تتصاعد وتيرة الخلاف بين المغرب وإسبانيا، وقد يترتب عنها أسوأ أزمة لاجئين تعرفها أوروبا هذا العام. أزمة أشعل شرارتها زعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي، الذي استقبلته مدريد قصد العلاج، وبينما احتجت الرباط وطالبت باعتقاله كمجرم حرب، تحججت الجارة الإسبانية بالدوافع الإنسانية.
رفض الاحتجاز
من المستشفى حيث كان يعالَج، استمع القضاء الإسباني إلى إبراهيم غالي عبر الفيديو، يوم الثلاثاء 1 يونيو/ حزيران الحالي، وذلك في قضيتين؛ الأولى تتعلق بارتكاب جرائم تعذيب في مخيمات تندوف، أما التهمة الثانية فهي ارتكاب إبادة جماعية، إلى جانب القتل والإرهاب والتعذيب والإخفاء القسري، وفق الوثيقة التي توصّل بها القضاء الإسباني، الذي رفض احتجازه احتياطيًّا بحجة أن الادعاء لم يقدم أي دليل يثبت التهم عليه.
عاد زعيم البوليساريو إلى الجزائر بعدما تحسنت صحته، وكان قد وصل في منتصف أبريل/ نيسان الماضي إلى إسبانيا عبر طائرة طبية بجواز دبلوماسي جزائري، قصد العلاج من مضاعفات كوفيد-19 في لوغرونيو الواقعة شمال البلاد، في حين لم تبدُ الرباط مسرورة بعد أن تسرب هذا النبأ عبر مجلة “جون أفريك” الفرنسية، فاندلعت الأزمة الدبلوماسية التي ما فتئت تتصاعد تباعًا.
هجرة جماعية غير مسبوقة
تصاعدت لهجة الحوار بين الجارتين، وبدا المغرب كمن يشهر ورقته الضاغطة في مجال الهجرة، فأغمض عينه عن مراقبة الحدود المشتركة مع سبتة الإسبانية، ما تسبب في هجرة جماعية يعد أفرادها بالآلاف، الذين وصلوا سباحة إلى هذه المدينة المحتلة، قبل أن يتم ترحيلهم من قبل السلطات الإسبانية، وبقي منهم قاصرون.
لا يمكن ترحيل القاصرين غير المصحوبين بأهاليهم، وذلك بموجب اتفاقية دبلن التي تؤطر كل ما له علاقة بالحماية الدولية في دول الاتحاد الأوروبي، فـ”المصلحة العليا” للطفل هي مبدأ أساسي في أوروبا.
يبقى القاصر قاصرًا قبل أن يكون مهاجرًا، وهو غير مطالب بالدفاع عن حقه في الإقامة واللجوء، لمجرد كونه طفلًا يمنح حق البقاء والحماية ويصبح غير قابل للترحيل.
وتقول الحكومة الإسبانية إن 1500 طفل كانوا من بين الذين دخلوا إلى سبتة، وهناك المئات الذين ظلوا فيها، حيث تقوم منظمات الإغاثة بمحاولة جمع الأطفال بعائلاتهم على الجانب الآخر من السياج المحصن.
وأصدر العاهل المغربي محمد السادس تعليمات مشددة إلى وزارتي الداخلية والخارجية، من أجل إيجاد حل نهائي للمهاجرين غير القانونيين من القاصرين المتواجدين في دول أوروبية.
وتكشف شهادات من مهاجرين غير نظاميين تم ترحيلهم، أنهم تعرضوا لسوء المعاملة من قبل الحرس الإسباني، من الشتم إلى الضرب والتجويع، كما يحكي مهاجر بسخط وألم: “كنت أرجو من الشرطي أن يسمح لي بالذهاب لقضاء حاجتي، لكنه صرخ في وجهي: ابقَ حيث أنت وافعلها على نفسك”.
ثقة منهارة ومواقف عدائية
الأزمة الإسبانية المغربية ليست مرتبطة بالهجرة، وفقًا لبيان لوزارة الخارجية المغربية، ردًّا على تصريحات رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، الذي اعتبر الخلافات السياسية بين البلدين ليست مبررًا لفتح الحدود أمام المهاجرين غير الشرعيين، متهمًا الرباط بـ”توظيف ورقة الهجرة بسبب خلافات حول السياسات الخارجية”، في إشارته إلى موقف مدريد من نزاع الصحراء.
بينما تؤكد المغرب أن أصل الأزمة مع إسبانيا ليس ملف إبراهيم غالي، بل انهيار الثقة بين البلدين والمواقف العدائية لمدريد بشأن ملف الصحراء.
كما شددت الدبلوماسية المغربية على أن الأزمة الثنائية ليست مرتبطة بمسألة الهجرة، موضحة على أنه “لا ينبغي أن يكون ذكر الهجرة ذريعة لصرف الانتباه عن الأسباب الحقيقية للأزمة الثنائية”.
موسم قوارب الموت
عن الأزمة الراهنة بين مدريد والرباط، توقعت صحيفة “الإندبندنت” أن أوروبا مهددة بأسوأ أزمة لاجئين خلال العام الحالي، بعدما تدفق حوالي 8 آلاف مغربي معظمهم من الشباب، ضمنهم أطفال، عبر الأسلاك الشائكة التي تفصل المغرب عن مدينة سبتة، التي يسيطر عليها التاج الإسباني.
خلال الصيف المقبل، من غير المستبعد أن يرتفع تدفق المهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا، عبر بحر البوران (البحران بالعربية) الذي يمثل حدودًا بين المغرب وإسبانيا.
وبعدما تخلت عن تعاونها في قضايا الهجرة وحماية الحدود المشتركة من جهتها، تتجه الرباط إلى تجميد تعاونها مع مدريد في مجال مكافحة الجماعات الإرهابية، التي تشكل تهديدًا للأمن الدولي.
لم يكن أحد الطرفين، بحكم القضايا الحساسة التي تحكم العلاقة الحذرة بين كل من المغرب وإسبانيا، يتجه إلى التصعيد علنًا ضد الآخر. حتى لو اندلعت الأزمة، لم تكن لتخرج عن مربعها الصامت، لكن ما نشهده اليوم تجاوز شدة لهجة الحوار إلى التلويح بإيقاف التعاون الثنائي.
قد يُفتح يومًا ما “ملف الجيبين”
يعتبر المغرب الصحراء جزءًا من ترابه الوطني، باعتبار أن هذه المنطقة المطلة على المحيط الأطلسي كانت خاضعة للاستعمار الإسباني لغاية عام 1975، وتسعى جبهة البوليساريو إلى انفصال المنطقة لإقامة دولة أسمتها “الجمهورية الصحراوية”، بينما يتشبث المغرب بمقترح الحكم الذاتي لدى الأمم المتحدة.
ويطالب المغرب باسترجاع مدينتَي سبتة ومليلية، شأنهما كشأن الجزر المحتلة من طرف إسبانيا في البحر المتوسط؛ الجزر الجعفرية وجزيرة باديس وصخرة الحسيمة (أو جزيرة النكور)، فيما يلتزم الطرفان بعدم دخول جزيرة ليلى الواقعة كذلك ضمن الحدود البحرية للمغرب، وفي المحيط الأطلسي يُعتبر أرخبيل الكناري منطقة ذات حكم ذاتي تحت سيادة التاج الإسباني.
في 22 ديسمبر/ كانون الأول 2020، استدعت إسبانيا سفيرة المغرب لدى مدريد، كريمة بنيعيش، بعدما تحدث رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني، في تصريح متلفز، عن إمكانية أن “يُفتح ملف سبتة ومليلية في يوم ما”، واحتجت الحكومة الإسبانية، مخبرة سفيرة المغرب بأن “الحكومة تتوقع من جميع شركائها احترام سيادة ووحدة أراضي إسبانيا”.
المال ليس خارج العلاقة
لم يكن الجانب الاقتصادي، يومًا ما، خارج مسار علاقة إسبانيا بالجارة الجنوبية، باعتبار أن المغرب أول زبون لإسبانيا من خارج الاتحاد الأوروبي. والعكس كذلك، فمنذ عام 2012 لا تزال إسبانيا أول مستورد للمنتجات المغربية، المواد الكهربائية والملابس في المقام الأول، في حين يقتني المغرب من الجارة الشمالية المحروقات ومواد التشحيم والمكونات الميكانيكية.
علاوة على ذلك، يعد المغرب أول مستقطب للاستثمارات الإسبانية في القارة الإفريقية، التي تتركز على 4 قطاعات أساسية، أولها الصناعة متبوعة بقطاع العقار ثم السياحة والبنوك.
في عام 2018 استقبل المغرب 700 ألف سائح إسباني، ما يعني أنهم في المركز الثاني بعد الفرنسيين، كما سافر إلى إسبانيا 900 ألف سائح مغربي. ويشكل المغاربة أكبر جالية في إسبانيا، حيث يقترب عددهم من مليون شخص، من أصل 5 ملايين مغترب مغربي.