كثيرة هي الانتهاكات والممارسات القمعية التي ترتكبها قوات سوريا الديمقراطية “قسد” ضد المدنيين المقيمين في الشمال الشرقي من سوريا، في ظل سلطتها وسطوتها الجائرتين اللتين تبني من خلالهما قوتها وامتدادها الجغرافي الذي يخدم مشروعها، وذلك على دماء المدنيين السوريين من مختلف مكونات المنطقة الذين يعانون تحديات وظروفًا متنوعة، رسمتها تعقيدات الحرب والأمر الواقع الذي فرض عليهم بشكل اعتباطي.
ويبدو المشهد في مناطق شمال وشرق سوريا لا يهدأ على الإطلاق، إذ لا تزال فوضوية ميليشيا قسد تسيطر على إدارة المنطقة عبر ما تسمى الإدارة الذاتية، التي تصدر قرارات بين حين وآخر يضيق الخناق على المدنيين.
وكان آخر تلك القرارات رفع أسعار المحروقات ولاحقًا الخبز وغيرهما، مع استمرارها بحملات التجنيد الإجباري، أو ما يسمى “خدمة الدفاع الذاتي”، في عموم مناطق سيطرتها.
إضراب عام واحتجاجات في منبج
نفّذ الأهالي في مدينة منبج بريف حلب الشرقي، والتي تسيطر عليها ميليشيا قسد، الاثنين 31 أيار/ مايو، إضرابًا عامًّا احتجاجًا على اعتقال قسد لمئات الشبان بهدف التجنيد الإجباري.
وتداول ناشطون من داخل المدينة صورًا ومقاطع مصورة على مواقع التواصل الاجتماعي، تظهر إغلاق المحال التجارية في أسواق مدينة منبج، رفضًا لممارسات قسد ومداهماتها التي تطال منازل المدنيين داخل المدينة، بحثًا عن مطلوبين للخدمة العسكرية في صفوف قواتها.
وقال مصدر محلي داخل مدينة منبج لـ”نون بوست”: “إن عمليات المداهمات التي نفذتها قسد لمنازل الأهالي داخل المدينة خلال الأيام الماضية، طالت مئات الشبان بينهم العشرات من طلبة الشهادة الثانوية، وسط انتهاكات وممارسات سيئة بحقهم”.
كما شهدت مدينة منبج وريفها الواقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، احتجاجات واسعة يومي الاثنين والثلاثاء 31 مايو/ أيار و1 حزيران/يونيو على خلفية قرار قسد التعسفي، وتنفيذها لعمليات المداهمة التي طالت منازل أهالي المدينة خلال الأيام القليلة الماضية.
وعلى خلفية الإضراب العام والاحتجاجات في مدينة منبج، أطلقت قسد الرصاص على المحتجين الذين كانوا يتظاهرون ضد عمليات التجنيد الإجباري، ما أدى إلى مقتل مدني وإصابة آخرين في قرية الهدهود بريف مدينة منبج.
ونشر ناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي الاثنين الماضي، تسجيلات مصورة تظهر الاحتجاجات المتواصلة حتى ليل الاثنين- الثلاثاء 1 يونيو/ حزيران في ريف مدينة منبج، على خلفية قمع قسد لاحتجاجات الأهالي ضدها.
التجنيد يفجر الموقف
قال الصحفي قحطان الشرقي، وهو من مدينة منبج، لـ”نون بوست”: “إن سبب الاحتجاجات والإضراب العام في مدينة منبج، جاء نتيجة ممارسات وانتهاكات متواصلة ليست وليدة اللحظة الحالية، لكن التجنيد الإجباري ساهم في انفجارها، لأن الأهالي يعانون من أوضاع معيشية مزرية، في ظل ارتفاع أسعار المواد الغذائية والخبز والمحروقات، وغياب الخدمات وانتشار الفقر والبطالة بين أوساط المجتمع”.
وأضاف: “إلى جانب سرقة ونهب ثروات المنطقة، وسياسة التجويع الممنهج، وعدم حصول الأهالي على حقوقهم، ما سيدفعهم إلى الاستمرار في الاحتجاجات حتى تحقيق مطالبهم بسبب حالة الاحتقان والغضب الشعبي الذي ظهر عليهم، لا سيما بعد وقوع قتيل وعدد من الجرحى من المدنيين”.
وأوضح: “حاولت ميليشيا قسد السيطرة على الاحتجاجات والإضراب العام الذي تم تنفيذه بنسبة 90%، و لكنها فشلت في امتصاص غضب الأهالي، والنقمة التي نشأت خلال قراراتها التعسفية من بينها التجنيد الإجباري”.
تشهد #منبج مظاهرات وحالة عصيان مدني، تعرضت للقمع وإطلاق النار وحظر التجول من قوات سوريا الديمقراطية، رفضاً للتجنيد الإجباري.
ربما يكون التجنيد شرارة الاحتجاج، لكن السبب الحقيقي هو أن نموذج #قسد كرس انقسامات بين العرب والكرد، ومظالم اجتماعية وقومية كامنة، تنتظر أي شرارة حتى تنفجر
— أحمد أبازيد (@abazeid89) June 1, 2021
لماذا يرفض الأهالي التجنيد؟
يأتي قرار التجنيد الإجباري أو ما يسمى “خدمة الدفاع الذاتي” في صفوف قوات سوريا الديمقراطية، على عكس رغبة الأهالي تمامًا الذين يحاولون أخذ الحياد في هذا الموضوع، لأنهم لا يقبلون قتال أقاربهم وأبناء وطنهم على الجبهات الأخرى في صفوف الجيش الوطني، ويرى كثير من الأهالي أن التجنيد محاولة من قسد لخدمة مشروعها في تشتيت أبناء المنطقة.
من جهته قال الصحفي من مدينة منبج جاسم السيد، الذي يقيم في ريف حلب الشمالي، لـ”نون بوست”: “إن مشروع قسد في سوريا حكمًا ليس مشروع أهل البلد، وهذا الإضراب العام والاحتجاجات تؤكد الرفض الشعبي لقسد، في ظل عملها على فرض الانتساب إلى قواتها بطريقة غير مباشرة، من خلال سياسة التجويع”.
ويخشى أهالي مدينة منبج من استغلال قسد للاحتجاجات وإشعال فتيل حرب قومية بين مكونات المدينة من كرد وعرب وشركس وغيرهم، في وقت يشكل العرب غالبية سكان المدينة.
كما يتخوف الأهالي من استفادة نظام الأسد من الاحتجاجات، وفسح المجال أمامه من قبل قسد للسيطرة على المنطقة، باعتباره الخيار الأنسب لقسد في حال قررت الاستغناء عن المدينة.
هل تحقق الاحتجاجات مطالب الأهالي؟
أوضح السيد: “للاحتجاجات دور بارز في تحقيق مطالب الأهالي، لأنها تفرض نفسها في ظل تعنت قسد بقراراتها بخصوص المنطقة التي تديرها رغمًا عن سكانها المستبعدين عنها، أو عن إدارتها على الرغم من وجودهم، لا سيما أن الاحتجاجات السابقة أسهمت نوعًا ما في التنازل عن بعض القرارات التي اتخذتها قسد”.
وأضاف: “لن تتوقف قسد عن انتهاكاتها بحق الأهالي، ولا يوجد في الوقت الحالي ضغط عليها دوليًّا أو محليًّا. وأما السوريون سواء في منبج وعموم المناطق الشرقية لا يوجد لديهم سند أو جهة دولية يلجؤون إليها، لذلك تعتبر الاحتجاجات خيارًا وحيدًا لهم”، مؤكدًا أن “الأهالي مستمرون حتى تحقيق مطالبهم وتراجع قسد عن قرار التجنيد الإجباري”.
كما يرى السيد أن قسد ستتراجع عن القرار أو ستوقفه على الأقل في الوقت الحالي، خشية امتداد الاحتجاجات إلى عموم مناطقها، لأنها ستكون أمام تحدٍّ كبير يهدد اندلاع احتجاجات متواصلة في عموم مناطق سيطرتها، بسبب سياسة التجنيد الإجباري التي يرفضها السوريون.
كيف ردت قسد على الاحتجاجات؟
حاولت قوات سوريا الديمقراطية في مدينة منبج السيطرة على الاحتجاجات والإضراب العام اللذين شهدتهما المدينة، إلا أنها فشلت في ذلك، ما دفعها إلى فرض حظر التجوال لمدة 48 ساعة داخل مدينة منبج، ابتداء من الساعة الواحدة صباحًا من يوم الثلاثاء، لاستدراك ما جرى من عصيان مدني.
كما تسعى قسد إلى التفاوض مع عشيرة البوسلطان، التي قُتل أحد أبنائها خلال الاحتجاجات في قرية الهدهود بريف مدينة منبج.
دعوات لاستمرار الاحتجاجات
تستمر الاحتجاجات في القرى المجاورة ليلًا، مع استمرار دعوات الناشطين من أبناء المدينة من أجل متابعة الاحتجاجات والإضراب حتى تحقيق مطالبهم.
كما دعت قبيلة الولدة، وهي إحدى قبائل محافظة الرقة، اليوم الثلاثاء 1 حزيران/ يونيو، في بيان لها، أهالي محافظة الرقة ومدينة الطبقة الخاضعة لسيطرة ميليشيا قسد إلى مظاهرات وإضراب، ردًّا على ما أسمته الممارسات القمعية والجرائم التي ترتكبها ميليشيا قسد بحق المدنيين في مناطق سيطرتها، وعلى وجه الخصوص التجنيد الإجباري.
وأصدرت عشائر مدينة منبج بيانًا الاثنين 31 مايو/ أيار، قالت فيه: “إننا نفرض سياسات قسد القمعية التي تطال أبناء المدينة من بينها فرض التجنيد الإجباري، وإقحام أبناء منبج بمعارك عبثية، وإهمال الجانب التعليمي وتعميم الجهل بشكل متعمد”.
وأضاف البيان: “إن قسد تسعى إلى فرض ثقافة جديدة على أبناء المنطقة وتضيق الخناق على الأهالي من مختلف النواحي، وتغذية الفتن والخلافات العشائرية بين أبناء المنطقة”.
وطالب البيان “المجتمع الدولي بإيقاف دعم قسد وتمكين أبناء المنطقة لإدارة مناطقهم”.
حملات تجنيد
وكان مكتب “الدفاع الذاتي” التابع لـ”الإدارة الذاتية” قد أصدر في 3 مايو/ أيار، تعميمًا حدد فيه مواليد الأشخاص المطلوبين للخدمة العسكرية، وبحسب التعميم تم تحديد المواليد المطلوبة لأداء واجب الدفاع الذاتي، من 1 يناير/ كانون الثاني 1990 إلى 30 أبريل/ نيسان 2003.
وتجري قوى الأمن الداخلي في مناطق سيطرة قسد عمليات مداهمة واقتحام، بحثًا عن مطلوبين للخدمة الإجبارية، ولا يكاد يمضي يوم دون تنفيذ عمليات اعتقال شبان في مناطق الإدارة الذاتية من أجل سوقهم للخدمة الإلزامية.
واعتقل عشرات الشبان في مدينة القامشلي، من بينهم أكثر من 200 طالب في المرحلة الثانوية، ما شكّل موجة غضب تجمع على إثرها العشرات من الأهالي أمام مراكز التجنيد، ما اضطر قسد الإفراج عن بعض الطلبة، وإصدار تعليمات يسمح فيها للطلبة بالتنقل لحين إصدار دفاتر التجنيد.
وفي الوقت ذاته يساهم انتشار الحواجز الأمنية في مختلف مناطق سيطرة قسد، في إلقاء القبض على أي شخص يمكن أن يشمله قانون التجنيد، المعلن عنه مؤخرًا.
وتحاول قسد فرض نفسها كأمر واقع على الأهالي في شمال وشرق سوريا، وهي في الوقت ذاته لا تحظى بأية شرعية سوى السلاح، والدعم الأمريكي.