لم يعد خافيًا على أحد حجم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها لبنان، والتي تنذر بانهيار البلد على المستوى الاقتصادي، مع ما يمكن أن يتبع ذلك من تداعيات أخرى، خاصة أن الأزمة الاقتصادية التي يعيشها البلد، والتي تزامنت مع الأزمة الصحية المتمثلة بانتشار وباء كورونا، والتي رافقها أيضًا كارثة انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/ آب 2020، شكلت بمجموعها حزام أزمات يحيط باللبنانيين من كل صوب.
وفاقم من تأثير هذه الأزمات انعدام المسؤولية لدى الطبقة السياسية الحاكمة، التي فشلت حتى اليوم في التوصل إلى اتفاقات أو تسويات أو تفاهمات على إدارة المرحلة الصعبة والدقيقة، وعلى إجراء إصلاحات إدارية وتشريعية تحدّ من الأزمة، وتمثلَ هذا الفشل بشكل أساسي في فشل هذه الطبقة في تشكيل حكومة جديدة تكون وظيفتها الأساسية انتشال لبنان من هذه الأزمات، من خلال الإصلاحات المطلوبة.
تقرير البنك الدولي
لقد كان لافتًا خلال الأيام الماضية تقرير البنك الدولي الفصلي في عدد “ربيع 2021″، والذي جاء بعنوان “لبنان يغرق”. وقد صنف التقرير أزمة لبنان الاقتصادية بأنها من أشد 10 أزمات في العالم، بل أشار إلى أن لبنان يغرق نحو أسوأ 3 أزمات شهدها العالم.
كما أشار التقرير إلى تراجع دخل الفرد في لبنان حتى بات يتراوح ما بين 900$ إلى 3000$ سنويًّا للفرد الواحد، بحسب طبيعة العمل، ما أفقد اللبنانيين جزءًا من قدرتهم الشرائية، لأنهم يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية، وأن واحدًا من بين كل 5 عمال فقد وظيفته، وأن 41% من العائلات لديها صعوبات في الوصول إلى الطعام والأساسيات الأخرى، و36% من الأسر لديها صعوبات في الوصول إلى الرعاية الطبية… إلخ.
وأشار تقرير البنك أيضًا إلى تراجع الناتج المحلي اللبناني من 55 مليار دولار عام 2018 إلى 33 مليار دولار عام 2020، وتوقع تقرير البنك مزيدًا من التضخم ومزيدًا من تدني قيمة الليرة عام 2021، وبالتالي تفاقمًا لحجم الأزمة.
بلغت الأزمة الاقتصادية مستويات عالية حيث إن الدولار الأميركي تخطى في السوق اللبنانية الموازية عتبة 13 ألف ليرة لبنانية لكل دولار خلال الأيام الماضية.
تفاقم الأزمة وغياب الحل
الجميع في لبنان يدرك أن مفتاح حل الأزمة الاقتصادية التي أرخت بثقلها على كل شيء هو في حل الأزمة السياسية، ومفتاحها الأساسي في تشكيل حكومة جديدة بعد استقالة حكومة حسان دياب، إثر انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/ آب من العام الماضي.
غير أن كل المساعي التي بُذلت ولا تزال تُبذل حتى اليوم، لم توصل القوى السياسية الحاكمة والمؤثرة إلى قناعة بضرورة تشكيل الحكومة من أصحاب الاختصاص والمشهود لهم بالكفاءة والنزاهة.
وقد وضع الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة، سعد الحريري، معايير لتشكيل الحكومة واختيار الوزراء، غير أن منطق المحاصصة الطاغي على أغلب القوى السياسية، ومنطق التحكم بالبلد في نظام قائم أصلًا وأساسًا على نوع من توزع مواقع القوى والتوازن بينها، جعل مساعي الرئيس المكلف تذهب هباء.
وأدى ذلك بالتالي إلى استمرار حالة الفراغ وتصريف الأعمال في الحكومة المستقيلة، ما ضاعف من حجم الأزمة الاقتصادية لأن لبنان، وكما يدرك ويعلم الجميع، يحتاج إلى مساعدات ورعايات من الخارج لرفد دورته الاقتصادية وإنعاشها من جديد، وهو الشيء غير المتوفر حاليًّا بالنظر إلى أن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والدول المانحة أو الدائنة تشترط جملة من الإصلاحات في شتى الميادين قبل السماح للبنان بتلقي الأموال.
إذًا غياب الحكومة الأصيلة يعطل أو يؤخر عملية الإصلاح، ومنطق المحاصصة والاستئثار يعطل تشكيل الحكومة، وتعطيل الحكومة يضاعف من حجم الأزمة السياسية والمالية والاقتصادية، وينذر لبنان بانهيار شامل إذا ما استمر هذا المنحى بهذا الاتجاه.
لقد بلغت الأزمة الاقتصادية مستويات عالية، حيث إن الدولار الأميركي تخطى في السوق اللبنانية الموازية عتبة 13 ألف ليرة لبنانية لكل دولار خلال الأيام الماضية، وذلك بسبب فقدان العملة الصعبة من الأسواق اللبنانية لأسباب عديدة.
وقد دفع هذا الموضوع إلى تحذير المصرف المركزي أكثر من مرة من أنه لن يكون قادرًا مع نهاية شهر يونيو/ حزيران على مواصلة دعم سلع أساسية وضرورية في حياة الناس، ما يمكن أن يرفع أسعار هذه السلع فيما لو رُفع الدعم عنها إلى 5 أو 6 أضعافها حاليًّا، ولكن الاستمرار في دعمها أيضًا يشكل خطرًا على وضعية المصارف، وقد تلقى بعضها إخطارات من المصارف الدولية ومن الشركات الكبرى بعدم التعامل معها، فيما لو فقدت الاحتياطات المالية اللازمة المتوفرة لها في المصرف المركزي اللبناني.
وعليه فإن المسؤولين لجؤوا إلى حيلة جديدة، تعد شكلًا من أشكال رفع الدعم غير المباشر عن بعض المواد والسلع وبطريقة غير معلنة، كما في حالة وقود السيارات (البنزين).
فقد لجأ المصرف المركزي إلى خفض مستوى دعمه لهذه السلعة الأساسية، من خلال تقنين فتح الاعتمادات المالية لشرائها، وبالتالي باتت كميات البنزين التي تتوفر للسوق اللبنانية محدودة، ما “خلق” أزمة من نوع آخر تمثلت بطوابير من السيارات أمام محطات الوقود كل يوم، للحصول على صفيحة بنزين واحدة أو أقل.
وهذا النموذج جرى تطبيقه بطريقة غير معلنة على سلع ومواد غذائية أخرى، وحتى على الأدوية، وهذا الشيء جعل العديد من السلع والأدوية تختفي من الأسواق اللبنانية وتغيب عن رفوف محلات المواد الغذائية والصيدليات، وباتت الأزمة أعمق وليست محصورة في الغلاء فحسب، بل في توفر السلع والمواد المطلوبة في الأسواق.
تداعيات الأزمة الاقتصادية
لقد خلفت الأزمة الاقتصادية نتائج وتداعيات ما زالت متواصلة، وتنذر بانهيار البلد، وكان لفقدان العملة الأجنبية (الدولار) من الأسواق، أو ندرة وجودها فيها، تأثير كبير خاصة لناحية الأزمة التي ضربت العديد من القطاعات، والتي كان لبعضها تأثير بدوره على مضاعفة الأزمة، كما في مجال صيانة محطات توليد الطاقة الكهربائية، مع ما يتصل بها من أعمال ومؤسسات ومشاريع وخلاف ذلك.
وقد تأثرت هذه القطاعات بشكل كبير جدًّا، فالكهرباء اليوم في لبنان تكاد تغيب عن منازل اللبنانيين لفترات طويلة تصل إلى قرابة 18 ساعة يوميًّا، في حين يعتمد اللبناني على المولدات الخاصة التي تنتج الكهرباء، والتي غالبًا ما تكون أسعارها عشرات أضعاف تسعيرة كهرباء الدولة، فضلًا عن أن هذا القطاع الخاص بدأ أيضًا يئن ويلجأ إلى نوع من تقنين توزيع الطاقة للمنازل، بسبب ارتفاع أسعار المحروقات (المازوت والديزل) وندرة وجودها.
قطاع التعليم لم يسلم من تداعيات الأزمتين الصحية والاقتصادية بسبب غياب المعالجات الصحيحة، ما أفقد الطلاب عامَين دراسيَّين في ظل الأزمة الاقتصادية وأزمة كورونا.
وإلى جانب قطاع الكهرباء، فقد تضرر أيضًا قطاع المياه بشكل كبير في بلد يعد من البلدان الغنية بالمياه، غير أن الأزمة حرمت اللبنانيين من الاستفادة من مياه الأنهار والينابيع وحتى الأمطار.
كما كان للأزمة الاقتصادية أضرار على قطاع خدمات الصرف الصحي، فكثير من مشاريع الصرف الصحي سواء لناحية التكرير أو التمديد أو غيرها متوقفة بسبب الأزمة، وهذا يؤثر بشكل كبير على البيئة، لا سيما في المناطق الكثيفة والمدن الكبرى، وبالتالي إن الوضع البيئي يؤثر غالبًا على الموضوع الصحي.
وارتباطًا بمسألة الصرف الصحي، هناك ملف النفايات الذي لا يقل خطورة، والذي غاب عن الاهتمامات بسبب الأزمة الاقتصادية، وترك الأمر فيه يسير بشكل “فوضوي” إذا صح التعبير، ويتجلى ذلك بشكل واضح في اعتماد مكبات للنفايات في محيط المرافق الحيوية الكبرى، كمطار أو مرفأ بيروت.
حتى إن قطاع التعليم لم يسلم من تداعيات الأزمتين الصحية والاقتصادية بسبب غياب المعالجات الصحيحة، ما أفقد الطلاب عامَين دراسيَّين في ظل الأزمة الاقتصادية وأزمة كورونا.
لبنان إذًا يعيش أيامًا صعبة، وينتظر الحلول الغائبة حاليًّا في ظل طبقة فاسدة تتحكم بمصيره، وفي ظل تراجع الاهتمام الدولي والعربي وعدم الالتفات لمساعدته، وفي ظل ازدحام المشكلات في أكثر من مكان في المنطقة وعبر العالم.
إن هذا ينذر بالفعل بانهيار البلد وتفككه وزواله. غير أن هناك من يعتبر ويرى أن ما يجري يأتي في سياق الضغوط التي تمارَس، داخليًّا وخارجيًّا، لإرغام بعض الأطراف على التخلي عن سياسات معينة وتغيير سلوكها لاعتماد سياسات أخرى، أو لجعلها تستسلم لإرادة قوى خارجية متهمة بمحاولات السيطرة والسطو على البلد ومقدراته وخيراته.
وهنا يبدي البعض تخوفًا من أن يكون الطريق الوحيد للخروج من نفق هذه الأزمة، عبر اللجوء إلى خلط الأوراق من جديد على مستوى المنطقة، بحيث يعاد النظر بكثير من ملفاتها وفقًا للحسابات الجديدة التي ستنشأ جراء سياسة خلط الأوراق، وقد تكون بعض الأطراف التي تعادي بعضها على مستوى المنطقة بحاجة، في هذه المرحلة، إلى مثل هذه العملية التي تشكل بالنسبة إلى الكثيرين منهم طوق النجاة.
ومن هنا يعبّر البعض عن خشيته من أن يكون صيف لبنان ساخنًا وحارًّا جدًّا على كافة المستويات هذه المرة.