ترجمة وتحرير: نون بوست
سنة 2010، وقبل أشهر من اندلاع الثورة السورية، قامت مجموعة من صناع الأفلام مجهولي الهوية في دمشق بتأسيس ما سيعرف لاحقا بالمجموعة الشهيرة عالميًا “أبو نظارة“. وكانت رسالتهم بسيطة: المطالبة بحق غير وارد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، “الحق في الصورة”.
بالنسبة للمجموعة، فإن أي تمثيل للمعاناة الإنسانية يعد خيارا سياسيا وأخلاقيا، وجميع المتعرضين لانتهاكات حقوق الإنسان الذين يتم تصويرهم بدون إعطائهم صوتا يُجرّدون من كرامتهم.
لعل أكثر الصور حساسية كانت الصورة الشهيرة للطفل السوري آلان كردي، الذي تم تصوير جثمانه ملقى على وجهه على شاطئ تركي سنة 2015. طلبت عائلته من وسائل الإعلام التوقف عن استخدام الصورة، وقد اعتبر صناع الفيلم إلى أن ذلك انتهاك لحقوق الإنسان.
بمجرد اندلاع الثورة، أصبحت مقاطع الفيديو الخاصة بالمجموعة، والتي تتناول قضايا الاعتقال والتعذيب في سوريا، أكثر انتشارا. وسط التغطية الإعلامية التقليدية للحرب، بما في ذلك صور المدن التي تعرضت للقصف ومخيمات اللاجئين البائسة والجثث المنتشرة في الشوارع، كان هدف المجموعة أن تقدم شيئا مختلفا في نقلها لوقائع الصراع والفظاعات من خلال تحويل الانتباه نحو تجارب الأفراد.
ابتكرت المجموعة مصطلح “سينما الطوارئ”، وأنتجت عددا من الأفلام القصيرة التي تغطي جوانب من التجربة السورية المعاصرة بأسلوب هجائي، وتتحدث عن موضوعات مثل الثورة والتهجير والرقابة ومقاومة التطرف الديني.
للوهلة الأولى، تبدو تلك الأفلام، لا سيما سلسلة “سجن صيدنايا: كما رواه السوري الذي أراد الثورة”، كأنها محاكمة لنظام حقوق الإنسان الدولي الذي فشل في ردع الفظائع التي ارتكبها نظام الأسد وإيجاد حل لما يمكن وصفها بأكبر كارثة إنسانية في عصرنا.
مع ذلك، وبعيدًا عن توجيه الاتهامات والانتقادات، فإن ما يفعله صانعو هذه الأفلام في الواقع هو الدعوة إلى نقلة نوعية في فهم ما ماهية حقوق الإنسان في المجتمع الدولي، وإجبار أنصار حقوق الإنسان على مواجهة إشكاليات توثيق الانتهاكات التي تستثني المعرضين للمظالم من صياغة تلك تقارير المنظمات الحقوقية.
تعد هذه الأفلام من الأمثلة الكثيرة على مؤلفات السجون التي تحللها شريعة طالقاني في كتابها الجديد، “قراءات في أدب السجون السوري: شاعرية حقوق الإنسان“، وهو العمل الأكثر شمولاً من نوعه في تناول حقوق الإنسان وأدب السجون السورية.
في ندوة عبر الإنترنت في 26 شباط/ فبراير، قال الروائي والمترجم العراقي سنان أنطون إن هذا الكتاب المتقن سيكون أحد “الكتب الواجب قراءتها لأي مهتم بالأدب العربي الحديث، بل وجميع المهتمين بحقوق الإنسان، وخاصة في جنوب الكرة الأرضية”.
مصدر الإلهام
بدأ اهتمام الإيرانية الأمريكية شريعة طالقاني – الأستاذة المساعدة لدراسات الشرق الأوسط في جامعة “كوينز كوليدج” بمدينة نيويورك – بحقوق الإنسان في المدرسة الثانوية، عندما فكرت في أن تصبح ناشطة أو محامية. ولكن في أعقاب أحداث 11 أيلول/ سبتمبر واستغلال حكومة الولايات المتحدة لمصطلح (حقوق الإنسان) تحت ستار ما يسمى بـ “الحرب على الإرهاب”، أصبحت طالقاني أكثر تشككًا حول ماهية المصطلح وبدأت بنقد الخطاب الغربي المتناقض حول حقوق الإنسان.
لكن ما أثار اهتمامها بأدب السجون السوري كان إحدى محاضرات الدراسات العليا في جامعة نيويورك مع الروائي اللبناني الشهير إلياس خوري. كانت الدراسات الأدبية السورية باللغة الإنجليزية ولا تزال شحيحة إلى حد كبير، وقد تم إهمال الكثير من أدب السجون السوري في الدراسات الأكاديمية باللغة الإنجليزية. قبل سنة 2011، لم يكن هناك ترجمات إلا لعدد قليل من الأعمال، بما في ذلك أعمال الكتّاب والشعراء السوريين المعروفين، مثل زكريا تامر ونزار قباني وحنا مينه.
خلال بحثها، وجدت طالقاني أن النقاد العرب ربطوا بين أدب السجون وخطاب حقوق الإنسان قبل ظهور هذا الفرع الأدبي في الولايات المتحدة بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر.
في ذلك الوقت، بدأت طالقاني مشروع ترجمة جماعية، باقتراح من الشاعر أميل ألكالاي وبدعم من خوري، لديوان “حمامة مطلقة الجناحين” للكاتب فرج بيرقدار. ومنذ ذلك الحين، واصلت طالقاني دراسة الأعمال الأدبية المتعلقة بالاعتقالات والسجون. ومع أن كتابها ذو طابع أكاديمي، ويستند إلى دراسات هذا النوع الأدبي ودراسات حقوق الإنسان، إلا أنه يستهدف أيضًا جمهورا أوسع.
في مقدمة الكتاب، توضح الكاتبة بشكل صريح حدوده وأنه ليس تأريخا للسجون السورية أو حركات حقوق الإنسان في سوريا. بدلاً من ذلك، فإنها تسعى للإجابة سؤالين: “ما الذي يمكن أن نتعلمه من خلال قراءة أدب السجون السوري؟ وما الذي تعلمنا إياه أدبيات السجون السورية عن الإنسانية وحقوق الإنسان؟”
في حين أن معظم الدراسات الأكاديمية المؤلفة باللغة الإنجليزية حول تداخل الأدب وحقوق الإنسان قد ركزت على الروايات أو المذكرات، تتناول طالقاني أنواعا أدبية أخرى، مثل القصة القصيرة والشعر وأشكال أدبية أخرى تصور تجربة الاعتقال وتنطق بلسان المساجين.
رُتبت فصول الكتاب حسب المواضيع، وتشمل عناوين مثل إشكالية تصنيف أدبيات السجون كنوع أدبي، والضعف والاعتراف، وتمثيل التعذيب، وتصوير بيئة وحياة السجون، والعلاقة بين ما وراء السرد في السجون والمنفى. كما يحتوي الكتاب على فصل مستقل عن سجن تدمر العسكري المعروف في منطقة تدمر، بالإضافة إلى خاتمة تجمع كل هذه القضايا وتقدم إجابة على استفساريها الأولين.
“أدب السجون”: مصطلح إشكالي؟
من المؤكد أن أدب السجون وكتّاب السجون ليسوا محصورين في سوريا أو العالم العربي أو الشرق الأوسط. في السياق “الأنجلو أمريكي”، يتم تصنيف الأعمال المكتوبة من منظور السجين في خانة أدب السجون.
ويزعم الباحث ديلان رودريغيز في فحصه لكتابات المثقفين الأمريكيين الراديكاليين ممن عاشوا تجربة السجن، أن المصطلح غالبا ما يتم تسويقه ويستهدف بعض القراء الليبراليين. ويؤدي استخدام مصطلح “أدب السجون” إلى إعادة إنتاج النظام التأديبي المهيمن، لأنه من خلال تعريف العمل على أنه كتابة من داخل السجن، يفقد عموميته ويصبح محدودا في إطار معيّن.
في الواقع، يرفض بعض الكتاب السوريين الذين كتبوا مؤلفات في السجن تصنيف أعمالهم ضمن أدب السجون، على غرار المفكر الماركسي البارز المنشق ياسين الحاج صالح، الذي تجنب استخدام هذا المصطلح في مقدمته لكتاب “بالخلاص، يا شباب: 16 عاما في السجون السورية” بسبب طبيعته كسيرة ذاتية. وبدلا من ذلك، فقد ربط المصطلح بأعمال النثر الخيالية – مثل رواية القوقعة لمصطفى خليفة، أو القصص القصيرة لجميل حاتم.
ويعتبر مؤلفون آخرون، مثل فرج بيرقدار، مذكراتهم جزءا من أدب السجون، ولكنهم يشعرون بمزيد من القلق عندما يطبق اسم أدب السجون على أعمال أخرى أنتجوها في السجن، مثل الأعمال الشعرية، والتي قد لا تتحدث عن تجربة الاعتقال بشكل مباشر. وعلى غرار أدب السجون أو كتابة السجون باللغة الإنجليزية، فإن أدب السجون يعتبر نوعا غامضا وغير مكتمل في مجال الأدب العربي.
في السياق العربي والسوري، يُسجن العديد من الكتاب لأسباب سياسية صريحة، وتأتي التسمية من المعتقلين أنفسهم في كثير من الأحيان. لذلك تتمسك طالقاني في نهاية المطاف بالمصطلح كضرورة سياسية في سياقه السوري، وهي بادرة تهدف إلى احترام إبداع عدد من المؤلفين الذين كتبوا نصوصهم الخاصة، لا سيما في غياب برامج للكتابة الإبداعية والتعليم داخل سجون الشرق الأوسط التي ترعاها الدولة.
مواثيق وحدود الخطاب الحقوقي
قد يتهم أحد القراء السطحيين طالقاني بانتقاد منظمات حقوق الإنسان الدولية، لكن هذا بعيد كل البعد عن جوهر القضية. كان نقدها أكثر دقة بكثير، حيث استهدفت نظام ولغة وخطاب حقوق الإنسان، والتي لا تملك المنظمات الحقوقية خيارا سوى العمل ضمنها أو معها أو عبرها.
اتبعت طالقاني في نقدها خطى مفكرين آخرين قاموا بكشف الاختلالات في النظام والتي تحتاج إلى تصحيح، ولا سيما فكرة أن الدولة القومية تعتبر الحامي المفترض لحقوق الإنسان. وتزعم طالقاني أيضا بأن الدول كيانات قادرة على ارتكاب أكثر انتهاكات حقوق الإنسان فظاعة (وهي نقطة أثارتها حنة آرنت حتى قبل ظهور إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان في سنة 1948).
في تعقب تاريخ حقوق الإنسان، تكشف طالقاني عن الطريقة التي جاء بها المفهوم الحديث بوصفه مفهوما معقدا، له العديد من التأثيرات، بما في ذلك الأعمال الأدبية.
إن النقطة التي تثيرها طالقاني مقنعة من خلال القراءة الدقيقة للنصوص الأدبية إلى جانب تقارير حقوق الإنسان. وعندما تستثني تقارير حقوق الإنسان أصوات الناجين الناجية من الانتهاكات وضحاياها، فإنها تسهل على الحكومات أن تواصل انتهاكاتها.
الطريقة الوحيدة التي نعرف من خلالها ما يحدث في سوريا وحول العالم من انتهاكات وفظائع هي العمل الذي يقوم به نشطاء حقوق الإنسان لتوثيق وجمع الأدلة وأخذ الشهادات
على الرغم من أن هذا الأمر يحدث فقط من حين لآخر، إلا أنه عندما يحدث، فإن أولئك الذين يُفترض أن يتعاملوا مع مثل هذه التقارير يكونون أقل ميلا للتعاون. ومن الأمثلة على ذلك تقرير قيصر الذي يصور الأشخاص الذين تعرضوا للتعذيب والجوع والتشويه أثناء الاحتجاز، وقد عُرض في الأمم المتحدة والمتحف التذكاري للهولوكوست بالولايات المتحدة.
وفيما يرى بعض المفكرين الذين ينتقدون مفهوم ونظام حقوق الإنسان أنه لا بد أن يتم حل النظام بالكامل، فإن طالقاني ترد بسؤال: أين سيذهب أولئك الذين يواصلون النضال من أجل الحصول على حقوقهم؟
تقول طالقاني إنه من السهل جدا طرح النظريات عندما لا تكون الشخص الذي يواجه العنف والقمع والموت المحتمل، وهي تدرك أهمية العمل الذي يقوم به النشطاء، بمن فيهم منصور العمري ومازن درويش، ومفقودو دوما الأربعة (سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي)، وآخرون لا حصر لهم.
في نهاية المطاف، الطريقة الوحيدة التي نعرف من خلالها ما يحدث في سوريا وحول العالم من انتهاكات وفظائع هي العمل الذي يقوم به نشطاء حقوق الإنسان لتوثيق وجمع الأدلة وأخذ الشهادات.
في الوقت ذاته، تعتقد طالقاني أنه لا يوجد أي نظام أو مفهوم بمنأى عن النقد، وهي ترى ضرورة إعادة بناء منظومة حقوق الإنسان وإصلاح النظام وإعادة هيكلته وجعله أكثر فاعلية في إطار عالمي، على أن تأتي هذه التغييرات من النشطاء أنفسهم.
إن النظام الدولي الذي يحكمنا يعمل بنجاح في حالات معينة: على سبيل المثال، المحاكمات الأخيرة في ألمانيا لمن يُشتبه في ارتكابهم انتهاكات في سوريا، أو الحملات الدولية لإطلاق سراح المحتجزين. قد يبدو هذا الأمر في نظر البعض نوعا من المثالية، ولكن طالقاني تتبع خطى العديد من المؤلفين السوريين الذين تطعن أعمالهم في الاتفاقيات الدولية والقيود المفروضة على خطاب حقوق الإنسان، وتحاول أن تواكب في الآن ذاته موجة الطموح والأمل.
لهذا السبب، يعد كتاب شريعة طالقاني مهما للغاية، حيث يكشف أن أدب السجون السوري يعلمنا الكثير عن كيفية احتفاظ الضحايا بكرامتهم والتأثير على طريقة تفكيرنا في حقوق الإنسان وإعادة تصورها.
بالنسبة للباحثين في الأدب العربي، هناك العديد من التواريخ والقصص داخل وخارج أدب السجون في انتظار أن تُدرس وتُترجم وتُنشر للجمهور في أنحاء العالم. وفي مثل هذه الأوقات السياسية القاتمة على نطاق عالمي، يشجعنا تعامل طالقاني المبتكر والمنهجي والدقيق مع أدب السجون السوري وحقوق الإنسان على أن ننظر إلى الأمام بنظرة إصلاحية، ويساعدنا على فتح الآفاق وإعادة التفكير في حقوق الإنسان، والتأكيد على محورية “الإنسان” ضمن هذا الخطاب.
المصدر: ميدل إيست آي