في مقابلة له قبل عدة سنوات، قال رجل الأعمال الباكستاني مرتضى لاخاني إنه يعمل بجد، ولا مشكلة لدية في أن “تتسخ يده” في العمل.
وقال الناطق باسمه لاحقًا إنه كان يقصد أنه يعمل بيده في صناعة النفط، كتشبيه لعمله الدؤوب المتواضع. لكن الأحداث المتعاقبة أظهرت أن الرجل كان يعني أمرًا آخر لا يتحرج منه: تجارة النفط غير المشروعة حيثما وجدت في العالم.
مع صدام حسين: النفط مقابل الغذاء والدواء
كانت بدايات مرتضى لاخاني بمساعدة عائلته في تجارة السلع الأساسية، قبل أن يتحول نحو النفط في الثمانينيات، لكن فرصته الحقيقية بدأت بعد ذلك خلال التسعينيات، وتحديدًا مع العراق في ظل الحصار الاقتصادي.
كان لاخاني يعمل كوكيل لشركة Glencore plc، أكبر تاجر سلع في العالم. تلقى لاخاني، الذي وصف نفسه بأنه “رجل شركة غلينكور في بغداد”، أجرًا شهريًّا قدره 5 آلاف دولار، لمساعدة الشركة في شراء الخام العراقي.
في ذلك الوقت، كان بإمكان العراق بيع نفطه الخام فقط، عبر نظام يعرَف باسم برنامج النفط مقابل الغذاء، الذي تديره الأمم المتحدة.
يقضي البرنامج بأن العراق يطلب من الأمم المتحدة ما يحتاجه من المواد، ثم يدفع مقابل تلك المواد نفطًا خامًا. كان الهدف من وراء ذلك ضمان عدم حصول العراق على العملة الصعبة، التي قد تخرجه من الأزمة الاقتصادية الخانقة فيستعيد بذلك البلد عافيته.
ولكن مع ازدهار الطلب على النفط، وجد الرئيس العراقي وقتها صدام حسين ثغرة في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، حيث طلب من التجار دفع رسوم إضافية لحكومته خارج نظام الأمم المتحدة.
كان لاخاني وسيطًا في العملية، لم يجرِ التسليم بطريقة رسمية لأن ذلك كان ممنوعًا على العراق، لكن الغرض الرئيسي تم بحصول العراق على مبالغ من العملة الصعبة مقابل بيع النفط بطريقة غير مشروعة.
وجد تحقيق لاحق في برنامج النفط مقابل الغذاء، أن لاخاني دفع ما يزيد قليلًا عن مليون دولار كرسوم إضافية، مقابل النفط الخام الذي اشترته شركة غلينكور في نهاية المطاف، على الرغم من إصدار موظفي الأمم المتحدة تحذيرات للتجار بأن دفع الرسوم الإضافية غير قانوني.
قدم لاخاني بنفسه إيصالات لمحققي الأمم المتحدة، بالمال الذي تلقاه من شركة غلينكور -ما يصل إلى 415 ألف دولار في إحدى المناسبات-، ثم نقله عبر سويسرا قبل تسليمه إلى البعثة الدبلوماسية العراقية في جنيف.
كان لاخاني وسيطًا في العملية، ولم يجرِ التسليم بطريقة رسمية لأن ذلك كان ممنوعًا على العراق، لكن الغرض الرئيسي تم بحصول العراق على مبالغ من العملة الصعبة مقابل بيع النفط بطريقة غير مشروعة، وكان الوسيط في ذلك هو لاخاني، الذي سيلعب الدور مجددًا في العراق، لكن في كردستان هذه المرة.
إلى كردستان: تحت جنح الفوضى
الموصل، 14 يونيو/ حزيران 2014.
بدأت القوات العراقية عملية انسحاب فوضوية من الموصل، بعد هجوم لداعش من الجهة الغربية للمدينة.
في الأيام اللاحقة، شهدت مدن كثيرة عمليات فرار فوضوية، ترك الجيش خلالها المدن فارغة، وكانت إحدى هذه المدن: كركوك. استغلت قوات البيشمركة الفرصة لتحقيق حلم طال انتظاره: السيطرة على نفط كركوك، للحصول على مورد مالي يمكن معه الانتقال لتحقيق حلم الدولة.
كانت حكومة الإقليم تواجه مشكلة، هي أن الحكومة العراقية فرضت قيودًا قانونية على بيع النفط خارج إطار الحكومة المركزية، التي كان يقودها رئيس الوزراء حيدر العبادي. لم تستطع حكومة كردستان التصرف بالنفط، وهنا جاء دور أحد الأصدقاء القدامى: مرتضى لاخاني.
في تحقيق أجرته وكالة “بلومبيرغ“، تقول الوكالة إن لاخاني كان يستخدم حساب شركته في بنك ميد اللبناني، بصفته غرفة مقاصة للثروة النفطية الجديدة في كردستان.
“كانت علاقة لاخاني بالحكومة الكردية استثنائية بالنسبة إلى فرد عادي. فقد تعامل من خلال شركته IMMS مع المدفوعات المالية من شركة “روسنفت” الروسية، وتجار النفط مثل “فيتول كروب” و”ترافيكورا كروب”. كما قام بسداد مدفوعات شركات أجنبية تدين لها حكومة إقليم كردستان بأموال، وقام بتحويل مئات الملايين من الدولارات إلى وزارة المالية الكردية نفسها”، تقول “بلومبيرغ”.
بهذه الطريقة أصبح لاخاني هو الوسيط الفعلي بين الطرفين، دون أن يبدو أن هناك أي شيء له علاقة بتجارة النفط.
فعلى الورق: هناك تعاملات تجارية بينه وبين شركات النفط الروسية، وأخرى مماثلة مع إقليم كردستان، مسجلة بأوراق منفصلة.
على أرض الواقع: تمّت عملية التبادل بصورة كاملة، وحصلت جميع الأطراف على مستحقاتها، ضمنها رجل الأعمال الباكستاني الأصل.
أدى الفشل في الحصول على الأموال من لاخاني إلى مشاكل لحكومة الإقليم نفسها، حيث لم تكن الحكومة قادرة على دفع رواتب الموظفين فيها.
لم يتضح بعد حجم الأموال التي كان يجنيها لاخاني من التعامل مع التدفقات النقدية في كردستان، وأدى استخدام حسابات بنك ميد أيضًا إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية في المنطقة، لأن الأزمة المصرفية في لبنان تركت بعض الأموال في حساب شركة لاخاني مجمدة.
قالت ألكسندرا غيليس، المستشارة في معهد إدارة الموارد الطبيعية: “تظل تجارة النفط سرية في العديد من البلدان، ما يخلق مساحة لخلافات محتملة”، وأضافت: “تقع على عاتق الشركات التجارية والحكومات المعنية مسؤولية أن تكون أكثر شفافية، وأن تتبع الإجراءات القانونية الواجبة”.
من جانب كردستان، من غير المعلوم على وجه الدقة حجم الأموال التي جناها الإقليم من تلك العملية، لكن تقارير أشارت إلى أن حكومة إقليم كردستان باعت منذ عام 2015، ما قيمته 9 مليارات برميل من نفط محافظة كركوك، حيث عمدت حكومة إقليم كردستان، وبعد سيطرتها عام 2014 على الآبار النفطية بمحافظة كركوك، إلى ربط حقول النفط الثلاث الرئيسية (هافانا، بابا كركر، باي حسن) بأنبوب نفط الإقليم الواصل الى ميناء جيهان التركي، عبر شركة كار النفطية المملوكة للحزب الديمقراطي، حيث قامت ببيع كميات كبيرة من النفط المستخرج من هذه المحافظة.
وأشارت التقارير أيضًا إلى أن إقليم كردستان باع من نفطه 4 مليارات برميل منذ عام 2015، و9 مليارات برميل من نفط محافظة كركوك.
غير المتوقع يحصل دائمًا
في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2017، أودعت شركة لاخاني IMMS مليار دولار أميركي في وديعة لأجل 3 سنوات لدى بنك ميد، حيث سيكون معدل الفائدة وفق ذلك 10% -أو 100 مليون دولار في السنة-، تدفع في حساب منفصل.
بدأت الأمور تسوء عندما ضربت أزمة مصرفية لبنان أواخر العام الماضي. فمع نقص الأموال في جميع أنحاء النظام المالي اللبناني، حاولت IMMS سحب مليار دولار، لكن بنك ميد منعها.
جراء ذلك قامت شركة لاخاني بإجراءات قانونية ضد بنك ميد، وبعد فترة وجيزة أنهى البنك علاقته التجارية معها، وألغى عدة حسابات.
وعندما حاول لاخاني استرداد أمواله بمقاضاة بنك ميد، فتح نافذة على دوره في كردستان. تظهر الأوراق القانونية كيف امتدت أعمال لاخاني عبر صناعة النفط العالمية، وفقًا لدفتر الحساب الذي يغطي الفترة بين مارس/ آذار ومايو/ أيار 2019، حيث تدفق ما يزيد قليلًا عن 2.8 مليار دولار إلى الحساب في بنك ميد.
كان أكبر مصدر منفرد للأموال خلال تلك الفترة هو فيتول غروب، من خلال شركة أركام الفرعية المملوكة بالكامل لها، والتي دفعت في غضون 3 أشهر 443 مليون دولار في حساب IMMS، وفقًا لحسابات وكالة “بلومبيرغ” بناءً على إيداعات المحكمة.
أدى الفشل في الحصول على الأموال من لاخاني إلى مشاكل لحكومة الإقليم نفسها، حيث لم تكن الحكومة قادرة على دفع رواتب الموظفين فيها. كما إن الخلافات السياسية بين الحكومة المركزية وحكومة أربيل فاقمت من المشكلة.
في النهاية، تراجع دور لاخاني في الإقليم، ووجدت أربيل منافذ أخرى تغطي به احتياجاتها، للحصول على الأموال مقابل بيع النفط بطريقة غير مشروعة.
تعتبر قصة لاخاني واحدة من القصص الكلاسيكية بين أثرياء الحرب في الشرق الأوسط. كان النفط الذي تبيعه كردستان مسروقًا بالفعل من العراق، ولا تعود عائداته إلى الحكومة العراقية في بغداد، بل لا تذهب بصورة مباشرة إلى المواطنين والموظفين في حكومة الإقليم، خاصة أن الحكومة كانت تعاني من أزمة في دفع الرواتب، رغم وجود هذه الصفقات جميعها.
تلخّص تجربة رجل الأعمال الباكستاني الذي يحمل الجنسية الكندية، حجم الفساد الذي يغطيه غبار المعارك التي يدفع المدنيون ثمنها دمًا، ويقبض تجار الحروب ثمنها مالًا.