لم يكن يتصور الرئيس الأميركي، جو بايدن، أن يأتي اليوم الذي تُتهم فيه “إسرائيل” داخل أروقة الكونغرس بممارسة الفصل العنصري بحق العرب، وهو ما ورد على لسان النائبة ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز، أو توصف بأنها “دولة إرهابية”، كما فعلت النائبة إلهان عمر.
تطور يتعارض من حيث الشكل مع المضمون الذي يشير إلى استخدام واشنطن حق النقض “الفيتو”، لمنع 3 قرارات منفصلة لمجلس الأمن الدولي بشأن وقف إطلاق النار، فضلًا عن الدعم المستمر لدولة الاحتلال في ممارساتها ضد الفلسطينيين، بدعوى “حقها في الدفاع عن النفس”، وتزويدها بأسلحة إضافية تقدر قيمتها بحوالي 735 مليون دولار.
لكن تطورات المشهد الميداني خلال الحرب الأخيرة التي شنتها قوات الاحتلال ضد أهل غزة، تلك التطورات التي فرضتها المقاومة من جانب، والوحشية الانتقامية الإسرائيلية (رد فعل) من جانب آخر، ألقت بظلالها على الداخل الأميركي الذي بات يرى في الدعم المطلق لـ”إسرائيل” ثقلًا، ربما تدفع الولايات المتحدة ثمنه غاليًّا من سمعتها الخارجية ومصالحها في الشرق الأوسط.
عدة تساؤلات طرحها خبراء ومحللون حول إمكانية خروج واشنطن عن السياق التاريخي الخاص بالدعم المتواصل لـ”إسرائيل” من منظور أخلاقي بحت (دعم إقامة دولة يهودية ردًّا على عقود من معاداة السامية في الدول المسيحية)، والتحول تدريجيًّا إلى مبدأ أكثر براغماتية، لا سيما في ظل التكلفة الباهظة التي يدفعها الأميركيون بسبب العلاقة الخاصة مع دولة الاحتلال… فهل من الممكن أن تُطرح تلك التساؤلات على موائد النقاش داخل أروقة الإدارة الأميركية؟
بايدن والحرب على غزة.. دلالات التدرج
تدرج موقف إدارة بايدن من الحرب في غزة بصورة حملت الكثير من الدلالات والرسائل، التي تتمحور جميعها في الإبقاء على سياسة “الدعم الكامل” لأي تحركات إسرائيلية، فالأيام الأولى للانتهاكات تجاهلت واشنطن -على المستوى الرسمي- ما يحدث في الأراضي الفلسطينية، وهو التجاهل الذي فُسر حينها بإعطاء الوقت الكافي للجيش الإسرائيلي لإحداث أكبر قدر من الخسائر في صفوف المقاومة الفلسطينية، لا سيما حركة “حماس” التي تصنفها أميركا كـ”جماعة إرهابية”.
وأمام الانتقادات التي تعرّض لها بايدن من قبل اللوبي الداعم لـ”إسرائيل”، داخل الحزب الديمقراطي وفي أروقة الكونغرس بصفة عامة، تحرك الرئيس ليعلن الدعم للتحركات الإسرائيلية بشكل علني ومباشر، حيث عبّر خلال أول مكالمتين له مع رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، عن “دعمه القوي لحق “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها ضد الهجمات الصاروخية التي تشنها حماس والجماعات الإرهابية الأخرى في غزة”.
وفي الاتصال الثالث الذي أجراه مع نتنياهو، وبينما كانت المقاومة تحقق انتصارات هائلة، أثارت هلع الشارع الإسرائيلي بصورة كبيرة، دعا بايدن إلى وقف إطلاق النار، لكنها دعوة باهتة خالية الدسم من أي إجراءات أو أدوات لتحقيقها، مع التأكيد مرة أخرى على دعم الكيان المحتل في الدفاع عن نفسه.
لم يدر بخلد بايدن، صاحب الخبرة السياسية الممتدة قرابة 25 عامًا، أن يحيا لهذا اليوم الذي يواجه فيه كل تلك الضغوط بسبب الدعم المطلق لـ”إسرائيل”.
لكن سرعان ما تغيرت اللهجة -أو هكذا صُور للمتابعين- مع البيان الصادر عن البيت الأبيض، تعليقًا على الاتصال الرابع الذي أجراه بايدن مع نتنياهو، والذي جاء فيه أن بايدن “ناقش مع نتنياهو التقدم الذي أحرزته “إسرائيل” في إضعاف قدرات حركة حماس ومنظمات أخرى في غزة”، وأنه أبلغ نتنياهو “أنه يتوقع خفضًا كبيرًا للتصعيد اليوم، تمهيدًا لوقف إطلاق النار في غزة”، ثم تعزز الأمر بعد ذلك بعد الدخول المصري على خط الأزمة، رافقه تدخلات قطرية وتركية.
المساعد السابق لوزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، ديفيد ماك، يعلق على هذا التدرج بالإشارة إلى أن الرئيس كان قلقًا حيال منسوب دعمه لـ”إسرائيل” في تلك الحرب، فهذا الموقف الجدلي كان “سيضعه على خلاف مع بعض الأعضاء الرئيسيين في الكونغرس الذين يحتاجهم إذا كانت له أي فرصة للحصول على أولوياته الداخلية، وكان عضوا مجلس الشيوخ السيناتور تشاك شومر، وزعيم الأغلبية الديمقراطية السيناتور بوب مينينديز رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ؛ أفضل الأمثلة على ذلك”.
وأضاف ماك: “ولحسن الحظ، ثبت أن دعم نتنياهو بين أعضاء الكونغرس -بمن فيهم العديد من الجمهوريين- أضعف مما كان يخشى بايدن، الذي لا يريد أن يُتهم بمساعدته على البقاء في السلطة، وأنه تجب محاكمة نتنياهو في الوقت الذي يرغب فيه في مواصلة هذا الصراع لأسباب سياسية أنانية خاصة به”، حسب تصريحاته لـ”الجزيرة”.
تصاعد الضغوط
لم يدر بخلد بايدن، صاحب الخبرة السياسية الممتدة قرابة 25 عامًا، أن يحيا لهذا اليوم الذي يواجه فيه كل تلك الضغوط بسبب الدعم المطلق لـ”إسرائيل”، رغم ما يمثله اللوبي الصهيوني في أميركا من مكانة سياسية واقتصادية هائلة، ما جعل من تلك الضغوط استثناء ربما يعكس دلالات أخرى.
الصحفية المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط، روزينا صبور، في تحليل لها في صحيفة “التلغراف” تحت عنوان “موقف جو بايدن المتشدد إزاء “إسرائيل” يهدد بتعميق الانقسامات داخل حزبه”، كشفت النقاب عن حزمة من الضغوط التي يتعرض لها الرئيس بسبب موقفه من تل أبيب.
أشارت صبور إلى أن أصوات الديمقراطيين -داخل الكابيتول- المعارضين للانتهاكات الإسرائيلية، باتت أكثر صخبًا من أي وقت مضى، إذ وصفت عضوة الكونغرس، كورتيز، “إسرائيل” بـ”دولة الفصل العنصري”، ووضعت تلك الأصوات بايدن في موقف حرج أمام الشارع الأميركي، الذي ربط القضية بمناقشات العدالة العرقية والاجتماعية في بلاده.
الدعم غير المشروع لـ”إسرائيل” سيزيد من صعوبة ادعاء أميركا التفوق الأخلاقي على المسرح الدولي، هذا في الوقت الذي تحاول فيه إدارة بايدن تحسين صورة الولايات المتحدة خارجيًّا بعد التشويه الذي أحدثته إدارة دونالد ترامب.
حاول بايدن مسك العصا من المنتصف خشية تفتت حزبه، ففي زيارته لولاية ميشيغان التقى عضوة الكونغرس الديمقراطية رشيدة طليب، فلسطينية الأصل، وحين اقترب منها أشاد بها ووصفها بـ”المقاتلة”، كما أكد أنه “سيفعل كل ما في وسعه لضمان بقاء عائلتها في الضفة الغربية بأمان”.
تجاوزت الانتقادات الموجهة لـ”إسرائيل” الجناحَ التقدمي في الحزب الديمقراطي، الذي يميل إلى التمسك بالقيم والأخلاقيات الوطنية الأميركية، إلى حلفاء الدولة العبرية ذاتها، فها هو السيناتور بوب مينينديز، الذي يعد أحد أقوى حلفاء “إسرائيل” داخل الحزب الديمقراطي، يدين الاعتداءات الإسرائيلية على غزة، تزامنًا مع تحركات داخل الكونغرس لمعارضة صفقة الأسلحة المقدمة لـ”إسرائيل” بقيمة 735 مليون دولار.
الكاتب البريطاني جيرارد بيكر في مقال له في صحيفة “ذا تايمز”، لفت إلى أن تقارير إعلامية أخبرته أنه “لا يمكن للولايات المتحدة أن تستمر في منح حكومة نتنياهو اليمينية المليارات سنويًّا لارتكاب جرائم ضد الفلسطينيين، لا يمكن التسامح مع الفظائع مثل قصف المدارس، ناهيك عن ارتكابها بأسلحة قدمتها الولايات المتحدة “.. وهنا التساؤل: هل تغير أميركا سياستها تجاه “إسرائيل”؟
هل يغير بايدن موقفه؟
كثير من المحللين الأميركيين يرون أن نهج بايدن في التعامل مع الملف الفلسطيني، يعد امتدادًا لتجربة إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، وهي التجربة التي كُللت برفض استخدام حق النقض ضد تصويت الأمم المتحدة التاريخي الذي يطالب بوقف المستوطنات في الأراضي المحتلة، الأمر الذي أثار غضب واستياء نتنياهو حينها.
في 27 مايو/ أيار الجاري، كتب أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، ستيفن وولت، مقالًا في مجلة “فورين بوليسي” تحت عنوان “حان الوقت لإنهاء “العلاقة الخاصة” مع “إسرائيل””، استعرض فيه مبررات ضرورة إعادة الولايات المتحدة النظر في دعمها المطلق لـ”إسرائيل”.
يرى وولت أن المرجعية الأساسية للدعم الأميركي المطلق للدولة العبرية، تقوم على أساس أخلاقي في المقام الأول، فإقامة دولة لليهود كان التعويض الأمثل لقرون من معاداة السامية في العالم المسيحي، بما في ذلك المحرقة الشهيرة “الهولوكوست”، مضيفًا أن هذا المبرر كان مقبولًا في السابق، لكنه اليوم لم يعد كذلك.
يعتبر الأكاديمي الأميركي أن الاحتلال الإسرائيلي الوحشي لفلسطين، والانتهاكات والجرائم المرتكبة بحق الأطفال وكبار السن والنساء، والتنكر لحقوق الفلسطينيين ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية داخل “إسرائيل” ذاتها، فضلًا عن الاستخدام غير الآدمي للآلة العسكرية في قتل وترهيب أهل قطاع غزة المحاصر، كلها ممارسات نجحت في تدمير تلك المبررات الأخلاقية التي يستند إليها الأميركيون في دعم الدولة العبرية.
استمرار السياسة الإسرائيلية بذات العقلية البنيامينية ربما يمثل ضغطًا كبيرًا على الإدارة الأميركية، التي تواجه شبح الازدواجية، بين الشعارات والواقع، في التعامل مع هذا الملف تحديدًا.
كما تساءل: هل تعد “إسرائيل” اليوم مكسبًا للولايات المتحدة كما كانت في السابق؟ مجيبًا أن الأمر لم يعد كذلك، في السابق وتحديدًا في الحرب الباردة كانت مساندة “إسرائيل” لأميركا في الحد من النفوذ السوفيتي في الشرق الأوسط مساندة قوية وفعالة، لكن اليوم تغير الوضع كثيرًا، فغاب هذا الدور خلال حربَي العراق مثلًا. وبدلًا من تقديم تل أبيب الدعم للقوات الأميركية، إذ بالأخيرة باتت مطالَبة بحماية الإسرائيليين وذلك بإرسالها صواريخ باتريوت أثناء حرب الخليج الأولى، حماية من الصواريخ العراقية.
ويعتبر أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد أن الدعم غير المشروع لـ”إسرائيل”، سيزيد من صعوبة ادعاء أميركا التفوق الأخلاقي على المسرح الدولي، هذا في الوقت الذي تحاول فيه إدارة بايدن تحسين صورة الولايات المتحدة خارجيًّا بعد التشويه الذي أحدثته إدارة دونالد ترامب طيلة السنوات الأربع الماضية.
وعليه فإن استمرار هذا الموقف -غير المبرر حاليًّا- سيجعل من الخطاب الفوقي الأميركي الناقم دائمًا على ممارسات خصومها، مثل روسيا والصين، ووصفها بتجاوز منظومة الأخلاقيات والقيم، خطابًا شعبويًّا بعيدًا عن الواقع تمامًا، وعليه يجهض محاولة أميركا إعادة تقديم نفسها باعتبارها الضامن لنظام عالمي يقوم على القيم والأخلاق.
الأمر ينسحب كذلك على مصالح أميركا في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، ومستوى تموضعها السياسي على الخارطة المناطقية الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني في شتى دول العالم، لا سيما أن التصعيد الإسرائيلي المستمر أثار غضب وامتعاض العديد من الحكومات، بعضها كان داعمًا قبل ذلك للكيان المحتل، والآخر كان يلتزم الحياد.
بين القطيعة وإنهاء العلاقة الخاصة
الكلفة الباهظة التي تتحملها أميركا جراء علاقتها الخاصة بـ”إسرائيل”، دفعت الكثير من الخبراء إلى التساؤل: هل يسمح ذلك بإعادة النظر في تلك العلاقة مستقبلًا؟ وهل من الممكن أن تصل إلى القطيعة التامة؟
وهنا تشير أصوات أميركية إلى أن إنهاء العلاقة الخاصة بين البلدين لا يعني القطيعة، لكن أن تكون العلاقات في إطارها الطبيعي، يتم دعم “إسرائيل” حين تستحق الدعم، وتقدم على فعل أشياء تنسجم مع مصالح وقيم الولايات المتحدة، ويتوقف حين ترتكب كوارث تعرض مصالح أميركا وصورتها الخارجية للخطر والتشويه.
صحيفة “وول ستريت جورنال” في افتتاحيتها بتاريخ 31 مايو/ أيار الماضي، كشفت أن “إسرائيل” قد تحصل على حكومة جديدة خلال الأيام المقبلة، لكنها ستواصل ميلها التقليدي نحو اليمين، وربما اليمين المتطرف، وأنها لن تشهد انعطافًا نحو اليسار.
وأضافت الصحيفة الأميركية أن تيارًا كبيرًا من الليبراليين الأميركيين ربما يفرحوا بمغادرة نتنياهو، الذي بات رمزًا للخلاف بين “إسرائيل” والديمقراطيين الأميركيين طيلة قرابة عقد كامل، لكن هذا لا يعني أن تغير “إسرائيل” توجهها اليميني أمنيًّا وسياسيًّا، وعليه ترى الصحيفة أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة ستسير على المسار ذاته، حتى إن تغيرت الأسماء والوجوه.
استمرار السياسة الإسرائيلية بذات العقلية البنيامينية ربما يمثل ضغطًا كبيرًا على الإدارة الأميركية، التي تواجه شبح الازدواجية، بين الشعارات والواقع، في التعامل مع هذا الملف تحديدًا، الأمر الذي يدفعها إلى البحث عن آليات جديدة للتعاطي مع هذا التوجه الذي قد يهدد مصالحها وصورتها الخارجية.
وفي النهاية، إن التعويل على قطيعة جزئية أو كاملة لمسار الدعم الأميركي لـ”إسرائيل”، هو هروب من الواقع وجهل فاضح بتفاصيل الصورة، لكن استغلال تلك الوضعية الجديدة في أسلوب تعاطي الأميركيين مع دولة الاحتلال، ومحاولة توظيف ذلك لصالح القضية الفلسطينية، هو الملف الذي يجب أن يوضع تحت مجهر الاهتمام العربي.. لكن كيف ذلك؟ هذا ما سيتم التطرق إليه لاحقًا.