قبل عدة أعوام حينما كان وزيرًا للدفاع، في اجتماع بينه وبين قادة الجيش، طالب السيسي، وتمنى، بأن يكون للجيش، في الفترة المقبلة، “أذرع إعلامية” سرية، تنقل رسالته ومضامينهُ لوعي الجمهور، كواجهة، دون أن يكون الجيش في الصورة بشكل مباشر، وهي مادة مصورة معروفة ضمن “تسريبات السيسي” التي أذاعتها القنوات المقربة من جماعة الإخوان في وقت مبكر بعد الانقلاب العسكري.
بعد أن تولى مقاليد الأمور في البلاد، وضع السيسي خطة، أو هدفًا بمعنى أدق، للسيطرة على مجال الإعلام في مصر، ضمن مساعيه للاستئثار بالتأثير على اللاوعي الجمعي والقوة الناعمة، كما ذكر في أكثر من حوار، في يد الدولة، التي باتت تعني: الجيش والسيسي، وضمن عدة سياقات أخرى، من بينها التحول الكبير في دور الجيش للسيطرة على معظم مفاصل الدولة المادية والرمزية، والتحول الإقليمي في الاهتمام بالدراما والإعلام لمواجهة مشاريع أخرى أثبتت نجاحًا مشهودًا، مثل تجربة قناة “الجزيرة” والمسلسلات التركية.
ضمن هذا السياق، عبّر السيسي أكثر من مرة عن عدم رضاه عن الأداء الإعلامي في البلاد، معتبرًا أن كثيرًا من الإعلاميين يتحدثون في أمور كبرى دون علم أو دراسة، وعزف عن الظهور مع الإعلاميين أو الاجتماع بهم إلا في سياقات ضيقة جدًّا.
كما صنع لنفسه مجالًا إعلاميًّا خاصًّا للتواصل مع الجماهير، مثل المداخلات التلفزيونية مع برنامج أحد الإعلاميين، واللقاءات الأسبوعية لتفقد مشاريع شرق القاهرة التي تضمن احتكاكًا مرتّبًا مع بعض المصريين، إلى اللقاءات الدورية في مؤتمر الشباب.
المهم، إن النظام المصري منذ أن تبلورت لديه أهمية الاهتمام بهذا المجال، مجال الإعلام والاتصال بالجماهير والتأثير فيهم، أخذ يقوم بتغييرات مستمرة في هذا المجال، من أجل تحقيق رؤيته الاستحواذية عليه، ضمن سياق ومتطلبات كل مرحلة، عبر تغييرات تشمل الإدارة البشرية، والأدوات التقنية، والتوسع الرأسي والأفقي، والدخول مع شركاء جدد، وضخ مزيد من الأموال، بحيث تصل رسالته إلى الشارع على النحو الذي يرضيه.
بداية الاستحواذ
أبرز تلك التحولات كان تأسيس جهاز المخابرات المصرية عدة منصات إعلامية جديدة، أو معاد هيكلتها من أصول موجودة، مثل قناة “دي إم سي”، وموقع “مبتدأ”، ومحطة “راديو 9090″، والاستحواذ على جريدتي “الوطن” و”الدستور”، ضمن كيان إعلامي، أو واجهة بمعنى دقيق، حملت اسم “دي ميديا”.
بتزامن هذه الحملة تقريبًا مع المنافسة في سوق الإعلام، أوعزت المخابرات المصرية إلى أحد أباطرة الاستثمار المقربين منها في الوقت الحالي، أحمد أبو هشيمة، حوت صناعة الحديد في مصر، والرجل الذي حل محل أحمد عز، مالك “عز الدخيلة” إبان حكم مبارك؛ في الاستحواذ على مؤسسة “أون تي ڤي” المملوكة لرجل الأعمال القبطي النافذ في مجالات الاتصالات والعقارات، نجيب ساويرس، ضمن صفقة بلغت قيمتها ما يصل إلى نصف مليار جنيه.
جرى بعد ذلك تأسيس قنوات جديدة حملت اسم “أون” أيضًا، وكيان إعلامي حمل اسم “إعلام المصريين”، في إشارة إلى استمرار نجاح شعار “المصريين” الذي رافق أبو هشيمة في مجال الحديد “حديد المصريين”.
لم تنجح قنوات المخابرات الجديدة التي أسستها “دي ميديا” ولا “إعلام المصريين” في تأدية المطلوب منها على النحو المنشود، وهو الوصول إلى معظم شرائح المصريين بخطاب مؤثر، يروج سرديات النظام، مع تحقيق مكاسب بأقل قدر ممكن من “الفساد” المعلن، إذ بات النظام الجديد يتحسس كثيرًا من هذه النوعية من الفساد، وهي نقطة مفصلية في فهم كثير من التغييرات الطارئة على هذا المجال كل حين.
صندوق “إيجل كابيتال” هو صندوق استثماري تابع لجهاز المخابرات العامة المصري.
في ديسمبر/ كانون الأول 2017، سيطر صندوق استثمار حمل اسم “إيجل كابيتال” على حصة رجل الأعمال أبو هشيمة في مؤسسة “إعلام المصريين”، التي دشنها قبل 3 أعوام تقريبًا من هذه العملية، وبدأت مع هذه الصفقة سلسلة استحواذاتٍ جديدة على منابر صحفية وإعلامية خاصة، مثل مجموعة قنوات “الحياة” التي ارتبط اسمها باسم رجل الأعمال الحزبي السيد البدوي، ومجموعة قنوات “سي بي سي” التي ارتبط اسمها برجل الأعمال محمد الأمين، بالإضافة إلى الاستحواذ على أشهر مؤسسة صحفية خاصة في مصر “اليوم السابع”، وتدشين مؤسسة لتسويق وشراء الحقوق الرياضية باسم “بريزنتشن”، ضمن مجال ترفيهي جديد دخل إلى جعبة الدولة.
في وقت لاحق، تبيّن أن صندوق “إيجل كابيتال” هو صندوق استثماري تابع لجهاز المخابرات العامة المصري، وأن الجهاز الأمني نفسه دفع 500 مليون جنيه تقريبًا لتطوير مؤسسة “إعلام المصريين”، بعد تدشينها من قبل أبو هشيمة، وذلك ضمن جهد استقصائيٍ كشف عنه موقع “مدى مصر” المستقل والمحجوب من قبل السلطات المصرية.
في العام التالي، صعد المنتج الدرامي تامر مرسي إلى واجهة إدارة الكيانات الإعلامية التابعة للمخابرات، وفي وقت قليل بات تحت إدارة مرسي شركة “سنيرچي”، شركته الأصلية التي تحولت في ثوبها الجديد لإنتاج دراما الدولة الأمنية، والشركة المتحدة التي تملك حقوق شراء هذه المواد الدرامية، إلى جانب معظم القنوات والصحف والمحطات الإذاعية المؤثرة في الإعلام المصري، بالإضافة إلى استثمارات جديدة في مجالات صناعة كرة القدم، أفرزت شركات مثل “ستادات” و”تذكرتي”، ومحطات دينية مثل “مصر قرآن كريم”، وصولًا إلى الضيافة والطيران الخاص على نحو شركة “آي فلاي”.
تامر مرسي: سقوط حر
في البداية، كان نمط الاستئثار بكل شيء، الذي اعتمده مرسي في إدارته لسوق الميديا في مصر، وخاصة مجال الدراما، محببًا إلى مشغّليه في الأجهزة السيادية، أو على الأقل غير مرفوض، طالما أنه ينجح في أداء المطلوب منه، وهو تقديم دراما تبرز سردية النظام عن الأحداث التي شهدتها البلاد في الأعوام الأخيرة، وتصيغ بطولات وتضحيات رجال الأمن بشكل مؤثر، خاصة أن الهيمنة نمط عمل النظام في الأساس.
رجح كفة مرسي أيضًا، وفقًا لمصادر تحدثت لـ”نون بوست”، صلته الوطيدة بجهاز المخابرات، حيث كان والده ضابطًا رفيعًا في الجهاز السيادي منذ حوالي 3 عقود، ورغبة الجهاز في “واجهة” تبعد الأنظار عن المتحكم الرئيسي في الأمور، وترفع المسؤولية الفنية عن الضباط الذين من المفترض أن مجال تخصصهم الرئيسي هو الأمن والمعلومات، لا صناعة الترفيه، وقد انطبقت كل المعايير على مرسي، خاصة أنه ترك فرصة عمل وفرها له والده في الجهاز السيادي من أجل شغفه بالعمل في ثنائية العمل الحر/ الفن.
إلا أن طموحات مرسي في الهيمنة اصطدمت مع بعض الخطوط الحمراء لعمل الأجهزة السيادية، فأطاح قبل عامين بأحد الضباط المقربين من اللواء عباس كامل، الرئيس الحالي للمخابرات المصرية، ويدعى ياسر سليم، من الهيكل الإداري لـ”إعلام المصريين”، حيث كان يعمل نائبًا لمرسي وعينًا للجهاز على هذا المدني، بل زجّ به في السجن ضمن مكيدة دبرها لها، مستغلًّا نفوذه المتصاعد لدى الأجهزة السيادية، وإعجاب الرئيس بطموحاته الدرامية، بعد أن أطاح أيضًا برجال سابقه أحمد أبو هشيمة من إدارة القنوات الجديدة.
فشل تامر مرسي في تبرير تجاوزاته المالية، أو في إلقاء مسؤولية الأخطاء التي شهدها “نسل الأغراب” على المخرج محمد سامي وحده.
مرت هذه الخطايا بسلام استنادًا على الموقع الجديد لمرسي في منظومة السلطة، ولكن بدأت المشكلات تظهر أيضًا من كوادر المجال الفني بعد شكواهم المتكررة من استبعاد مرسي لهم من حصة العمل في المواسم الرمضانية، لا لسبب منطقي، إلا لأنه لا يحبهم، في تمادٍ لاستخدام نفوذه الجديد، وكان على رأس المستبعدين نجوم كبار مثل عادل إمام، وآخرون داعمون للنظام جدًّا، مثل شريف منير وأشرف عبد الباقي ونشوى مصطفى.
ثم كان الموسم الدرامي الرمضاني الأخير بمثابة ورقة التوت التي سقطت عن مرسي، حيث كثرت أخطاؤه، الفنية والمالية، فشكلت الأجهزة السيادية لجنة للتحقيق معه في إهدار المال العام على عدة مسلسلات، مثل مسلسل “الملك” الذي جرى إيقافه بعد تصوير 70% من مشاهده، على خلفية هجوم جماهيري كبير على “البرومو” التشويقي للمسلسل الذي تضمن أخطاء ساذجة في الملابس، التي لا تتلاءم بأي حال مع هيئة المصري القديم.
وأيضًا مسلسل “خالد بن الوليد” الذي جرى إيقافه بعد اختيارات غير ملائمة للأبطال، الذين رُفضَ أحدهم (عمرو يوسف) لعدم مناسبته للشخصية، واستُبعد الآخر (ياسر جلال) بعد شكواه من عارض طبي حال دون تمثيله المشاهد الخطيرة.
غير أن المسلسل الذي أدى إلى قرار الإطاحة بمرسي نهائيًّا من مناصبه الكبرى في قلاع الإعلام الجديد التابع للدولة، هو مسلسل “نسل الأغراب”، الذي شهد، رغم نجاحه، وقائع رفضتها الأجهزة السيادية، مثل تغوّل نفوذ المخرج محمد سامي على باقي عناصر المنظومة، لحساب زوجته وأخته الفنانتين مي عمر وريم سامي، وصولًا إلى إضافته مشهد أثار غضب رجال الأمن، وهو مقتل أحد ضباط المباحث في الحلقة الأخيرة للمسلسل على يد أحد أقاربه من الخارجين عن القانون، وتركيعه، بالسلاح، حتى الموت، في مشهد لم يتسق مع بروباغندا تلميع رجال الشرطة التي سيطرت على موسم الدراما الأخير.
الهيكل الجديد
فشل تامر مرسي في تبرير تجاوزاتهِ المالية، أو في إلقاء مسؤولية الأخطاء التي شهدها “نسل الأغراب” على المخرج محمد سامي وحده، الذي كانت الشركة قد أعلنت، قبل أيام من المؤتمر الصحافي الذي أقيم السبت الماضي للإعلان عن انتهاء عصر تامر مرسي، عن إيقاف التعامل معه مستقبلًا.
في المؤتمر الصحافي المشار إليه، والذي كان مخصصًا لتقديم كشف حساب عن نجاحات شركة “سنيرچي” والإعلان عن المشاريع المستقبلية، فيما عدّه متخصصون “خروجًا هادئًا” لمرسي دون تصعيد الأمر في اتجاه المسار القانوني أو الأدوات الانتقامية، لم يعلن عن الهيكل الجديد الذي سيتولى إدارة هذه المنظومة الإعلامية متشابكة الخيوط.
ولكن تسريبات كشفت عنها مواقع صحفية مستقلة ومحجوبة في مصر، مثل موقع “المنصة”، أكدت أن الهيكل الجديد سيغلب عليه الطابع “التقني” من رجال الخبرة، المقربين من الدولة، والضالعين في مجال الاستثمار، بدلًا من مرسي، الذي تسبب في تكبيد الشركة خسائر ناهزت الـ 400 مليون جنيه على مدار الأعوام السابقة.
سيظل مرسي عضوًا شرفيًّا في مجلس إدارة الشركة، وسينحّى جانبًا رفيقاه حسام شوقي المشرف على الإنتاج الدرامي، ويسري الفخراني رئيس المحتوى الدرامي، وسيحل محل مرسي حسن عبد الله، أحد أكبر الأسماء البارزة في القطاع المصرفي الخاص في مصر، والذي ساهم في تنفيذ أول عملية دمج بنكين غير حكوميَّين، هما البنك العربي الإفريقي وبنك مصر أمريكا، بعد استحواذه على الأخير في صفقة ناهزت ربع مليار جنيه عام 2005.
الرجل الثاني في الهيكل الجديد للشركة، هو أحد خصوم تامر مرسي خلال الفترة الأخيرة، محمد السعدي، الذي يمتلك خبرة واستثمارات في مجال الإعلانات منذ 3 عقود. وقد قدم أوراق اعتماده للنظام المصري رسميًّا بعد نجاحه الباهر في تنظيم موكب المومياوات الملكية، الذي انطلق من ميدان التحرير مؤخرًا.
ويأتي خلفهما أسماء مثل محمد سالمان الوزير السابق في حكومة إبراهيم محلب التي عملت مع السيسي، وصاحب الاستثمارات في مجال العقارات، وكامل أبو علي المنتج الفني المعروف، وصاحب النفوذ في مجال كرة القدم بمحافظة بورسعيد.
من غير المرجح أن يتخلى النظام عن نفوذه المادي والرمزي في كعكة الدراما.
ومن المقرر أن يشهد الإعلان المرتقب عن الهيكل الجديد للمؤسسة بشكل رسمي تغييرات جديدة، من قبل استحداث مؤسسة لإدارة الصحف التابعة للمجموعة، تقول المصادر إنه قد يرأسها محمود مسلم، عضو مجلس الشيوخ ورئيس تحرير جريدة الوطن وقناة “دي إم سي”، بالإضافة إلى إطلاق قناة إخبارية إقليمية تمثل صوت النظام المصري، في استنساخ لتجارب “الجزيرة” و”العربية” و”سكاي نيوز”.
المستقبل
يرجح البعض أن تكون هذه التغييرات ضمن منظومة التحركات المصرية مؤخرًا، لتحجيم النفوذ الإماراتي وإحلاله بمصالح مصرية أو لقوى إقليمية أخرى منافسة، المهم ألا تكون الإمارات.
وقد ظهر هذا التحليل بناء على عدة شواهد، منها الإطاحة بخالد صلاح، رجل الإمارات في الصحافة المصرية، من مؤسسة “اليوم السابع”، ليحل محله أكرم القصاص، ضمن الحركة نفسها.
بالإضافة إلى زيارة المستشار ترك آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية إلى مصر بالتزامن مع هذه التغييرات، ولقائه الفريد بكل من السيسي رئيس الجمهورية وعباس كامل مدير المخابرات العامة، محملًا برسالة من الملك سلمان ونجله محمد ولي العهد السعودي عن تطوير العلاقة الاستراتيجية بين البلدين.
كما تعودنا، فإن التزامن لا يعني بالضرورة وجود علاقة سببية بين الأحداث، ومع ذلك، أكد عمرو أديب، الإعلامي المصري الأبرز في قناة “إم بي سي مصر” التابعة لمجموعة “إم بي سي السعودية”، والمقرّب من آل الشيخ، عن الاستعداد لإطلاق حملة ضخمة من الأعمال الدرامية والمسرحية والغنائية خلال الـ 5 أعوام المقبلة بين البلدين، قد تصل إلى 60 مسلسلًا إلى جانب 15 مسرحية، برعاية هيئة الترفيه.
فنيًّا، من غير المرجح أن يتخلى النظام عن نفوذه المادي والرمزي في كعكة الدراما، إذ كان مرسي قد أعلن قبل الإطاحة به مباشرة عن التحضير لجزء ثالث من مسلسل “الاختيار”، بعد إشادة السيسي بالجزئين السابقين، ونجاحهما في الوصول إلى شرائح كبيرة من الجمهور.
ولكن المنتظر هو أن تشهد الساحة قيودًا أقل على الفنانين ورقابة أوسع على أوجه الإنفاق، بالمقارنة مع أداء مرسي، الذي سبب إزعاجًا وإحباطًا ومشاكل مع كثير من الممثلين والمنتجين، وهو منهج يتبناه الوجه الجديد، محمد السعدي، بشكل رئيسي.