“المعرفة قوة” كما يرى الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون، ولا شك أن المعرفة هي من صنعت جموعًا – متعددة الخلفيات والمنابع – تدافع عن حق الفلسطينيين في أرضهم، معززة بقوة العلم والمقاومة ضد الاحتلال.
ولم تكن القضية الفلسطينية لتعود للواجهة بعد أحداث دامية في القدس المحتلة وقطاع غزة المحاصر، وما تبعها من تفاعل في معظم المدن الفلسطينية، لولا إصرار أهالي حي الشيخ جراح على الدفاع عن بيوتهم وصمودهم فيها، الأمر الذي أثار نقاشًا مستجدًا عن لزوم إحياء مفاهيم ثقافية أساسية عن المكان والزمان للقضية.
وهنا تبرز أسئلة: هل التفاعل مع الأحداث عاطفي وآني؟ وما مقدار الوعي المعرفي لدى الشعوب بالقضية الفلسطينية؟ وهل البناء الثقافي متزامن مع المعرفة بالأحداث اليومية؟ وماذا عن درجة الاهتمام بعد هدوء الأحداث النسبي؟
المعرفة كنقطة انطلاق
يرى رئيس قسم الأبحاث والمعلومات في مؤسسة القدس الدولية، هشام يعقوب، أن المعركة مع الاحتلال الإسرائيلي تبدأ من نقطة المعرفة، وعند نقطة البداية تلك تلتقي روايتان: الأولى يروجها الاحتلال الإسرائيلي، وهي مبنية على أساطير ومزاعم متناقضة وباطلة، والثانية رواية أهل الأرض والحق في فلسطين المحتلة، وهي مستمدة من الحقائق التاريخية والدينية والقانونية.
ويضيف يعقوب في حديث لـ”نون بوست”: “البناء المعرفي أساسي لفهم ما يجري في فلسطين، لا سيما التطورات في حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى والحرب على غزة ومخططات التهويد والاستيطان وغير ذلك، وكل انسحاب من طرف الفلسطينيين ومن يناصرهم من ميدان المعركة المعرفية والمعلوماتية، يعني تلقائيًا تقدمًا لرواية الاحتلال”.
الفلسطينيون يقدمون روايتهم المعرفية للعالم
يفصل يعقوب في مثال قضية حي الشيخ جراح التي قدم بها الفلسطينيون روايتهم المعرفية للعالم، فحازوا تأييدًا عابرًا للبلاد، فقد “تحولت قضية هذا الحي المهدد أهله بالتهجير إلى قضية رأي عام دولية، وتهاوت ادعاءات المستوطنين ومؤسسات الاحتلال ومحاكمه أمام المنطق الفلسطيني، المبني على معرفة واعية بالتاريخ والقانون وسنن التدافع مع الاحتلال”.
وبالتوازي مع المثال السابق، ما حصل في قضية اقتحام 28 رمضان الذي كان ينوي المستوطنون تنفيذه، بعد ترويج أكاذيب تتعلق بما يسمى حق اليهود بالصلاة العلنية في المسجد الأقصى.
يقول يعقوب: “سقطت هذه الأكاذيب أمام الحق التاريخي والديني المكفول وفق مفهوم الوضع القائم تاريخيًا وقانونيًا في الأقصى، ولا شك في أن كلمة المقاومة كانت فاصلة لجهة إسناد المنطق الفلسطيني العادل في القضيتين المذكورتين”.
بناء متابع واعٍ
يرى يعقوب أن السبيل لبناء وعي ينقل المتابعين للأحداث، من دائرة المتابعين العاديين إلى دائرة المتابعين الواعين بأبعاد الأحداث والمتفاعلين معها، هو عبر مواكبة مستمرة للأحداث وعدم الاكتفاء بالأخبار المنشورة، بل السعي إلى قراءة التحليلات لها والاهتمام بالآراء المختلفة بشأنها، ثم محاولة التحليل والربط والتقدير والاستشراف.
رؤية نقدية وقراءة بين السطور
كما يدعو يعقوب لضرورة الوقوف عند تحليلات المختصين من ذوي العمق المعرفي لفهم أبعاد الأحداث، بالإضافة إلى ذلك لا بد للساعين إلى تحصيل هذا الفهم العميق من اطلاع واسع وثقافة عميقة أفقيًا وعموديًا ورؤية نقدية تلاحق الحدث وتقرأ بين سطوره وتستشرف أبعاده وفق مؤشرات يجمعها القارئ ويعطيها وزنها في التحليل والتقدير”.
لا فصل بين التاريخ والحاضر والمستقبل
يشير يعقوب إلى أن البعض يتفاعل مع القضية الفلسطينية وفق عاطفة موسمية مؤقتة لا تتطور إلى فعل متواصل مؤثر”، ويرجئ ذلك إلى أسباب كثيرة من ضمنها الانفصال عن التاريخ، وعدم إدراك خلفيات الأحداث وغياب القدرة على تحويل الأفكار والعواطف إلى برامج عملية مستمرة وخلاقة.
كما يقول: “لا فصل بين التاريخ والحاضر والمستقبل، ولا يمكن التعامل مع أحد في هذه الأزمنة دون الآخر، خاصة في حالة الصراع في فلسطين المحتلة، كل ما يجري راهنًا في فلسطين المحتلة هو استدعاء لتاريخ زوره الاحتلال الإسرائيلي وأراد فرضه على الفلسطينيين، وسعى إلى إقناع العالم كله بزيفه”.
ثقافة المعرفة هي ثقافة الانتصار التي تسري في الأمة، وهناك مبشرات توضح وجود نهضة توعوية مثل المرابطات في الأقصى
ويؤكد يعقوب أن من لا يعرف التاريخ، لا يستطيع التعامل مع الحاضر الذي نشهد فيه كل هذه التطورات والمخططات الإسرائيلية، ويحضرني هنا قول مهم هو: “من يملك الرواية يملك الأرض”.
المعرفة العميقة راسخة في قلوب المؤمنين
من جانب آخر، يعود الباحث في شؤون القدس، الدكتور جمال عمرو، بكلامه إلى عهد الصحابة والسابقين الذين حققوا انتصارات للمسلمين، رغم أنهم كانوا أقل عددًا وعدةً، والسبب يعود إلى تجذر الإعداد المعرفي الذي جعل النصر حليفهم، ورسوخ المفاهيم العقدية وإيمانهم بها.
ويقارن عمرو في حديث لـ”نون بوست” بين المسلمين الأوائل والأمم العربية في الوقت الراهن، التي تملك العدة (الأسلحة) لكنها تفتقد الإعداد للإنسان الذي أساسه الإيمان، والإيمان لا يأتي إلا بالمعرفة، ويصف الإعداد المعرفي بأنه “سطحي جدًا، وما يقومون به مجرد شعارات”.
ويؤكد عمرو أن ثقافة المعرفة هي ثقافة الانتصار التي تسري في الأمة، وهناك مبشرات توضح وجود نهضة توعوية مثل المرابطات في الأقصى، ومن هم في المعارك والثابتين في الثغور، كما أن ثقافة الثبات عميقة وراسخة لديهم، لا يبحثون عن شهرة على منصات الإعلام.
نشطاء التواصل الاجتماعي ينقلون الحقيقة للغرب
لكن التساؤل هو: ألم تكن الشهرة على منصات الإعلام الاجتماعي سبيلًا لمعرفة الغرب بما يحدث من حقائق في فلسطين المحتلة؟
يؤكد الخبير في الإعلام الرقمي عبد اللطيف نجم، مساهمة التغطيات المباشرة على منصات التواصل الاجتماعي، في البناء المعرفي وتصحيح المفاهيم المتعلقة بالأحداث، بفعل الضغط الإعلامي من بعض النجوم والمؤثرين الذي اخترق المجتمع الغربي برواية جديدة غير الرواية الإسرائيلية، التي كانت تروى لهم فقط.
ويضيف في حديث لـ”نون بوست”: “عدد كبير من القنوات الغربية اضطرت لأول مرة أن تستضيف ناشطين فلسطينيين للاستماع إلى الشق المخفي لسنوات، ما أدى إلى انضمام جمهور جديد مناصر للقضية”.
ويؤكد نجم أهمية استمرارية عمل المؤثرين ولو بعد هدوء الأحداث الأخيرة، لأن الجمهور متقلب وضخ الأخبار عالٍ، فالذي يتفاعل اليوم قد ينقلب غدًا كما يصف نجم.
مأسسة عمل المؤثرين وتطويره
كما يدعو عبد اللطيف إلى مأسسة عمل المؤثرين وتنظيمه، وأن تتبناه جهة معينة يكون لديها خطة واضحة لبناء محتوى خاص يدعم القضية، ولاستضافة مؤثرين أجانب بشكل مستمر باللغات المختلفة.
بالإضافة إلى ذلك، التوعية بالقضية الفلسطينية بحاجة لإنتاج إعلامي عصري يواكب المنصات الرقمية، ويراعي متطلبات الجيل والجمهور الجديد بالجاذبية والحيوية.
ويشير نجم إلى أن النشطاء بحاجة إلى التطوير من خلال التأهيل والتدريب ودعم أدواتهم، وأيضًا الانفتاح على الجمهور الأجنبي عن طريق التواصل مع الخبراء والمؤثرين والمختصين في كل المجالات، أهمها القانوني والتاريخي.
نموذج “ملتقى القدس الثقافي”
لم يكن بناء الوعي بالقضية الفلسطينية بعيدًا عن العمل المؤسسي الشبابي، ومثال ذلك المؤسسة الأردنية “ملتقى القدس الثقافي”، التي جاءت إثر إغفال البعد المعرفي والغياب الأكاديمي.
كما أوضح المدير التنفيذي للملتقى، أحمد الشيوخي، أن المعرفة المنتشرة عن بيت المقدس أضحت معرفةً مشوهةً، لا تنتمي إلى ثقافتنا العربية والإسلامية الأصيلة، ولا تساعد في فهم أكثر وعيًا وعمقًا لحالة القدس الفريدة تحت الاحتلال، ما يؤصل لحالة اللاتحرر واللاعمل وفقدان البوصلة.
ويضيف “وإذا ما أدركنا أن الوعي هو باعث السلوك، نفهم حينها أن الوعي هو خط الدفاع الأول والأخير عن القدس والمسجد الأقصى”.
نشر المعارف المقدسية وعصرنتها
ويبين الشيوخي في حديثه لـ”نون بوست” أن “ملتقى القدس الثقافي” يعنى بالبناء المنهجي المتراكم حول القدس المحتلة والمسجد الأقصى، وهو التعبير عن الوعي بحقيقة القدس المحتلة والمسجد الأقصى ومركزيتها في الحضارة الإسلامية، وقدر التحديات التي يجب مواجهتها في سبيل تحريرها.
وأيضًا “نعني بالبناء المنهجي المتراكم الربط بين القيم المعنوية والماديات، والوحي والعلم والوجود، والذاكرة التاريخية والواقع في سبيل تحرير المدينة المقدسة ومسجدها الأسير”.
ويضيف الشيوخي أن مهمة الملتقى بالدرجة الأولى، هي إنتاج ونشر وتطوير وعصرنة معارف مقدسية عميقة الدلالة بسيطة الشكل، ويرتكز في ذلك إلى أسس وإستراتيجيات واضحة.
وانطلاقًا من إيمان “ملتقى القدس الثقافي” بضرورة “أكدمة” القضية، قال الشيوخي إنه جعل أولى مهام الملتقى وضع برنامج تدريبي في علوم بيت المقدس، يتضمن عددًا من المستويات المعرفية، تتدرج من المستوى التأسيسي العام إلى الأكاديمي المتخصص.
كما يشير الشيوخي، استطاع “ملتقى القدس الثقافي” في الـ15 سنة الفائتة أن يؤسس لحالة ثقافية مقدسية، ويكاد يكون المصدر المعرفي الرئيس لأغلب المبادرات والمؤسسات الشبابية الثقافية التي انطلقت في الأردن بعد عام 2011، وارتكزت على نشر طلاب “دورات علوم بيت المقدس” هذه العلوم من خلال منابر مختلفة، مثل وردتنا القدس ولجان القدس في الجامعات المختلفة وجدي كنعان ومعلومة مقدسية ومرابطو القدس وشباب من أجل القدس، إلى جانب رفد المؤسسات العديدة بكوادر مؤهلة ومدربة لرفع سوية العمل لأجل القدس في الأردن، ونقابة المهندسين نموذجًا.
بالمحصلة، تفرض الأحداث الساخنة نفسها على وسائل الإعلام ويشنف الرأي العام آذانه للسماع وتكون حالة التفاعل أكثر نشاطًا من الأيام الساكنة، لكن ما يجب فعله في تلك الأيام الهادئة هو إثراء الخزان المعرفي لدى الشباب وتعزيز لمناعة الثقافية لديهم، ليكونوا أكثر استعدادًا للدفاع عن القضية وتقديمها للجماهير العالمية في اللحظة التي تكون تلك الجماهير مستعدة فيها للسماع وتلقي المعلومات من مصادر أصحاب القضية.