مأساة مفجعة بقيت طي النسيان طيلة قرن بأكمله في ظل سيادة مجتمع البيض والنظرة التحتية للسود من أصل أفريقي، حين قَتل البيض مئات السود في أعمال إعدام مروعة بتغطية أو تغاض من قوات الشرطة والأمن.
“الأحداث التي نتكلم عنها وقعت قبل 100 عام، ومع ذلك فأنا أول رئيس منذ 100 عام يأتي إلى تولسا”، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن، اليوم الأربعاء، في حفل بالذكرى المئوية للمأساة، في تولسا بولاية أوكلاهوما، حضره 3 ناجين من المجزرة، تزيد أعمارهم على 100 عام.
وقال بايدن إنه جاء من أجل “المساعدة في كسر الصمت” ومن أجل “جعل الحقيقة تدوي”.. فماذا حدث قبل 100 عام؟
تفاصيل الحادثة
تُعرف باسم “مذبحة تولسا العرقية”، وهي واحدة من أشد حوادث العنف العنصري في تاريخ الولايات المتحدة، حدث ذلك في تولسا بأوكلاهوما يومي 31 من مايو/أيار وأول يونيو/حزيران سنة 1921 مخلّفة مئات القتلى، ودمرت حي غرينوود المزدهر في تولسا، المعروف باسم “بلاك وول ستريت”.
تبدأ الحادثة في مصعد مبنى دريكسيل في ثيرد آند ماين، عندما تعثر ملمّع أحذية يدعى ديك رولاند (19 عامًا) – وهو في طريقه إلى أقرب منزل به مرحاض مخصص للسود في الطابق العلوي – وسقط في المصعد وأمسكت يده بطريق الخطأ بكتف سارة بيج، وهي عاملة بيضاء تبلغ من العمر 17 عامًا، صرخت الفتاة وشوهد رولاند وهو يهرب.
في اليوم التالي، نشرت صحيفة تولسا تريبيون المحلية تقريرًا عن الحادث تقول فيه إن رولاند حاول اغتصاب الفتاة البيضاء واتهمته بالمطاردة والاعتداء على الفتاة البيضاء بالتزامن مع ذلك تم القبض على الشاب وأودع في سجن المحكمة، فانتشرت الإشاعة في المدينة بسرعة، فتجمع رجال البلدة البيض أمام مبنى المحكمة بهدف النيل منه.
أحصت بعض التقارير مقتل 300 شخص في هذه الأحداث أغلبهم من الأمريكيين الأفارقة، وقد ألقيت كثير من الجثث في النهر
بدأ القلق بشأن مصير الشاب يساور مجتمع السود، فقد كان لديهم كل الأسباب للاعتقاد بأن ديك رولاند سيُعدم دون محاكمة بعد اعتقاله، فالتقى الرجال السود بدورهم أمام سجن المحكمة لحماية الشاب، خاصة أن هذه لم تكن أول عملية إعدام جماعي في هذه المدينة التي تتمتع فيها جماعة “كو كلوكس كلان” العنصرية بالقوة.
بدأت مناوشات متفرقة بين البيض والسود المجتمعين هناك، فجأة تم سماع إطلاق نار من مسلّح مجهول تجاه الحشود، فانفجرت الأحداث وسرعان ما تحولت إلى مواجهات دامية لم يسمع بمثلها واشتعلت مذبحة تولسا.
انسحب السود ولجأوا إلى كنيسة هناك للتحصّن فيها، لكن تم اللحاق بهم وأشعل البيض النيران في الكنيسة، فاضطر السود للخروج من هناك وبدأت المواجهات في الشوارع، نتيجة خروج الوضع عن السيطرة أعلن حاكم المدينة الأحكام العرفية، ووصلت قوات الحرس الوطني إلى تولسا.
على الرغم من التحذيرات من تفاقم الوضع في المدينة، لم تتحرك السلطات المحلية لحماية السود، بل بالعكس فبعض التقارير تقول إن سلطات المدينة سلحت البيض لاستهداف السود في حي غرينوود على الضفة الشمالية لنهر أركنساس، حيث يعيش 10 آلاف أمريكي من أصل إفريقي، بينهم العديد من التجار والمحامون والأطباء.
على الرغم من كونهم في وضع غير موات عدديًا، حاول السود حماية منازلهم وأعمالهم ومجتمعهم، لكن في النهاية، كان البيض يفوقون عدد سكان المدينة من الأمريكيين من أصل إفريقي، فكانوا ضحية همجية البيض وتواطؤ السلطات المحلية معهم.
في غضون يومين سوّي الحي بالأرض، ونهبت وحرقت المنازل والمتاجر بالقنابل التي أسقطتها الطائرات الخاصة، ودمّر نحو 1400 مبنى، وشرد ما يقرب عن 15 ألف شخص، كما أحصت السلطات بضع عشرات من القتلى.
أحصت بعض التقارير مقتل 300 شخص في هذه الأحداث أغلبهم من الأمريكيين الأفارقة، وقد ألقيت كثير من الجثث في النهر، ووجدت جثث متفحمة في البيوت، وكشفت الحفريات الأخيرة بقايا بشرية في مقبرة تولسا يمكن أن تكون لضحايا من عام 1921.
قوات الأمن والسلطات شركاء في الجريمة
نزلت قوات الحرس الوطني للشوارع لإخماد النيران المندلعة في بيوت ومحلات السود ووضع حدّ لأعمال العنف واستهداف الأفارقة. وأخذوا الأسلحة النارية من البيض لكن في المقابل لم يقدموا الحماية للسود، بل زادوا من معاناتهم.
اعتقلت قوات الحرس آلاف السود – يُقال تجاوز عدد المعتقلين 6 آلاف – تم اعتقالهم واحتجازهم في قاعات المؤتمرات والمباني المخصصة للمعارض وفي مراكز أخرى للاحتجاز، واستمر احتجاز بعضهم لثمانية أيام.
في الأثناء تم سرقة ممتلكاتهم التي تركت في المنازل والشركات، كما قام بعض الأشخاص، بإحراق المنازل أو تدميرها بشكل متعمد – بما في ذلك الكنائس والمدارس والشركات وحتى المستشفى والمكتبة – في منطقة غرينوود، كل ذلك تم تحت أعين قوات الحرس.
نفهم من هنا أن السلطات المحلية وقوات الحرس الوطني لم يسعوا إلى إيقاف العنف بل أضافوا إليه من خلال تسليح البيض أو غضّ الطرف عن أعمالهم الإجرامية تجاه السكان السود من أصل إفريقي، لنكون أمام واحدة من أكثر أحداث الصراع مأساوية وقعت في حق الزنوج.
ليس هذا فحسب، بل إنه لم تتم مقاضاة أو معاقبة أي شخص تورّط في هذه الأعمال الإجرامية حتى بعد استعادة النظام، فالجناة يسيرون بحرية في الشوارع والضحايا في الغابات خائفين، حتى في عملية إعادة البناء لم تسهم السلطات المحلية بشكل كبير في العملية، بل تصرفت في البداية لعرقلة إعادة البناء.
كما رفض مسؤولو تولسا بعض عروض المساعدة الخارجية للسكان السود الذين أصبحوا بلا مأوى في المدينة، وترك السود يواجهون مصيرهم بأنفسهم فلم يكف قتلهم بالرصاص، إذ تم التنكيل بهم وتركهم دون مأوى ولا أكل لفترة طويلة.
كذلك، أمر رئيس شرطة تولسا ضباطه بالذهاب إلى جميع إستوديوهات التصوير الفوتوغرافي في المدينة ومصادرة جميع الصور التي تم التقاطها للمذبحة، هذه الصور تم اكتشافها لاحقًا وأصبحت المواد التي استخدمتها لجنة أوكلاهوما لدراسة المذبحة.
لعبت التغطية الصحفية بلا شك دورًا كبيرا في إثارة هذا الحدث الذي يُعدّ أحد أسوأ حوادث العنف العنصري في تاريخ الولايات المتحدة
لم يكتف مسؤولو مدينة تولسا بالتستر على حمام الدم، بل غيروا أيضًا رواية المذبحة عن طريق وصفها بأنها “شغب” وإلقاء اللوم على المجتمع الأسود فيما حدث، أيضًا أطلق على هذه المذبحة تسمية “شغب تولسا”، وقد تم إعطاؤها هذا الاسم في ذلك الوقت لخدمة شركات التأمين، فقد أدى تصنيفها على أنها أعمال شغب إلى منع شركات التأمين من الاضطرار إلى دفع تعويضات لأهالي غرينوود الذين دمرت منازلهم وأعمالهم.
يُذكر أن منطقة غرينوود في تولسا، تعدّ في ذلك الوقت واحدة من أبرز المجتمعات ازدهارًا في البلاد، فقد اكتسبت المدينة – التي أسسها العديد من أحفاد العبيد – سمعة كبيرة وأصبحت مركزًا تجاريًا مميزًا بفضل الثروة النفطية.
تجاهل رسمي
على الرغم من فظاعة هذه المجازر العرقية وما خلّفته بحق السكان السود من أصل إفريقي، فقد اختار الأمريكان تجاهلها وبالكاد تم ذكرها في كتب التاريخ حتى أواخر التسعينيات، عندما تم تشكيل لجنة حكومية لتوثيق الحادث.
لفترة طويلة لم يتم ذكر المذبحة إلا قليلًا في الصحف والكتب المدرسية والمؤسسات المدنية والحكومية، إذ لم يتم تضمين المذبحة في مناهج مدارس أوكلاهوما الحكومية حتى عام 2000، ولم تدخل كتب التاريخ الأمريكية حتى السنوات الأخيرة.
حتى السود اختاروا عدم الحديث عن المذبحة لفترة طويلة، أولًا بدافع الخوف، فإذا حدث مرة واحدة، يمكن أن يحدث مرة أخرى، ثانيًا خشية أن تلاحقهم السلطات المحلية التي منعت الحديث عن هذه المجزرة العرقية، ثالثًا لم يرغب الكثير من الضحايا في إثقال كاهل أطفالهم وأحفادهم بهذه الذكريات المروعة.
لعبت التغطية الصحفية بلا شك دورًا كبيرًا في إثارة هذا الحدث الذي يُعدّ من أسوأ حوادث العنف العنصري في تاريخ الولايات المتحدة، كما لعبت دورًا أيضًا في التغطية على جرائم البيض، فلفترة طويلة من الوقت بقيت المجزرة طيّ النسيان فقد تمّ إسكات التقارير الإخبارية رغم حقيقة أن مئات الأشخاص قتلوا والآلاف تم تشريدهم.
أما خطوة بايدن فقد تأخرت بدورها 100 عام، ويبدو أنها تأتي للطبطبة وبيع المشاعر لا أكثر، فقد أعرب عن أسفه لأن هذه المجزرة العنصرية “ظلت فترة طويلة من تاريخنا طي النسيان. ما أن ارتُكبت حتى كان هناك جهد واضح لمحوها من ذاكرتنا”، مشيرًا إلى أن “بعض المظالم فظيعة ومخيفة ومؤلمة لدرجة أنه لا يمكن أن تظل مدفونة”، لكن لم يقدم اعتذارًا رسميًا ولم يتحدث عن تعويضات لذوي الضحايا.