على الرغم من الأوضاع الصعبة وغير المستقرة في سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار، إلا أن تصريحات الرئيس التركي أردوغان وأفعاله التي اشتملت على تغيير 3 محافظين للبنك المركزي خلال أقل من عامين، وإصراره الشديد على خفض سعر الفائدة، غير آبه بتأثير ذلك على سعر صرف العملة التي فقدت بالفعل أكثر من 142% من قيمتها خلال الـ 5 سنوات الماضية، تدفع البعض للاعتقاد بأن الحكومة التركية تستهدف خفض قيمة عملتها بطريقة متعمدة لتحفيز اقتصادها، كما حصل في النموذج الصيني، ولكن هل ذلك ما يحدث فعلًا؟ وهل هناك خفض ممنهج ومدروس من قبل السلطات؟
لماذا تفقد العملة قيمتها في تركيا؟
1- العجز في الميزان التجاري: كما يجب على الأسرة التي تنفق أكثر مما تكسب أن تقترض أو تبيع الأصول لتمويل احتياجاتها، يجب على البلد الذي يستورد من السلع والخدمات أكثر من صادراته الاقتراض من الأجانب أو بيع الأصول للأجانب لتمويل العجز التجاري.
وعلى العكس من ذلك، يجب على الدولة التي تصدر سلعًا وخدمات أكثر مما تستورد أن تستثمر الفائض، إما عن طريق إقراض الأجانب وإما عن طريق شراء الأصول منهم.
يمكننا تلخيص هذه العلاقة ببساطة أكثر بالقول إن الفائض التجاري يعني أن الدولة التي توفر أكثر من احتياجاتها، لتمويل استثماراتها في المصانع والمعدات والمشاريع التنموية، تستخدم الفائض في الادخار لتراكم المطالبات المالية على بقية العالم (بالاستثمار أو الإقراض).
وعلى العكس من ذلك، فإن العجز التجاري يعني أن الدولة لا تدخر ما يكفي لتمويل إنفاقها الاستثماري، ويجب أن تخفض صافي مطالباتها المالية في بقية العالم. وكما هو موضح في الرسم أعلاه، تعاني تركيا من عجز شبه مزمن في الميزان التجاري خلال الـ 20 سنة الماضية.
ما تأثير خفض سعر الليرة على الميزان التجاري؟
إذا توقع المستثمرون حدوث تغيير كبير في سعر الصرف، فسيحاولون بيع العملة التي من المتوقع أن تنخفض قيمتها وشراء العملة التي يتوقع أن ترتفع قيمتها، وهذا يعني تدفقًا أوليًّا -أي محتملًا- لرأس المال من بلد إلى آخر.
ويجب أن يكون ذلك مصحوبًا بتحول متزامن في الميزان التجاري، أو تثبيطه بالتغيرات في أسعار الأصول وأسعار الصرف، نظرًا إلى أن قرارات الإنفاق/ الادخار وأسعار السلع تتغير بشكل أبطأ بكثير من قرارات الاستثمار المالي وأسعار الأصول، حيث معظم التعديل يحدث عادة داخل الأسواق المالية، أي أن أسعار الأصول وأسعار الصرف تتكيف بحيث يتم تخفيف التدفق المحتمل لرأس المال المالي، وتظل التدفقات الرأسمالية الفعلية متسقة مع التدفقات التجارية.
بمعنى أبسط، المستثمر الذي يمتلك أسهمًا في شركة تركية، سيبيع أصوله في اللحظة التي يشعر فيها بأن سعر الليرة سينخفض قريبًا، وبالتالي يؤدي ذلك إلى انخفاض في أسعار الأصول المالية بشكل سريع، أما المواطن الذي يستخدم سيارته كل يوم للذهاب إلى عمله، فلن يؤثر انخفاض سعر العملة على سلوكه بشكل آني، وإنما في حال كان غلاء أسعار المحروقات الذي سينتج عن ذلك مستدامًا، حينها قد يؤدي ذلك إلى تحول في سلوك هذا المواطن الذي أضحت القوة الشرائية لراتبه أقل، وبالتالي إلى التقليل من استعمال سيارته واستخدام المواصلات العامة.
وفي نظام سعر الصرف الثابت، يقوم البنك المركزي بتعويض تدفقات رأس المال الخاص في عملية الحفاظ على ربط سعر الصرف، ويتم التعديل في أسعار الأصول الأخرى، عادةً أسعار الفائدة.
وفي نظام سعر الصرف العائم، كما هو الحال في تركيا، غالبًا ما يكون التعديل الرئيسي هو التغيير السريع في سعر الصرف الذي يخفف من قناعة المستثمر بأن مزيدًا من الحركة ستأتي، وبالتالي فإن تدفقات رأس المال -المحتملة والفعلية- هي المحدد الأساسي لتحركات أسعار الصرف على المدى القصير إلى المتوسط، ما يزيد أهمية التدفقات التجارية على المدى الطويل مع تعديل قرارات الإنفاق/ الادخار وأسعار السلع والخدمات للمواطنين.
2- عدم استقرار السياسة النقدية: لطالما كان الاقتصاديون حذرين من افتقار البنك للاستقلالية في السياسة النقدية بسبب تدخل أردوغان القوي لتوجيه البنك المركزي لإبقاء أسعار الفائدة منخفضة. هذا إلى جانب عوامل أخرى، بما في ذلك انخفاض احتياطات النقد الأجنبي ومستويات الديون المرتفعة، التي أدت إلى انخفاض العملة بشكل كبير على مرّ السنوات الخمسة الماضية، ففي أواخر عام 2017 كان الدولار تقريبًا يعادل 3.5 ليرة واليوم 8.6 ليرة.
رغبة أردوغان في إبقاء أسعار الفائدة منخفضة، تنبع من رأيه بأن أسعار الفائدة تسبب التضخم، بينما تجادل الغالبية العظمى من الاقتصاديين بأن الأمر على العكس من ذلك، وأن تركيا بحاجة ماسة إلى تشديد السياسة النقدية لتهدئة مستوى التضخم الحالي، البالغ أكثر من 17%، ودعم العملة. وهي نسبة مرتفعة وناتجة إلى حد كبير عن النمو المدفوع بالائتمان، وانخفاض قيمة العملات الأجنبية وارتفاع أسعار الطاقة العالمية.
لكي تتمكن تركيا من تخفيف ارتباط كلف إنتاجها بأسعار الصرف، يتوجب عليها الشروع بتنمية بدائلها المحلية للمواد الأساسية التي تستخدم في التصنيع والإنتاج.
3- الصناعة التركية تعتمد بشكل كبير على الواردات: يحدث جزء كبير من التجارة الدولية في المنتجات الوسيطة، المنتجات التي تستخدم كمدخلات في إنتاج سلع أخرى. وينبع الطلب على هذه المنتجات من قرارات العرض والطلب للمنتجات النهائية.
النفط هو مثال كلاسيكي لمدخلات مستخدمة على نطاق واسع، مع عدد قليل من البدائل التي يمكن تبنيها بسهولة، على الأقل في المدى القصير.
بمعنى آخر، يؤدي انخفاض سعر الليرة إلى زيادة كلفة موارد الطاقة المستخدمة في الإنتاج المحلي، طبعًا ذلك على فرضية أن أسعار النفط لن ترتفع عالميًّا، وهذا ليس هو الحال حاليًّا. كما يمكن تطبيق هذا المفهوم على الكثير من المواد الخام أو النصف مصنعة، التي تعتمد عليها الصناعات التركية.
وكلما توفرت بدائل محلية للسلع أو المواد المستوردة، كلما كان لخفض سعر العملة أثر إيجابي أكبر في تحسين الميزان التجاري، وذلك ليس هو الحال في تركيا حاليًّا. فعلى سبيل المثال، إيجاد مصادر طاقة بديلة للنفط يحتاج إلى الكثير من الموارد وأهمها الوقت، وهو ما يزيد من الضغط على الاقتصاد على الأقل على المدى القصير والمتوسط.
حلول منطقية
أمام القيادة السياسية قرارات مصيرية تتخذها، ولتختار بين نمو قصير الأمد محفَّز بأدوات السياسة النقدية، مثل أسعار الفائدة والإقراض والاقتراض، وبين تحويل انخفاض سعر صرف عملتها من أداة ضغط مستمرة على اقتصادها إلى نموذج تنمية مستدامة.
وطبعًا لذلك كلفة مرتفعة على المدى القصير، سواء كانت الكلفة سياسية أو اقتصادية، وذلك بكل بساطة لأن الوصول إلى هذه النتائج يتطلب عدة سنوات لتظهر بعد ذلك علامات الاقتصاد الصحي والقيادي، ويمكن تلخيص الوصفة لذلك بنقطتين أساسيتين:
1- إيجاد بدائل محلية: كما أوضحنا سابقًا، لكي تتمكن تركيا من تخفيف ارتباط كلف إنتاجها بأسعار الصرف، يتوجب عليها الشروع بتنمية بدائلها المحلية للمواد الأساسية التي تستخدم في التصنيع والإنتاج.
وينطبق ذلك على جميع الأصعدة أينما أمكن، قد يكون مثال موارد الطاقة مثالًا مهمًّا، لإيضاح ضرورة مضاعفة مساعي الحكومة التركية لإيجاد بدائل محلية، تحديدًا على مستوى الطاقة النظيفة التي بدأت جميع دول العالم المتقدمة في التحول إليها. ولكن ذلك، وبكل تأكيد، لن يتم بين ليلة وضحاها.
2- التحول إلى نموذج إنتاج عالي القيمة: لو علمنا أن إجمالي المنتجات ذات التكنولوجيا المرتفعة من الصادرات التركية يعادل ما نسبته 3%، سنعرف ببساطة كيف أن البلاد تحتاج إلى زيادة هذه النسبة بشكل كبير، لتتمكن من زيادة عوائدها وأرباحها من صادراتها.
ولتوضيح أهمية ذلك، كلما قلّت القيمة المضافة على المنتج النهائي، ستبقى أسعار المواد الخام والنصف مصنعة تلعب دورًا كبيرًا في زيادة الضغوط التضخمية، التي يضيفها انخفاض أسعار صرف الليرة.
بمعنى آخر، لو أخذنا مثالًا لسلع لا تحتوي على قيمة مضافة عالية، مثل صناعة الملبوسات، حيث تركيا تستورد الأقمشة من الهند والصين بالدولار وتبيعها في السوق المحلي، وتصدّرها للعالم كملبوسات جاهزة؛ كلما انخفض سعر الليرة زادت كلفة الإنتاج تباعًا (حيث ارتفعت كلفة الأقمشة وارتفعت كلفة موارد الطاقة).
وطالما لم تكن المنتجات التركية ذات علامات تجارية عالية القيمة، سيبقى أثر خفض سعر الصرف على المستهلك المحلي كبيرًا، حيث سيقل استهلاكه للملبوسات، وفي الوقت نفسه لن يرتفع هامش الربح من تصدير هذه المنتوجات.
ولكن ذلك لا ينطبق على المنتجات والخدمات ذات القيمة الأعلى، حيث لا تمثل المواد الخام والمستوردة إلا جزءًا صغيرًا من سعرها النهائي، وبالتالي يؤثر خفض سعر العملة المحلي بشكل إيجابي ومضاعف في جعلها أكثر تنافسية على المستوى العالمي.