرواية التوراتية حلت هذه المشكلة بأن قالت في النص الذي يتعلق بعملية الذبح لإسحاق عليه الصلاة والسلام في القدس: (وَحَدَثَ بَعْدَ هذِهِ الأُمُورِ أَنَّ اللهَ امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ: «يَا إِبْرَاهِيمُ!». فَقَالَ: «هأَنَذَا»، فَقَالَ: خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ) التكوين 22: 1-2. والنص هنا يقول: “خذ ابنك وحيدك الذي تحبه؛ إسحاق” وكأن إسماعيل غير موجود أصلًا! مع أن التوراة تعترف أن إسماعيل موجود، لكنها تقول إن إسحاق هو الابن المفضل عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو الذي اختاره الله عز وجل لإبراهيم عليه الصلاة والسلام. ويمكن أن نقول بكل بساطة إن هذا الأمر فيه من التجني على الله عز وجل ومن الظلم الحقيقي ما يتنزه عنه رب العالمين، لكن الرواية الخاصة بهم تعتمد أساسًا على هذا النص في إبراز أحقيتها بهذه البقعة باعتبار أن اليهود يرتبطون عرقيًا بإسحاق عليه الصلاة، وهو أمرٌ لا نسلِّم به!
وباختصار فإن الرواية عندهم تعتمد على فكرة أن الله هو الذي اختار أن يعطي هذه الأرض لإبراهيم ونسله من إسحاق تحديدًا، وليس من إسماعيل، وربطها بإرادة الله عز وجل يأتي لقطع الطريق على أن محاولةٍ لمناقشة الموضوع لأنها “إرادة الله”! علما أننا لو أخذنا الآية الأولى التي ذكرناها سابقًا في سفر التكوين على إطلاقها، لكانت تنطبق بالفعل على إسماعيل وليس على إسحاق، لكن التوراة كما قلنا حاولت أن تحل هذه المشكلة بأن ربطت العهد لاحقًا بإسحاق وليس بإسماعيل.
ما الآليات التي يجب علينا اتباعها من أجل تدعيم السردية التاريخية الصحيحة لفلسطين، خاصة أن دولة الاحتلال تحاول سرقة كل ما هو خاص بهذه الأرض بداية من التاريخ وليس انتهاءً بأطباق الطعام؟
هناك آليات كثيرة ينبغي أن نتبعها لندعم السردية التاريخية الخاصة بنا لفلسطين، وأولها الاهتمام الكبير بعلم الآثار وعدم إقحام النصوص الدينية التوراتية في تفسير علم الآثار، والتجرد إلى حد كبير والمناداة بالموضوعية في دراسة هذه الآثار، خاصة أن النصوص التاريخية عندنا والنصوص الموجودة في الآثار المكتشفة أغلبها تؤيد فعليًا حقنا التاريخي، وينبغي علينا أن نفهم بشكل واضح أن السردية الإسرائيلية لتاريخ فلسطين وتاريخ القدس بشكل خاص تفتقر إلى الأدلة الآثارية.
فليس هناك آثار تدلنا بشكل واضح على هذا التاريخ الذي تدعيه النصوص الدينية لدى الإسرائيليين، أو حتى ما يدعيه علماء الآثار الإسرائيليون اليوم، وإنما هم ينزعون عادة إلى فكرة تفسير الآثار بناء على النص التوراتي، وهذه النقطة ينبغي محاربتها بشكل علمي، وينبغي استنفاد كل الإمكانات لدينا في نشر المنهجية العلمية الصحيحة الموضوعية فيما يتعلق بهذه القضية.
ما المصادر والكتب التي تنصحون بالرجوع إليها لمعرفة تاريخ فلسطين عمومًا والقدس خصوصًا، بما في ذلك تاريخ الوجود اليهودي في البلاد؟
هناك كتب كثيرة جدًا يمكن أن أنصح بها للرجوع إلى تاريخ فلسطين والقدس خصوصا منها:
– المدخل إلى دراسات بيت المقدس / د. عبد الله معروف.
– الطريق إلى القدس / د. محسن صالح.
– بيت المقدس في استراتيجية النبي صلى الله عليه وسلم / د. عبد الله معروف.
– مدينة بيت المقدس في القرن الإسلامي الأول / د. أسامة جمعة الأشقر.
– القدس في العصر العباسي المبكر / د. أسامة جمعة الأشقر.
– تاريخ فلسطين في صدر الإسلام / د. هاني أبو الرب.
– فلسطين في خمسة قرون، من الفتح الإسلامي إلى الغزو الفرنجي / د. خليل عثامنة.
– فلسطين في العصرين الأيوبي والمملوكي / د. خليل عثامنة
– فلسطين في نهاية العصر العثماني / د. عادل مناع.
– قبل الشتات / د. وليد الخالدي.
– كي لا ننسى / د. وليد الخالدي.
– صفحات من تاريخ الكفاح الفلسطيني: التكوينات السياسية والفدائية المعاصرة – النشأة والمصائر / علي بدوان.
– المقاومة الشعبية في فلسطين: تاريخ من الأمل والتمكين / مازن قمصية.
اسمح لي أن أختم بهذا السؤال المتكرر، والذي في الواقع يتردد في تغريدات الكثير من الذباب الإلكتروني ومن هم في صف المطبعين: “ألم يبع الفلسطينيون أرضهم؟”
هذا الادعاء الممجوج رُدّ عليه أكثر من مرة، وهو ليس أكثر من دعاية رخيصة صهيونية روجتها آلة الدعاية الإسرائيلية، ورددتها للأسف آلة التطبيع العربية لتقنع نفسها بحقها في التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.
الفلسطينيون لم يبيعوا أرضهم ولا يبيعون أرضهم، وأكبر رد على ذلك ما نشهده الآن في وسائل الإعلام العربية في حي الشيخ جراح، من رفض كامل من سكان هذا الحي لبيع ولو متر واحد فقط من بيوتهم للاحتلال الإسرائيلي.
وكلنا رأينا ذلك الفيديو الذي انتشر في إحدى وسائل الإعلام العربية الكبرى مؤخرًا لعائلتين من عائلات حي الشيخ جراح في القدس، التي عرض على إحداهما مبلغ 6 ملايين دولار وعلى العائلة الثانية شيك مفتوح ليسلموا بيتهم للمستوطنين، لكنهم رفضوا وقالوا بوضوح: نحن لا نبيع أرضنا ولا نبيع بيوتنا.
كما أن من الردود المنطقية أيضًا على ذلك هو حدوث التهجير الكامل لسكان فلسطين إبان النكبة عام 1948 في نفس الوقت، فالعقل يقول إنه لا يمكن أن يتم بيع كل أراضي فلسطين وخروج الناس منها في نفس اللحظة وفي نفس الوقت خلال النكبة! هذا الأمر ليس منطقيًا ولا عقلانيًا وليس مقبولًا حتى على عقل صغير جدًا، فكيف يمكن أن يفهمه أحد أو يحاول ترديده ثم يدعي أنه يتعامل معنا بالعقل والمنطق؟
إضافة إلى ذلك، فإن الأرقام نفسها في السجلات المختلفة تكذب هذه الادعاءات، فيتبين عند دراسة الوثائق البريطانية فيما يتعلق بأراضي فلسطين وملكياتها أنه لدى احتلال فلسطين عام 1948، لم يكن اليهود يمتلكون فعليا أكثر من 8% من أراضي فلسطين الكاملة بحدودها الانتدابية، وحتى هذه النسبة فإن أغلبها، بما يتجاوز 7% من الأراضي الفلسطينية الكاملة، تم تسليمها للوكالة اليهودية وصندوق أرض “إسرائيل” فعليًا من خلال البريطانيين الذين وزعوا وباعوا أراضٍ كثيرة، بقوة سلطة الانتداب البريطانية، للوكالة اليهودية وصندوق أرض “إسرائيل”.
وهذا يؤكد أن أهل فلسطين لم يبيعوا أرضهم ولا يبيعون أرضهم، وإنما أخرجوا منها بالقوة والغصب وبالمذابح التي رأيناها جميعًا منذ عام 48، ومستمرة حتى هذه اللحظة.
ومن أكبر الأدلة على ذلك أيضًا أن الإسرائيليين ما زالوا حتى الآن يحاولون السيطرة على هذه الأرض، فلو كان الفلسطينيون قد باعوا أرضهم لكانت دولة الاحتلال قد سيطرت عليها بالكامل منذ زمن طويل.