المتأمل في التاريخ السياسي الحديث في تونس (ويمكن دومًا التعميم عربيًّا)، يرى أن العمل السياسي تقدم دومًا عبر آلية الاستيلاء السياسي على الأفكار وتملُّكها واتخاذها قاعدة لإقصاء المختلفين.
فعبر تاريخ دولة الاستقلال، كانت هناك عمليات متتابعة من الاستيلاء التجاري على أصول الأفكار المؤسسة، أعني الاستحواذ السياسي واحتكار التكلم باسمها، ومن ثمة إقصاء كل من لا يتبع المستولي.
هذه العملية الاستحواذية تكشف من ناحية وجود مشتركات سياسية، ولكنها تكشف أيضًا أن المشتركات لم ترتقِ إلى عنصر موحد جامع، تبنى عليه الديمقراطية، وذلك لقصور نظر سياسي عند النخب المتصدرة للشأن العام، يعود بالأساس لطبيعة تكوينها غير الديمقراطي، ولكسلها الفكري، وقد أخّر هذا الأمر بناء الديمقراطية وأجّل التمتع ببنائها والبناء عليها.
الزعيم الاستحواذي
استولى الزعيم على فكرة الاستقلال وقيادة حرب التحرير، ثم استولى على البناء، واستعمل كل هذه الرمزيات في ترسيخ مكانته في السلطة وأقصى كل معارضيه، حتى صار هو الدولة، فغابت كل الأسماء وانعدم التاريخ إلا تاريخ الزعيم.
وظل العالم لا يعرف مِن تونس إلا وجه الزعيم، وابتسامته المنتصرة. لم تكن هناك دولة كان هناك الزعيم وحده، حتى ظنّ عوام الناس في الداخل أن المطر ينزل بأذنه. وسيمر ربع قرن كامل على هذا الحال، حتى يبدأ هؤلاء العوام ينتجون نصًّا ساخرًا من وهم الزعيم.
منعَ ذلك تبلور أفكار المشاركة في إدارة الشأن العام، وحصر القرار بيد فرد، ما منع بناء الديمقراطية.
خيبة نخبة الاستقلال التي أقصاها الزعيم وطمسَ تاريخها، ستفسح الطريق لميلاد نخب أخرى خارج سردية الزعيم، لكن الإيمان بدور زعيم وحيد سيستمر على شكل معتقد جذري في بقية مكونات المشهد السياسي، وهي رؤية مشوَّهة للعالم ملخصها لا يمكن إنجاز شيء من دون زعيم فذ.
وحتى اللحظة تعيش الكتل السياسية من الداخل وضعًا مشابهًا لحزب الدستور (البورقيبي).
اليسار هو الحداثي الوحيد
لاحقًا، وعند اكتشاف الشبيبة المتعلمة الأفكار الثورية والتقدمية، حين كانت موضة عالمية تتوسع بنجمة تشي جيفارا، استولى اليسار على فكرة العدالة الاجتماعية من السلطة ومن المعارضين الجدد، وكانوا قلة ليبرالية ذات منشأ أرستقراطي، وطُرد منها كل من ليس يساريًّا أمميًّا، حتى القوميين القائلين بالاشتراكية العربية، وكانت موضة شرقية تبحث عن مواءمة مستحيلة بين العرب والماركسية.
الساحة الثقافية التونسية تعيش حتى اللحظة حالة من التكفير الحداثي، يصل تطرفها إلى قطع أرزاق من لم يؤمن مع اليسار بحداثته الخاصة.
وعندما سيخفت اهتمامه بالمسألة الاجتماعية، نتيجة مواجهة فاشلة مع الزعيم الأوحد ونظامه، سيولي وجهته إلى الحرب الثقافية، وسيستولي على فكرة الحداثة بصفتها قلب العمل الثقافي الثوري، ويحتكر تمثيلها ويقضي على كل من ليس حداثيًّا على طريقته.
كانت لديه صيغة واحدة للحداثة، وكل ما عداها باطل أو تحريفي أو فكر يميني رجعي. تحول الأمر إلى ما سميناه في كتابة سابقة بإكليريوس الحداثة، وهناك بوابات دخول ضمن الطائفة الحداثية، أولها أن يعدم المرء من فكره كل احتمال لوجود حداثة مغايرة.
والساحة الثقافية التونسية تعيش حتى اللحظة حالة من التكفير الحداثي، يصل تطرفها إلى قطع أرزاق من لم يؤمن مع اليسار بحداثته الخاصة، ويكفي أن نتأمل منطقة نفوذ/ تحرك اليسار الحداثي حول وزارة الثقافة، لنرى المستفيدين ونحسب الضحايا.
الإسلاميون يستولون على الإسلام
عندما ظهر الإسلاميون، استولوا على الإسلام وتكلموا كما لو أنهم المؤمنون الوحيدون، ووضعوا خلف الخطاب التربوي والوعظ قائمةً بأفكار كافرة، وعملوا على أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اختصاصًا أو منطقة نفوذ.
وعندما اكتشفوا أن الدين سابق عليهم، وأن هناك مؤمنين آخرين، بدؤوا في تعديل الخطاب، فاكتشفوا الخطاب الاجتماعي وفكرة الحداثة والديمقراطية السياسية، وعملوا على أخذ قسطهم من كل ذلك.
وهنا اختلطت مسائل كثيرة. فقد حارب النظام واليسار احتكار الإسلاميين للإسلام، وصار هناك تكفير للتكفير، وعندما عدلوا موقفهم من النقابات وأداورها افي محاولة للاستحواذ على حديث العدالة الاجتماعية، دخلوا منطقة نفوذ اليسار فطردهم منها، فصاروا على جبهتين يدفعون عنهم غائلة السلطة محتكرة الدين، وغائلة اليسار محتكر العمل النقابي/ الاجتماعي
فلما تبلور حديث الديمقراطية، خففوا حديث الوعظ وتقدموا للمشاركة، ففتحت عليهم الجبهة الثالثة: هم أعداء الديمقراطية، وحوكموا على النوايا لا على الأفعال، التي كانت متطابقة مع بقية أفعال الديمقراطيين، مثل طلب العمل الحزبي القانوني وإصدار الصحافة والمشاركة في الفعاليات المدنية.
وعندما تبلور خطاب الحداثة، خاصة في مفتتح القرن الـ 21، وُضعوا خارجه باعتبارهم يمينًا دينيًّا معاديًا للتقدم، وكانوا في كل هذه المراحل يتنقلون بين سجون النظام ويواجهون آلته الدعائية التي استولي عليها اليسار وتيار الحداثة عامة، ومنعهم من التعبير عن ذواتهم.
نظن أن وقتًا آخر سينفق قبل دحض بقية المسلّمات الرائجة عن حداثة الحداثي، وعن عروبة العروبي، وعن إيمان النخبة السياسية عامة بالديمقراطية. حينها سندخل الديمقراطية.
لقد كرست فكرة نهائية إن الإسلامي معادٍ لمدنية الدولة، مهما فعل من أفعال مدنية بما فيها تغيير سحنته واسمه. ورسخت الآلة الدعائية المسيسة أفكارًا وحوّلتها إلى مسلّمات غير قابلة للمراجعة. فلا يمكن أن يكون الفرد الإسلامي حداثيًّا أو ديمقراطيًّا، ولا يمكن أن يصطف مع الفقراء ويدافع عنهم.
مناخ إقصائي لا يراجع نفسه
تولد الديمقراطية التونسية في هذا المناخ الإقصائي، لذلك تتعرض إلى عوائق من داخلها قبل العوائق المعادية لها من الخارج.
ومن وسائل الترسيخ الطرق المتواصل على المسلّمات/ المغالطات، وعدم السماح بقلب السؤال: هل كان الزعيم الأوحد زعيمًا فعلًا؟ هل الحداثي التونسي حداثي فعلًا وتنويري فعلًا؟ وهل الديمقراطي التونسي ديمقراطي فعلًا؟ وهل الإسلامي التونسي هو المؤمن الوحيد؟
لقد كان يجب مرور وقت طويل نسبيًّا ليُطعن في شرعية الزعيم النضالية، ويعاد توزيع الحقوق التاريخية على أصحابها الذين حملوا الكثير من وزر معركة التحرير، وكان هذا نتيجة لضغط مستمر على مراجعة مسلّمة الزعيم.
ونعاين أن الضغوط السياسية، وبعضها بوسائل أمنية، قد جعلت الإسلاميين يعدّلون دومًا من مواقفهم وأفكارهم، ونرى أن بقاء اليسار وتيار الحداثة عمومًا خارج كل الضغوطات التي يسلطها هو على غيره، تركه حتى الآن في منطقة مريحة، وهذا الاستراحة الفكرية ستؤدي إلى انحساره إذ تؤجّل كل مراجعة نقدية.
ونظن أن وقتًا آخر سينفق قبل دحض بقية المسلّمات الرائجة عن حداثة الحداثي، وعن عروبة العروبي، وعن إيمان النخبة السياسية عامة بالديمقراطية. حينها سندخل الديمقراطية.